

بيدي نحرت أخي في قلقيلية
خلال متابعتي منتديات عناقيد الأدب (سوق عكاظ) شاركت في نقاش عن شعر المناسبات تحت طلته الموسومة بـ: هل ستغضب؟ للكاتبة سنا الأبجدية، ودار الأعضاء المشاركون حول ما يلي:
أبحثُ عن الصراحة فقط، فكن صريحا معي لأجل ذلك:
هل ستغضب لو نُعتَّ بـ (شاعر مناسبات!!) أم لا؟!
وهل تخفي لرفضك أو قبولك سبباً؟؟!
وقلت حينها: ولا أجد حرجا أن أكون (شاعر مناسبات) عامة، أو أن أجعل من المناسبة الخاصة حدثا عاما أدافع خلالها عن ديني أو وطني أو ذاتي... والشاعر هو الذي الذي يجعل المناسبة هما وطنيا أو دينيا أو اجتماعيا بذكائه الشعري الذي يخرج الخاص فيه إلى العام... وهذا ما وجدته في هذه القصيدة الأم التي حضنت أبناءها في دنيا الرأي 1- 6 -2009م، على الرغم من مأساتها الشخصية؛ لتعاتبهم بصراحة على ما فرطوا في جنب الله.
ولأن العتاب هو باب الأحبة على عتباتهم المقدسة؛ ابتدأ الشاعر مطلع قصيدته بالنداء وما فيه من وسطية الإضافة والنكرة في تعظيم المكان، وتخصيص الطلب للسكان، واختار لتليبة النداء حرفا للبعيد والقريب أملا في الوحدة والألفة، واستعان بحرف الباء من حروف الهجاء؛ ليكون شكلا خارجيا أو بيتا فلسطينيا واسعا يحتضن الجميع في قافيته، وجعلها مكسورة الجنب موحشة الجَنَاب من نقطتي الاختلاف، وتودَّدَ في صرف كنعان، وإن جاز منعها فنيا، ووضعها بين قوسين لإبراز تناحرها الثنائي، وراح مستنكرا كنايتها و(سَوْرة الغضب)، وهو يحمل على بحرها البسيط أطنانا من العتب:
يا قاصدًا أرضَ (كنعانٍ ) لنا طلبٌ:بلّغْ إلى الأهلِ أطنانًَا من العتبِواسأل(حماساً) و(فتحاً) أين فخركُمافي نحرِ إخوانِكم في سَوْرةِ الغضبِ؟!
هي المناسبة الخاصة إذن كما صرح الشاعر لي في رسالته الشخصية التي جعلته يتسور حائط السكارى ثائرا؛ لينقل معاناة أسرته المتجددة من دبيب الفتنة وسكرتها، وقد أمست في قصيدته هما وطنيا إنسانيا ظل الناس فيه أسرى لكل وثبة غاضبة تعتدي على الثوابت النضالية في مسارنا الفلسطيني.
وهي ذاتها التي أعادتني إلى نبض الحجر الطوقاني الذي طلبت روحه الرحمة في أجواء (شهداء الانتفاضة) لفدوى طوقان، تلك القصيدة المنسية (مخطط الأرض وكوشانها) التي شقت طريقها بفلسفة وجودنا الاستثنائي المحمود، وغدت مُكَبَّرة بتفاصيلها عند عدونا، وباتت حكمتها في مسار يخالف ذاتنا الجهادية:
رسموا الطريق إلى الحياةرصفوه بالمَرجان بالمهج الفتية بالعقيقرفعوا القلوب على الأكف حجارة جمرا حريقرجموا بها وحش الطريقهذا أوان الشد فاشتديودوى صوتهمفي مسمع الدنيا وأوغل في مدى الدنيا صداههذا أوان الشدواشتدت.. وماتوا واقفينمتوهجينمتألقين على الطريق مقبلين فم الحياةهجم الموت وشرع فيهم معولهفي وجه الموت انتصبوا
فماذا صنعت ثنائية (فتح وحماس) مع هذه القصيدة وأخواتها؟ وفي أي طريق سارا معا؟ وهل سيكون لصوتهما صدى بعد ذلك؟ ومن المستفيد من قلقلة جوانحنا؟!
فلترحموا الشهداءَ الغرَّ مَن سبقواليفتدوا الأرضَ بالأرواحِ في رغَبِوإخوةً في سجونِ البغيِ كم أمِلواأن تكشفوا عنهمُ القضبانَ بالقُضُبِو دمعة الحزنِ في أحداقِ صِبْيتِكمْخوفَ الردى مثلَ أفراخِ القطا الزُّغُبِما بالُكمْ هل أضاعَ الرُّشدَ قادتُكمْو الصورةُ انقلبتْ رأسًا على عَقِبِ؟!
نعم أيها الشاعر، لقد استطاع المِعْولُ اليهودي أن يقلب طريق المقاومة المرصوف بدماء الشهداء رأسا على عقب؛ حين اختارنا بعد عجزه مِعْولا جَارَ عن الحق؛ ليحصد عيال المتعاقبين، وليقول لنا ساخرا إن: (ابنَكِ من دَمَّى عَقِبيكِ)، ونقول بخجل: عاريات من الأوراق أغصاني أيتها الخنساء: (ويكفي العشيرةَ ما عالها):
قد أبهجَ الخصمَ ما أهدته فتنتكُمْإذْ أدركَ الثأْرَ منكـم دونما تعبِوالأمهـاتُ بكتْ أكبـادهنَّ دماًخَوفاً عليكمْ ومنكمْ سحَّ كالسُّحُبِأضحــى احترابُكمُ عارًا يدثّرُنابينَ الأنامِ، و غطى سوءةَ العَرَبِ
والحديث ذو شجون أيها الملك الضليل؛ حتى حض الأمهات على ((فهل عند رسمٍ دارسٍ من مُعَوَّلِ؟)، وحثك في خطوتك الأولى في الإقناع على أن تستند إلى ضحايا المتخاصمين؛ لعلك تجد استجابة سريعة وهداية مستقيمة، وجعلني في المقابل قبل أن أصل إلى خطوتك الثانية استوسيك بعبرات الهذلي المسمولة بشوك الملفات العالقة، وتبادل الأسرى!! في سَوْرَة الغضب:
كنّا نواســـي الذي تغتالُ والدَهُأيدي اليهودِ: مضى للخُلدِ فاحتسِبِأبـوكَ حَـيٌّ، شهيدٌ، طابَ منزلُه،جارٌ لحمزةَ.. لم يبرحْ، ولم يغِبِفهل نقـولُ، وقد أودىