بين النقد الأدبـي الأكاديمي والنقد الأدبـي الصحفي
مدخـل إلى نقـد النقـد "جامعة الجزائر2" أنموذجا
ليس هدف هذا البحث الوقوف موقف متحيز ـ عند إجراء نوع من المقارنة بين النقد الأدبي الأكاديمي كمنتج يخص الجامعة الجزائرية، باعتباره تجمع تقديري في إطار من التميّز بالعلم وجدية البحث عن سواه من النقد (أي النقد الأدبي المعتمد على كفاءة وتجربة الإعلامي بخاصة في الصحافة المكتوبة الجزائرية) ــ ينم عن كشف حاجة في نفس يعقوب، كتصفية حسابات مع هذا الطرف أو ذاك، لأن المقال سيكشف عن نتائج قد توْهم بأن صاحبها يُضمر نية مبيتة. بل الغاية والهدف هو الوقوف بالنقد على المنجز النقدي الأدبي الأكاديمي بين قوسين، أكاديميا إن جاز التعبير، بالتماس أداة المنهج كذلك ؛ وهو نُثار متفرق من المناهج (التاريخي ـ بالتحديد سياق حياة الناقد ـ والمنهج اللغوي المعياري و نظرية اكتساب اللغة لتشومشكي language aquisition device) مطعما بالتحّلي بالروح العلمية.
ونقد النقد هو البحث في معرفة المعرفة، إذا كانت السرود بكافة ضروبها بحث في المعرفة فإن المناهج النقدية هي بحث في معرفة المعرفة، قد يتجلى للباحث/ الطالب مدى درجة التلاحم في بنيانها إن أتيحت له درجة من الحسية النقدية ودرجة متقدمة من الروح العلمية تسمح له من اكتشاف أيديولوجية الناقد / الأستاذ الجامعي من عدمها، والذي يمدّه بتلك المناهج عن طريق الإعلام السيّار أو يُلّقنها له على مدرجات الجامعة، إذن نقد النقد هو نقد لنقد آخر وكلاهما مستكنِه أداة المنهج النقدي الخاص، حسب جابر عصفور « نقــــد النقــد قــول آخــر في النقــد، یــدور حــــول مراجعـــة القــــول النقـــدي ذاتــــه و فحصــه، و أعني مراجعة مصطلحــــات النقـــد و بنیته التفسیــریة و أدواتـــه الإجرائیة» [1]
غير أننا نجد أنفسنا مضطرين لإجراء تلك المقارنة ونحن بصدد الوقوف على نوعية وتراكمية ذلك النقد الأدبي الأكاديمي الجزائري، إذا جاز لنا أن نطلق عليه نقدا جزائريا معاصرا لسببين رئيسيين ؛ السبب الأول هو أنه منتوج نقدي مصنّف في خانة البحوث التي لا تتعدى صفحاتها الخمسة وعشرون صفحة، في الغالب الأعم وليس كمصنّفات، فالمصنّفات تكاد تُقتصر على رسائل الدكتوراه والماجستير لعدد معين من أساتذة مخضرمين، يعني أن الأستاذ يكتفي بطبع ماجستيره ودكتوراته ونشر بحوث قصيرة في مجلة القسم ولا يشغل نفسه بتأليف كتباﹰ جديدة، كما هو الشأن الغالبية العظمى لقسم اللغة العربية وآدابها في ملحقة ابن عكنون على سبيل المثال لا الحصر؛ مصنفات أصبحت تشكّل مرجع تاريخي حتى لا أقول جبل تاريخي، حتى أمام مؤلفات الأساتذة الجدد باعتبارها ألّفت منذ عقود وأُكتُشف ما تحمله من عيوب مثلها مثل مصادر التراث في التاريخين الفقهي والبلاغي القابلة للنقد والتصويب، والتي تمت قراءتها مجددا و وُجدت الثغرات المنهجية التي تكتنفها، غير أنها مازالت تحظى بالتصنيف الخاص وأثر السبق في المكتبات الجامعية منها: «الرواية العربية الجزائرية بين الواقعية والالتزام» لمحمد مصايف و« في الأدب الجزائري الحديث» لعمر بن قينة و« إتجاهات الرواية العربية في الجزائر بحث في الأصول الجمالية و التاريخية للرواية الجزائرية » لواسيني لعرج و« دراسات في الأدب الجزائري الحديث» لأبو القاسم سعد الله..إلخ. والسبب الثاني هو أن نسبة ليست بالقليلة من تلك البحوث النقدية الأكاديمية المنشورة في مجلاّت و رقية فصلية، أو سنوية وأخرى إلكترونية، تصدرها معاهد وكليات اللغة العربية وآدابها في كامل ربوع الوطن تعود لأساتذة عرب مقيمين بالجزائر، أو يتم إرسالها كي تنشر كمساهمات عربية في المجلاّت الأكادمية الجزائرية المعروفة، كمجلّتا اللغة والأدب والآداب واللغات التي تصدرهما جامعة الجزائر2، ومجلّة المخبر التي تصدرها جامعة محمد خيضر ببسكرة، ومجلة الآداب التي تصدرها جامعة قسنطينة، و مجلّة الجيل للدراسات الأدبية والفكرية التي يصدرها مجموعة من الباحثين الجزائريين بالشراكة في طرابلس/ لبنان، و مجلّة دراسات أدبية، وهي مجلة أكاديمية نخبوية يصدرها مركز البصيرة في الجزائر.. وغيرها.
في هذه العجالة اخـترنا العدد 15 و 29 من مجلة "اللغة والأدب" السنوية التي تعتبر المنبر الأول لأساتذة قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر2، أي منبرهم لممارسة النقد الأدبي وتصنّف أبحاثهم بفضلها في خانة الأكاديمية، دون الخروج به إلى الساحة الإعلامية التي توسّعت كثيرا في السنوات الأخيرة وعجّت بالأركان والملاحق الأدبية كأي دولة من دول المشرق العربي، خذ مصر مثلاﹰ، تساهم نخبتها الأدبية الأكاديمية دون توقف في صحف ومجلاّت سواء كانت قومية أو حزبية، كالأهرام واليوم السابع، الوقائع المصرية، الجمهورية، الوفد والوطن، روز اليوسف، أخبار الأدب.. ، بمقالات وأعمدة نيّرة، منذ مطلع القرن شهدت سجالات:
محمود أمين العالم وطه حسين وزكي نجيب محمود، ثم شكري عياد، عبد القادر القط و جابر عصفور، عبد المنعم تليمة وعز الدين اسماعيل وقاسم عبده قاسم مع غيرهم من النقاد "الاعلاميين" الغير الأكاديميين، كالعقاد ونعيمة وسيد قطب ومحمد حسنين هيكل و رجاء النقاش، وصولاﹰ إلى أبو المعاطي أبو النجا و فاروق شوشة وحياة أبو النصر وغيرهم كثيرون، فرسّخت كتاباتهم النقدية الأدبية و الثقافية للعقلية النقدية السجالية المفتوحة مع الطرف الآخر بدون عقدة التفاوت في المستوى، وتعدّته إلى المشاركة في صناعة الحياة السياسية مع مختلف المراحل حتى يومنا والدليل أمامنا: تجاوز محنة سياسية وأمنية عويصة بدون خسائر جسيمة عكس الذي حدث مع الجزائر، ذلك لأن المجتمع المدني المصري أنضج ونخبته المثقفة أقوى تأثيرا في الحياة المدنية وفي شتى المجالات ؛ لا يهم في ذلك الدرجة العلمية بل المهم القيمة الفنية لِما يكتب من نقد، لذلك من السياسين من يرى أن محمد مرسي خلعه الناقد المتكاتف مع الأكاديمي ولم يخلعه العسكر، « الحل يتمثل في المجتمع المدني الفاعل القادر على تفكيك ثقافة الخوف، وتفكيك ما يتعولم منها وما يرتبط به من إرهاب تعديل ومعادلة الخوف بين الحاكم والمحكوم ورد المخاوف إلى مصادرها الاجتماعية الأولى» [2] فلماذا لم يحصل ذلك مع أكاديميينا النقاد الجزائريين أيضا كأبو القاسم سعد الله و مالك مرتاض وعبد الله ركيبي وصولاﹰ إلى عبد القادر بوزيدة و علي ملاحي ومحمد شنوفي..إلخ؟
سيقول قائل أنهم موجودين و يمارسون في "الشروق" و" الخبر" والقناة الأولى.. أقول بلى، لكن هؤلاء كأمين زاوي(منتدى الشروق الخميسي- برنامج حبر وأوراق) و واسيني الأعرج (عمود الخبر: دياسبورا) قد ساروا منذ ردح في نهج الروائيين الأكاديميين وليس في مسار النقاد، ناهيك أنهم اشتغلوا في بداياتهم كصحفيين، فهم لا يخضعون الظواهر المستجدة في الأدب الروائي والشعري للمنهج النقدي المحكم، بل تكاد معظم مقالاتهم مقتصرة على تحليل إعلامي سطحي لراوية فلان أو التعريف بالشاعر علاّن، أو عرض كتاب أو جرد شتات أخبار الرواية والأدب المتعالق بالسياسي الظرفي من هنا وهناك، وهناك من النقاد الأكاديميون يمارسون فعلاﹰ نقدا علمياﹰ في الشروق و وسائل الإعلام الأخرى لكنهم يعدّون على أصابع اليد، وينحون منحى واسيني وأمين زاوي كالنقاد الأكاديميين: عبد القادر هني، مخلوف عامر، أحمد منّور و وحيد بن بوعزيز مثلاﹰ وحبيب مونسي واليامين تومي من جامعات أخرى، أما القائمة الطويلة من أساتذة قسم اللغة العربية وآدابها المعروفين أو المخضرمين أن صحّ القول كعبد الرزاق عبيد وخميسي حميدي و محمد العيد رتيمة، ومصطفى فاسي، عبد القادر بوزيدة، وعثمان بدري وخولة الابراهيمي وعبد القادر القط ومصطفى حركات.. فإن رؤية عمود لهم على صفحات الخبر أو الشروق يعد ضرباﹰ من ضروب الخيال طبعاﹰ ستكون حجتهم هي "الانشغال" وهي حجة باطلة كلما أجرينا المقارنة بينهم وبين أقرانهم أكاديميو الديار المصرية وحتى السودانية مثلاﹰ
السبب المباشر في رأينا واضح بحكم المقارنة مع نظرائهم المشارقة وجوهوه هو في لا مطواعية لسانهم للغة العربية، أي لسان الفصحى لديهم يستعصي عليه ترجمة الأفكار بخفة ورشاقة وذلك ما يسبب لهم إحراج أمام منافسيهم هؤلاء وأولئك: نظرائهم وأقرانهم النقاد الإعلاميين، قد يكون إبراهيم رماني وعبد الوهاب شعلال وشوار الخير و قادة بن عمار و سعيد خطيبي و عز الدين ميهوبي و ساعد وحفيظ بن جلولي و عبد القادر بن سالم ومحمد درود و عمر بوديبة و حميد عبد القادر، غيض من فيض من ما نعني ﺑ هؤلاء وأولئك، ممّن يحملون شهادة الليسانس بل ممكن البكالوريا فقط بيد أنهم متحكمين في اللغة كتابةﹰ وتلفظاﹰ تحكم العقاد فيها.
وذلك ليس عيباﹰ يخصهم وحدهم، فالغيض والقصور اتجاه العربية تاريخي يشمل كامل منطقة المغرب العربي، غير أن هذا لا ينفي كونهم نقاد ومنظّرين ولاشك مقتدرين، أولاﹰ بحكم التخصص، وثانياﹰ يحكم درجاتهم العلمية وما يقدمونه من بحوث/ نقود منهجية في مجلاّتهم الجامعية المحكّمة تلك، وهم يتفرعون إلى فرعين رئيسيين: أكاديميون علمانيون وماركسيون وأكاديميون إسلاميون، أما الأكاديميون العلمانيون سواءا راوئيون أو نقاداﹰ فهم الأكثر غبناﹰ اتجاه اللغة العربية والأكاديميون الإسلاميون سواءا روائيون أم نقادا فهم أغنيائها والعكس بالعكس عندما ننتقل من الشكل (التحكم في اللغة) إلى المضمون (الفكر الحداثي المتحرر من سجن التراث والمتفاعل مع الآخر) في هذا السياق يقول الناقد حميد عبد القادر:« تلك الوصفات الجاهزة التي حاولت أن تصنع للجزائري هوية سياسية ثابتة، معزولة عن الواقع، فارغة ومجوفة، لذلك فالجزائري كان يتعامل مع اللغة بنوع من الحذر الذي يجعله يعيش هنا في الهناك، والهناك في هنا، وضع معقد لم يُمكِّن هذا الإنسان من الإحساس بذاته بشكل سليم، فهو في حالة فصام وشرخ رهيب، حالة من الغرابة والتعدد» [3]
لذلك وُجد من المنتسبين إلى هذا الميدان/التخصص من طلاب وأساتذة، حتماﹰ من يميلون إلى طرف دون آخر، أما أنا / كاتب هذا المقال فمن أشد الناس مقتا ﹰـــ وليس نقدا فقط للمضامين الفكرية التي يحملها الإسلاميون، لكن عندما يتعلق الأمر بالتحكم باللغة العربية بلاغةﹰ وفصاحةﹰ وابداعاﹰ أدبيا وفكريا بها فإني أميل غير نادم إلى الإسلاميين، بل وأناصر أدبهم شعرا ونثرا في الجزائر و أرجِّحُه أمام الّزمرة العلمانية المبدعة بين قوسين، التي تبهدل العربية أكثر ما يبهدلها تلميذ أو مراهق في المشرق، « فالمجتمع الجزائري، يُعد مجتمعا إثنيا متعددا وهجينا، لم يتمخض داخل تجربة اللغة العربية بشكل تاريخي سلس، بل كانت العربية في هذا التاريخ وضعا طارئا قلقًا» [4]
فيما يلي عينة تطبيقية في نقد النقد على هذه النظرية (أي فرق التحكم في اللغة العربية في ميدان التخصص(لأدب والنقد) بين الإسلاميين والعلمانيين الجزائريين من جهة و الأكاديميين والصحفيين من جهة أخرى) مأخوذ من عددين من مجلة " اللغة والأدب " الأكاديمية التي يصدرها قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة الجزائر2.
نقـد "النقـد الأكاديمي" لعينة مأخوذة من مجلة "اللغة والأدب" العـدد 29 و العــدد15.
1 ـ مـن الجانـب اللغوي والتطبيـقـي
يتضح من ملاحظة عامة للجدول أدناه وهو فهرس المجلة المذكورة أعلاه، فالقراءة الأولية له تظهر:
لولاﹰ: القصور التاريخي المزمن اتجاه اللغة العربية، في قول الباحثة وريدة أغادير على سبيل المثال لا الحصر ما يعضد طرحي: «وفي الحقيقة الآصرة قوية بين العِلمين: النحو والصرف..» [5] بينما الآصرة الرابطة التي تعكس مودة لا تستعمل مع غير العاقل لكن الباحثة رأت غير ذلك، يذكرني قولها بقول عالم جزائري كبير في الاقتصاد ــ وهو معذور درس في الغربـ: « الاقتصاد الوطني ترعرع في..» طبعاﹰ الباحثة لو أنها سُألت عن خطأها ستقول أن ذلك من محض التعبير المجازي لتتملّص.
في كلمة العدد 29 نجد المحرر يتساءل في قوله: « يتساءل الكثيرون من المتتبعين عن أسباب تراجع الشعر في المشهد الثقافي الغربي وعن أسباب إكتساح الرواية صدارة هذا المنجز الأدبي. هل هذه الظاهرة ذات صبغة بنيوية أم أن الخارجي هو من يتحكم في زمامها ومراميها؟» [6]
ونحن نتساءل بدورنا أي المتتبعين يقصد المحرر؟ هناك سماسرة النشر منهم من لا يعرف القراءة والكتابة أصلاﹰ لكنهم يدخلون بحسب هذا التعبير ضمن متتبعي الحركة الشعرية. ترك المحرّر الحبل على الغارب نتيجة عدم القدرة على الصياغة المضبوطة لأفكاره فصياغته فضفاضة إن صح التعبير، فاتحاﹰ الباب لقراءتين مختلفتين، الأولى هو أن الظاهرة المقصودة هي إكتساح الرواية للمنجز الأدبي ويعود الأمر حسبه لبنية النص الروائي أو للعوامل الخارجية المنتجة للنص الروائي، كالمؤلف والسياق الاجتماعي. القراءة الثانية هو أن الظاهرة المقصودة هي تراجع الشعر، لأن بنية الرواية تختلف عن بنية القصيدة الشعرية وإن كانت العوامل الخارجية المؤثرة في إنتاج النص الشعري والروائي تبقى نفسها.
ثانياﹰ: نتيجة عدم إستفاء شرط التحكم الجيد في اللغة لا يألوا المتخصص وما بالك بالدارس جهداﹰ لمحاولة تطويعها بل سيُغض الطرف عن التلاعب بالمصطلحات بالرغم من أن بعضها ـ الغير معرّبة والغير مترجمة ــ واضحة المعاني وضوح الشمس في واضحة النهار. كقول الباحثة نفسها: المنهاج [7] عوض البرنامج التربوي التعليمي. شتّان ما تعنيه الكلمة وما يصبو إليه بحث الباحثة.
ثالثاﹰ: أحصينا في هذا العدد من مجلة اللغة والأدب ما تصل نسبته إلى الستين بالمئة بحوث نظرية نسخ حرفي للدرس النظري (أنظر في مقالات العدد أسفله)، مساكين هم الروائيين والشعراء الذين يدرّسون في نفس القسم كأمين زاوي ومحمد ساري وفاتح علاق و واسيني الأعرج كل نصف عام يصدرون عملاﹰ يسارع النقاد الأكاديمين المغربيين ـ المغرب الأقصىــ إلى دراسته باستقصاء أحدث المناهج النقدية خارجين بدراسات أقل ما يقال عنها أنها تولّد المعاني والمضامين الفكرية المستجدة وتستجليها من صميم المنهج وليس العكس، متوصلين إلى حقائق ونتائج مبهرة تخص راهن الرواية و الشّعر الجزائريين بخاصة ما تعلق بالتحوّل في مضامين خطاباتهما ودلالاتهما الفكرية في العشرية الأخيرة. بينما نظرائهم الجزائريون ينتهجون سياسة ملء الفراغ بنسخ الدرس النظري والإفاضة فيه، سواء إما التعرّض لمناطق الظّل المُستعصية على فهم الطلبة في الوحدة الأدبية كنظرية الأدب أو تحليل الخطاب أو الأدب المقارن، و إمّا عدم القدرة على تجاوز الدوران في الحلقة المفرغة، بالاستمرار في التنظير للمناهج الكبرى التي يعتريها غموض كالسيميائية والسوسيو نقد و سوسيولوجيا الأدب و كأنها مناهج جديدة وقدرها في أن تبقى جديدة بينما! هي في الحقيقة أصبحت قديمة في بعض الدول كمصر و المغرب نتيجة للقابيلية للتطبيق، أما المناهج الأحدث كالنقد الثقافي والقراءة والتأويل و تعدد الأصوات و نظرية التناص أصبحت من أهداف الباحثين الجزائرين بخاصة الذين يحضرون دكتوراة LMD، لكن بغير تقيد صارم ناهيك عن التكرار المادة الأدبية المعنية بالنقد وتكرار المفاهيميم والاصطلحات الغامضة وكل ذلك إنما ينم عن النشر لأجل النشر و سد الفراغ، و هناك من النقاد من تخصصوا في نقدهم الأكاديمي في ترجمة مقالات بعينها تتبع التخصص كعبد القادر بوزيدة و خولة طالب الابراهيمي، هذين الأستاذين بالتحديد درست عندهما وكثيرا ما شدَّ إنتباهي صعوبة مطواعية لسانهما للعربية الفصحى بسلاسة لأنهما من مواليد فترة الاستعمار، لا شك أنهما درسا أول ما درسا الفرنسية لأنهما من مواليد العاصمة، لا أعتقد أنهما ولج كُتابا قبل دخول المدرسة الفرنسية وكما نعلم أن اللغة تُطبع في ذهن الطفل كما تُطبع الحروف على ورقة بيضاء، وإذا ما وجدت عربيتهما المكان قد شُغل بعد ما انطبعت في ذهنيهما الفرنسية خرجا إلينا معها بتلكم الحال كما تقول به نظرية اكتساب اللغة لتشومشكي language aquisition device. وفي مقال بوزيدة ما يؤكد طرحي إذ يقول في بحث حول فلسفة اللغة والمبدأ الحواري عند باختين عدد 15 من مجلة "اللغة والأدب": «..هي قوانين محايثة وخصوصية. وهي، على عكس القوانين الأيديولوجية (المرتبطة بالعمليات المعرفية والابداع الفني..)، لا ترتّد إلى الوعي الفردي..» [8] كلمة ترتد هنا تقف عائق أمام فهم الطالب لمعنى المحايثة النصية، فإذا كان الباحث يقصد الارتداد فحري به القول ترتد من الوعي الفردي، وإذا كان يقصد تُرَد فإن الرّد غير الإرتداد.
وهناك منهم من يسعى سعيه لإلباس العمل الأدبي معطف المنهج ومُقاسا عليه مَقاساﹰ يحيّر الألباب. فالأستاذ الناقد عبد القادر بوزيدة في مقال له < فلسفة اللغة والمبدأ الحواري عند باختين> [9] بمجلة "اللغة والأدب" العدد 15، يخصص حوالي 11 صفحة لجرد تفاصيل علاقة النظرية الحوارية لباختين بالثنائية اللسانية الديسوسيرية لغة/كلام مستفيضا في العرض والتعريض للمحطات التاريخية المحيطة بولادة النظرية ونشأتها، ويُشكّل نهايات حروف كلمات المقال مخافة أن يُخطئ في الإلقاء لأن المقال مُعد ليلقى مداخلة في ندوة، ثم تنشر جميع المداخلات في عدد خاص بالمجلة المذكورة، وكما نعلم أن أهل المغرب العربي كُلفاء يهمهم أمر اللغة العربية جدا عكس المشارقة، فعوض تسكين نهايات الكلمات يسعون لإظهار قدراتهم بتحريك النهايات فيجانبون في أحايين كثيرة الصواب.
في آخر البحث يعرج على التطبيقي فيكتفي من رواية بن هدوقة التي تعد 102 صفحة بفقرة واحدة وهي التي وجد فيها ما ساق وأفاض حول الحوارية و اللسانيات، بين سنكرونية اللغة ونزعتها ودياكرونية الكلام ونزعته ومنشأ حوارية باختين، إذ يقول: «و لا بد قبل إنهاء هذه المداخلة من تقديم بعض الأمثلة التي تجسد الحوارية في الخطاب. وقد كنت أنوي الاشتغال على بعض النصوص الروائية الطويلة مثل روايات الطاهر وطار "الحوات والقصر" و "الزلزال" الخ.. وتحليل التعدد الصوتي واللغوي فيها وتسخير الكاتب أحياناﹰ كثيرة لغة الآخرين لخدمة نوياه الخاصة. لكن ضيق المقام جعلني اكتفي ببعض النصوص القصيرة مثل هذا النص المأخوذ من رواية ريح الحنوب لبن هدوﭭة » [10]، فهو وجد في الأخير، لا شك أنه بحث أخيرا ليجد ما يطابق المنهج الذي لا مانع من أن يختم به ال11 صفحة من التحليل النظري. أليس الأحرى على الناقد قراءة الرواية أولا ثم تحديد المنهج وليس العكس؟
ولعلّ السؤال المحيّر هو لماذا لا يضبط أساتذة قسم اللغة العربية جامعة الجزائر2 أنفسهم؟ ما داموا يتحججون بضيق الوقت ؛ قسم يعهد له التدريس فقط، وقسم الإشراف فقط، والمسيِّر لا يكلف بغير التسيير حتى تتفرغ كل فئة للكتابة. تقسيم العمل من شأنه الحفاظ على الروح العلمية للأستاذ الباحث و الناقد الأكاديمي على السواء: درجت أو سارت في الآونة الأخيرة على نحو مقلق بين نقادنا الأكاديميين المخضرمين عادة نقدية سيّئة أن صح التعبير، هي قراءة القراءة حجتهم ضيق الإنشغال وتجنب عناء المشقة ما يجعل الجيل الجديد طلبة كانوا أو أساتذة يحذون حذوهم، حيث ألفينا جابر عصفور وزمرته في مصر الأدب والثقافة يقرأون التراث البلاغي والنقدي، و زمرة نصر أبو زيد يقرأون التراث الديني بينما يكتفي باحثون نحن بقراءة تلك القراءات! كما أن هناك ما يقال حول النزاهة العلمية في الاشراف على مذكرات التخرج عندنا، غير أنّ أسوأها على الإطلاق هي تلك التي تجمع بين مشرفة تتسلح كذلك بأنوثتها نعم بأنوثتها في موقع لايجوز فيه التسلح بغير سلاح الإلمام بالمادة المعرفية، أمام طالب باحث همُهه طموح البحث وفق مقتضيات الروح العلمية، أي وفق المناقشة والمجادلة لاغير، لكن يحدث وأن تُعرّي تلك المناقشة والمجادلة الموضوعية بغير قصد مستوى المشرفة المعرفي و نزاهتها فتتهمه بعدم للباقة والأدب! وهذه قمة تعاسة الروح العلمية في نظري. [11]
رابعاﹰ: فقر نوعي في تخصصي الدراسات التراثية والدراسات/القراءات النقدية للأعمال الأدبية في جانبها اللغوي أي اللساني وليس البياني البلاغي في صفوف الأكاديميين الجزائريين، فهُم على كثرتهم، المجلاّت الأكاديمية بعد ستين سنة إستقلال لم تقدر على ملء المساحة الشاغرة بأكاديميها فاستعانت ولجأت إلى النقاد والبحاثين العرب، كما فعلت المنظومة التربية والجامعية خلال سنوات الاستقلال الأولى، قد تصل نسبتهم إلى ثلاثين بالمئة أو أكثر حسب القضية اللغوية والأدبية المدروستين طبعاﹰ حجتهم التفاعل العربي العربي وتبادل الخبرات والأفكار والأراء. في أبحاث العدد 29 ما يثبت قولنا.
ـــ أبـحاث العــدد 29 من مـجـلة اللغـة والأدب/جامـعة الجـزائـر2
إشكالية تعليم النحو، وريدة أغادير
تطور النظرية اللغوية من "سوسير" إلى "جاكبسون"، عماد غنوم أغلاط وارثي اللغة العربية من متعلميها في بريطانيا بين ازدواجية اللسان وثنائية اللغة، منتصر فايز الحمد
المقاربة النصية في الكتاب المدرسي، رشيدة آيت عبد السلام
مفاهيم لسانية عند "الشيخ محمد الخضر حسين الجزائري" – قراءة استكشافية لفكره النحوي، سعاد معمر شاوش
التزمين الخطابي في لهجات منطقة عسير- دراسة صوتية، فهد بن سعيد آل مثيب القحطاني
المصطلح النقدي وإشكالية التفاعل مع النظرية الوافدة، نسيبة العرفي شعرية الانزياح في النص الصوفي، خناتة ابن هاشم
الصيغة السردية في القصص القرآني- قصة نبي الله موسى أنموذجا – دراسة تحليلية، إسماعيل إبراهيم فاضل وهيثم أحمد حسين
المرأة ودرة الغواص والبحر في الشعر العربي القديم، عمر برداوي آراء العقاد النقدية في الشعر، حورية عروي
رهان السرد وإنتاج الدلالة في رواية "كولونيل الزبربر"، عبد القادر فيدوح
"ألف ليلة وليلة" في روايات واسيني الأعرج، زهيرة بولفوس الرواية بين خطاب الفلسفة وتشكيل المتخيل – قراءة لتحولات الشخصية في الرواية "عندما بكى نيتشه"، سليمة عذراوي
بلاغة الأنساق والانسجام في قصص السعيد بوطاجين، ليلى مزواغ بشرية الآلهة الأسطورية، حورية بوشريخة جماليات الشعر النسوي الشعبي الجزائري "البوقالة أنموذجا"، نعيمة العقيرب
إستراتيجيتا الحذف والإضافة بين صعوبات الترجمة وذاتية المترجم وايديولوجيته، مريم بن لقدر
أبرز المحطات التاريخية والأدبية في نشأة الأدب الإفريقي الحديث، مونة عبد الله بشريف [12]
من هؤلاء الباحثين:
الباحث عماد غنوم وهو من لبنان/طرابلس
والباحث منتصر فايز الحمد من قطر ومقاله طويل: 46 صفحة أخذ سدس العدد.
والباحث فهد بن سعيد المثيب آل القحطاني من السعودية.
والباحثان إسماعيل إبراهيم فاضل وهيثم أحمد حسين من العراق.
2 ــ من الجانـب الأيديولـوجي
يقول الأستاذ الناقد عبد القادر بوزيدة في مقال له < فلسفة اللغة والمبدأ الحواري عند باختين> العدد 15 من مجلة "اللغة والأدب": « ولابد قبل إنهاء هذه المداخلة من تقديم بعض الأمثلة التي تجسد الحوارية في الخطاب. وقد كنت أنوي الاشتغال على بعض النصوص الروائية الطويلة مثل روايات الطاهر وطار " الحوات والقصر" و"الزلزال" الخ.. وتحليل التعدد الصوتي واللغوي فيها وتسخير الكاتب أحيانا كثيرة لغة الآخرين لخدمة نوياه الخاصة. لكن ضيق المقام جعلني اكتفي ببعض النصوص القصيرة مثل هذا النص المأخوذ من رواية ريح الحنوب لبن هدوﭭة » [13] وهو يقصد هنا بتجسيد الحوارية في الخطاب التطبيق الذي اشتغل عليه وهو مقالات نقدية لمدير الخبر الأسبوعي أنذاك (2001) الأستاذ عبد العزيز بوباكير فيها ملامح النظرية الحوارية مسألة “تعدد اللغات”، وهي الركيزة الأساسة في تحقق الحوارية؛ حيث الشخصية تتحدث حسب انتمائها الاجتماعي ومستواها الثقافي، من دون تحيز، مستقلة عن صوت الراوي و الكاتب، وتبنى بوباكير هذه النظرية لنقد قصيدة للشاعر أبو جرة سلطاني ثم الرد على نقده بنفسه حسب ذكر عبد القادر بوزيدة. لكن كيف يسخّر الكاتب بوباكير لغة الآخرين لخدمة نواياه الخاصة مع خصمه السياسي؟ وهو يفتقر إلى المعرفة العميقة بتخصص اللغة، نستشف من هذا الكلام إيديولوجية دكتاتورية للناقد تشبه أيديولوجية القذافي، المستعيرة لخطاب الآخرين حوله ورده عليهم (بأنهم ديكتاتوريون وأن شعبهم سيثور عليهم)، بل بالعكس فالحوارية تُضفي مساحة للرأي و تقلّص من إيديولوجية الفكر الواحد التي تضطلع به المنولوجية/ سرد السيرة الذاتية إلى أبعد الحدود، ماعدا في حالة تقمّص الكاتب لأحد شخصياته ضمن تلك الحوارية حسب جيرار جينيت [14]، و تحسب حينئذ هذه التقنية للكاتب شطارة وحذق فني.
أما عبد الحميد بن هدوقة رحمه الله فكان روائي اشتراكي نقدي، منتقد للسلطة وهذا ما تجلى في روايتي "الجازية والدراويش" و"غدا يوم جديد" حين يجعل الدراويش/ الاسلاميين والسلطة /الشرطي في خانة واحدة، ومنتقدا بالضرورة من يتخندق في فلكهما كالطاهر وطار في تلك السنوات من الثمانينيات على الأقل، وكان الأخير يتملّقهما كليهما بأيديولوجية الأدب الملتزم كعادته ــ أحادية الصوت السردي في رواياته ــ ويلتقي بها (شخصية برهما مع شخصية الطالبة الجامعية جميلة) في رواية « العشق والموت في الزمن الحراشي» يتفق برهما مع جميلة على الدفاع عن "مكتسبات الثورة" ومنها الثورة الزراعية ضد البورجوازية الصاعدة، فنال رضى السلطة على إثرها وعيّن مديرا للإذاعة الوطنية، أما ابن هدوقة فهو من المثقفين القلائل للأسف الذين حاولوا الوقوف على الجرح قبل فوات الأوان فهمشوا، ولعل الناقد بوزيدة لم يدور في خلده ما جرّته أيديولوجية الإقصاء من آلام على البلاد والعباد لأنه ينتمي لمؤسسة واجبها الطاعة «هناك محاولات من الفلاسفة والمفكرين ومن فئات اجتماعية وحركات دينية عبر التاريخ كانت تطفو على السطح، لكنها دائما، إما أن يقضى عليها أو تهمش. وفي كل مرة كان ينجح نسق الطاعة في فرض اجتهاداته» [15]
ويرغب الأستاذ الناقد الأكاديمي بوزيدة في تحليل روايتا " الحوات والقصر" و"الزلزال" بمنهج لابد أن يأتي على المقاس، على قصر رواية ريح الجنوب لم تظفر منه للتحليل بغير فقرة واحدة، كيف له إذن أن يتناول روايتين طويلتين، لعلّه سيكتفي آنئذ بسطرين فقط منهما، ثم أن الحوارية ليست التحدث بلغة الآخرين بضمير (أنا) فقط بل كذلك بضمير (أنت) و ضمير(هو).
في نهاية المقال يورد تعقيباﹰ أو « نقد النقد في إطار تطبيق حوارية اللغة موضوع بحثه النظري » على أحد النقاد الصحفيين [16]، كان حريّ به التعقيب عليه في جريدته وجريدة كل من يحمل بطاقة هوية جزائرية خضراء، شأنه شأن النقد الأكاديمي في المشرق العربي و مصر، الذين ذكرناهم أعلاه، لكنه أولاﹰ يتعالى من موقع أستاذ أكاديمي عريق فيتقوقع معقبا عليه في مجلة "اللغة والأدب" مجلّة نخبة النخبة مساهماﹰ في تراجع النقد الأدبي بشكل عام، وثانياﹰ متحاشياﹰ حتى ذكر اسمه مخافة التعقيب أو ردة الفعل، وخلاصة التعقيب أن عبد القادر بوزيدة يقف موقف نقدي أيديولوجي نفعي مع الإعلامي عبد العزيز بوباكير مدير الخبر الأسبوعي أنذاك/ في بداية الألفية الثالثة ــ الذي دخل مؤخرا مجال كتابة التاريخ «مذكرات الشاذلي بن جديد» ففشل مثيرا ضجة بشهادة المختضين ـــ ضد الشاعر أبو جرة سلطاني من التيّار الإسلامي المعتدل قائلاﹰ: «في الآونة الأخيرة نشرت إحدى الصحف الجزائرية مقالاﹰ يردّ فيه صاحبه ــــ نعتقد فرضا أنه صحفي وناقد وروائي من الخبر اليومي، بينما يصر الأستاذ عبد القادر بوزيدة مطبقاﹰ نظريته تلك على أنه هو عبد العزيز بوباكير نفسه، ينقد نقده الذي سبق أن وجهه لقصيدة هي قصيدته لكنه ينسبها عمدا للشاعر أبو جرة سلطاني ليُعمل معاول النقد الجارح في شخص آخر غيره، ونقده في المرة الأولى كان سلبيا على المنقود أي ذاته المستبدلة بالشاعر الوزير، تحت عنوان <الوزير الشاعر والنمونكلاتورا>، أما الثاني فكان إيجابيا على المنقود المستبدل به /الوزير وسلبيا على نفسه من خلال هجاءها ــ على مقال كتبه رئيس تحرير جريدة الخبر الأسبوعي، الأستاذ عبد العزيز بوباكير يقول صاحب المقال: " يبدو أن القصيدة الديوان أو الديوان القصيدة الذي نزل السوق خلال شهر مارس المنصرم تحت عنوان: < سيف الحجاج بين نار الدمار ورياح الوئام> لصاحبه الوزير الشاعر أبو جرة سلطاني بدأ يملأ الدنيا ويشغل الناس. و لا أدل على ذلك من الحملة المسعورة التي شنّها ويشنّها عليه الشويعريون والنويثريون، إنه شأن أبو الطيب المتنبي الذي كثر حساده ومناوئوه من الشعراء والأدعياء حين قال فيهم: أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ∗ ضعيف يقاويني قصير يطاول، وهو موقف ينطبق على شاعرنا أبو جرة سلطاني. ومن آخر مناوئيه النويثر عبد العزيز بوباكير صاحب مقال <الوزير الشاعر والنمونكلاتورا> (..) الذي شنّ حملة أحسن فيها إليه من حيث أراد الإساءة (..) وذهب الحقد بهذا المناوئ إلى حد الزعم أن أبو جرة سلطاني إنتهى كشاعر لإنصراف شيطان شعره عنه بعد أن بالغ في مدح سياسة الوئامين.. المدني والوطني(..) ولجهله بمدلول المصطلحات، مدح السيد الوزير من حيث أراد ذمّه لم يتردد أن زعم أن " الشاعر الوزير إمتنع عليه قول الشعر ونضب فيه معين الأخيلة وجفّت عنه القريحة وخانه الكشف الذاتي حين عاد إلى نثر الحياة ففقدت لهجته وهجها وحرارتها " وإني أسألك يا صاحب المقال متى كان ذلك؟ هل بعد العودة إلى نثر الحياة أم قبلها؟ وقد أجبت بقولك: " إن الوزير الشاعر حين عاد لنثر الحياة فقدت لغته وهجها وحرارتها " فأنت بذلك تقر بأن لغته الشعرية ذات وهج وحرارة..! وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تنفي عته الشاعرية وأدواتها! اللهم إلا إذا كنت متحاملا مكابرا!" حسب اعتقادي الجازم المدعم بالبراهين أن هذا الكلام هو لناقد صحفي محترف، أما الرّد فلا يأتيه من قبل الشخص المنقود بوباكير، ولكن يأتيه من صديق بوباكير وابن حومته وابن حزبه وابن اتجاهه الأيديولوجي، وهو الأستاذ الجامعي المختص في الأدب المقارن والانتربولوجيا الثقافية عبد القادر بوزيدة، وليس في جريدة الخبر اليومي بل في مجلة اللغة والأدب التي لا يتعدى نشرها أصوار الجامعة قائلاﹰ: كلام من هذا؟ أن هذا الكلام موضوع كله على لسان الشخصية التي توجه بأسلوب جدالي نقدها الى الأستاذ عبد العزيز بوباكير، عدا بعض الاستشهادات التي ضمنها الناقد مقالته/ وهو ما يُدخل بعدُ التعدد اللغوي بشكل ظاهر. هذا المقال ينافح فيه صاحبه عن الوزير الشاعر، ويبلغ في ذلك حد المبالغة أحيانا. كما يوجه سهام النقد الى مناوئيه فيسميهم <الشويعريون> و<النويثريون> و<الحساد> و <الأدعياء> ؛ ويطلق على الأستاذ بوباكير لقب <النويثر> و<الحاقد المتحامل المكابر> و<الجاهل بمدلول المصطلحات> الذي مدح الوزير من حيث أراد ذمّه. ولو نظرنا إلى هذا المقال في ضوء العلامات النحوية لفهمناه على هذا النحو لكن هذا المقال هو في حقيقة الأمر مقال كتبه الأستاذ عبد العزيز بوباكير، انتحل فيه شخصية أخرى واقتبس منها لغتها ليشحنها، جداليا، من خلال اعتماد الصيغ المبالغ فيها، بمدلول هو النقيض للمدلول الظاهري لتلك اللغة وليعبر بها عن قصيدته الخاصة. هذه القصيدة ليست لها في المقال لغتها الخاصة، إنها تستعير لغة الآخر وتتجادل معها من خلال المحاكاة الساخرة، فتتداخل اللغتان والصوتان في لغة واحدة تعني الشيء ونقيضه، وتعبر من خلال العلامة الواحدة المتصارع حولها عن موقفين اجتماعيين ايديولوجيتين مختلفتين، لكن صاحب المقال الحقيقي، خوفا من التورط في وحل اللغة الوثوقية ذات الصوت الواحد يضع، مثل رابليه، رغم أنه كتب مقالا وليس رواية، يضع مسافة بينه وبين اللغة فيعبّر، بلغة الآخرين عن قصيدته الخاصة. ونحن لا يمكن لنا أن نكتشف تلك القصيدة الخاصة دون النظر إلى النص في اطار السياق الخاص الذي جاء فيه ؛ ولو فعلنا غير ذلك واعتمدنا الدراسة النحوية المحايثة وحدها لأوّلنا المقال كما يبدو في ظاهره على أنه موجه لنقد طروحات الأستاذ عبد العزيز بوباكير وقد تحول إلى حطيئة معاصر يهجو نفسه» [17] أما أنا فأصر على أن المقال هو من تأليف صحفي ناقد متمرس، ينقد لأجل النقد وجماليته لوحدهما، والذي لم يشأ الناقد بوزيدة ذكر اسمه لأنه جرح كبرياء صديقه، فيُعمل معاول النقد الايديولوجي المتمذهب إنتصارا لصديقه بالدليل العلمي أي نظرية فلسفة اللغة ــــــــ عدم الذكر هذا وحده خطأ منهجي في مجال النقد أكاديميا كان أو صحفياﹰ من المفروض من لا يأتي بالاسم المنقود لا يُنشر عمله النقدي ــــــــ و يطلق هذا الصحفي الناقد على الأستاذ بوباكير لقب <النويثر>و<الحاقد المتحامل المكابر> و<الجاهل بمدلول المصطلحات> الذي مدح الوزير من حيث أراد ذمه (..)" وهذا صحيح مثل ما ذكرنا اللغة والابداع التي تطلع من لدن الإسلامي هي أرقى مستوى من التي تطلع من عند العلماني عندنا بالجزائر، وشرحناه أعلاه منتهجين بمنهج السياق التاريخي للشخصية الحضرية العلمانية في المدن الكبرى التي لا تكتسب العربية كما يكتسبها المحافظ في بيئة الكُتّاب الخالية من الفرنسية واللهجة المثقلة بالمفردة الأجنبية.
أما ع بوزيدة فإنه يصر على أن المقال هو لبوباكير، يرد فيها على نقد سابق يُدخِل فيه المنافس ككبش فداء وهم الإسلاميين إجمالا الذين يهابونهم كثيرا علمانيو الجزائر لبلاغتهم وفصاحتهم، وكأنه عندما يمسح بالاسلامي الأرض فأنه بالضرورة يرفع بنفسه ومعشر العلمانيين المتعاضدين بينهم (بوزيدة مع بوباكير) وشعرهم إلى عنان السماء بالتقابل جدليا ؛ أما التقابل في حد ذاته بين بوباكير وسلطاني يضعنا ندرك السجال الأيديولوجي والمذهبي من الطبيعة الثقافية للمجتمع، و بوزيدة كأنه ينافح عن ذاته ضد أبو جرة سلطاني كون وجه الشبه بينه وبين بوباكير أكثر من جلي، من منطلق كما ذكرنا سابقاﹰ أن العلماني والشيوعي أو الماركسي عندنا بالجزائر خاصة المتحضّر دون الريفي، يصعد للسماء يهبط يبقى ضعيفاﹰ بالتنوين إتجاه اللغة العربية، أو عاجزﹰا على حد تعبير عميد الأدب العربي أمام الإسلامي، فنظرية استنساخ اللغة في مرحلة الطفولة المبكرة على صفحة بيضاء، لنعوم تشومسكي هي التي تؤكد طرح قصور من تلقوا اللغة الفرنسية بدل العربية في بدايات حياتهم، ناهيك أن هذا الإسلامي الذي يناوئه بوزيدة ترعرع أول ما ترعرع في سياق العربية وليس الفرنسية أو اللهجة العاصمية الكثيرة الحشو بالألفاظ الأجنبية التي ترعرع عليها بوباكير، كما أن سلطاني ليس أي إسلامي فهو إسلامي أكاديمي بل وناقد مثل بوزيدة وشاعر مشهود له بالشاعرية، وفي الحقيقية ما يُغيّب هذه الحقائق النقدية كلها هو تغييب الروح العلمية في البحث الأكاديمي، حري بالناقد الأكاديمي الفكاك من أسر النفعية وحري به أيضا أولا وقبل كل شيء إلتزام الحيادية اللّهم في ظروف غير اعتيادية تتعلق بالمساس بثلاثي الهوية وعناصر السيادة الوطنية كالعلم مثلا، من شأن الروح العلمية الرُّقي بالبحث العلمي وبالثقافة معا وعندما لا يستجيب – يعترف - الناقد بأفضلية الآخر المفارق نتيجة إيديولوجيته أو مذهبه ماذا تنتظر من الساحة الثقافية سوى أن تكدس نويثريون وشويعريون ونويقديون، واستقطابا يُبقي حال اللغة العربية الغير مطمأن على ما هو عليه.
فلو أن نظرية تعدد الأصوات اللغوية التي ساقها عبد القادر بوزيدة دفاعاﹰ عن شريكه في المذهب الأيديولوجي/التوجه العلماني والسياق/الإقامة بالعاصمة، صادقة، كيف يهجو عبد العزيز بوباكير نفسه و يبهدلها، يرد على نفسه بنفسه بتعابير مهينة يسمّيها بوزيدة " لغة الآخر" و هو مدير الخبر الأسبوعي لو كان مجرد صحفي لأستسغنا الموقف: بوباكير لم ينوي هذا التأويل أصلاﹰ لأن مستواه ومؤهله التكويني لا يسمح له الرّد مستعملاﹰ هذا التأويل، أي أسلوب تقمص لغة شخصية أخرى فيه لمناقضة شعره جدليا بأنه أجود من شعر الوزير سلطاني: أي بنفي الشعر المقابل له يُثبت شعره، ثم أن أبو جرة سلطاني ليس نائما على وذانه ؛ لم يكن ليسكت لو كانت فقط قضية جدل نقدي آثارها بوباكير؛ لأن الأمر يتعلق بالسخرية من شخصية وزير، كان سيثير نقاده وهم كثر، فحقيقة الصحفي المجهول الذي بزّ وبهدل ومرمد كاتباﹰ سبقه الى الكتابة بل هو مدير الخبر الأسبوعي ثابتة لا غبار عليها، و حقيقة بوباكير هو أنه هاجم سلطاني ولم يكن مسلحاﹰ كفاية فأتاه اليقين من صحفي غيور؛ مدرك للغث من السمين شعرا ونثرا لأنه يعمل في وسيلة منفتحة على جميع التيارات لا تأتيها إملاءات السلطة كما في حالة المؤسسات الجامعية، بل أنّ " لغة التعدد الصوتي على لسان بوباكير" فَبْركة من تأويل الأستاذ بوزيدة تعاضدا وتكاتفا نفعيا مع ابن حارته، بعدما أهانه مجرد صحفي بسيط لكنه ناقد.
يستطيع الباحث قراءة مقال لأنه قصير لنقده ـ وليس "لإنتقاده" التي ذكرها بوزيدة كثيرا في مقاله وشتّان بين مصطلح "النقد" الذي نأمله جميعا ونبتغيه ومصطلح "الانتقاد" الهدام المفتش بنوايا أيديولوجية مذهبية في جبل من الايجابيات عن النذر اليسير من السلبياتـ أي ليبحث بعد ذلك عن المنهج النقدي الذي يلائم المقال، بينما في حالة الروايات والنصوص الطويلة الحادث عندنا هو العكس؛ دراسة المنهج النقدي دراسة وافية ثم البحث له من الروايات ما تلاءمه: بحط مستواها إن كانت معارضة لأيديولوجية الناقد، ورفع مستواها إن كانت تقع في ساحة التمذهبية للناقد، أي يرتكز النقد ها هنا على مذهب الناقد وإيديولوجيته على حساب ذوقه الجمالي للأثر، لهذا يوصف الخطاب النقدي الأكاديمي والنقدي الصحفي (في بعض مراحله) بأنه خطاب درامي أو الذي غرباله مثقوب، لأنه متقوقع في سياق ضيق كسياق الصراعات الدرامية في النصوص الأدبية، أمام تنوع المناهج النقدية المعتمدة من طرف النقاد والباحثين، نرى أن الحسم في مسألة اختيار المنهج المناسب لنقد أي أثر إبداعي، يقتضي العودة إلى ما يشتمل عليه هذا الأثر من خطاب، وذلك لضبط أهم مرتكزاته، وهذه العودة من شأنها أن تساعد الناقد على تحديد دعائم المنهج النقدي الملائم، الذي بإمكانه أن يفي بممارسة نقدية علمية، مستوحاة أصلا من طبيعة العمل الأدبي المنقود.
لعل من بعض الحلول التي يقدمها هذا البحث في مجال النقد الأكاديمي كذلك هو لابد من أن تفتح الجامعة الجزائرية الباب أمام الجامعات الخاصة/المستقلة كما فتحته وزارة التربية الوطنية. حينها يستطيع الناقد الأكاديمي أن يعمل عمله بضميره بصدق في ظروف مساعدة ؛ لا يخشى من أن يجد نفسه معزولا من وظيفته التي درس لأجلها عمره كله، لأنه نقد بمسئولية وأمانة علمية. أما بخصوص الإشراف على مذكرات التخرج، لماذا تجاوز النقد ما بعد الحداثي النقد الحداثي الذي بدوره تجاوز النقد الكلاسيكي، إذا لم يكن لإضفاء مزيد من الصرامة والدقة البحثية، وسحب البساط أمام الانطباعات والتأويلات الشخصية، أعتقد أن الأمر سيان بالنسبة للمنهج المتبع في الإشراف على مذكرات التخرج في معقل هو معقل المنهج، حان الوقت لسحب البساط من تحت أقدام الفساد في مجال الإشراف، بإلغاء الاشراف الفردي ثم العرض أمام الملأ في شكل مناقشة تعطي الانطباع أن كل شيء جرى على ما يرام واستبداله بمجلس علمي مكوّن مثلاﹰ من خمسين 50 أستاذ مشرف ؛ يقسمون إلى خمسة مجموعات، كل مجموعة مكونة من عشرة 10 أساتذة وكل مجلس يتداول مهمته بالتناوب ـ كل مجلس مكون من 10 أساتذة يعمل شهرين في السنة ـ يتكلف بدراسة مذكرة زيد أو عمر بدون حتى معرفة شخصية صاحبها، تخضع مذكرته لدراسة جماعية تقيمه وتمنح له على إثرها الشهادة.
كان بإمكان كاتب هذه العجالة أن يسير على ما سار عليه بوزيدة ؛ ينتفع هو الآخر ويمدح المضمون ويهمل الشّكل كونه ليس إسلاميا، ومُقدم على مناقشة دكتوراه في عرين هؤلاء النقاد الأكاديميون العلمانيون والماركسيون، لكن مجال التخصص الذي اسمه اللغة العربية وآدابها وليس علم الاجتماع يمنعه من التحيز للرديء على حساب الجيد، أو قل ببساطة وإيجاز تمنعه الروح العلمية.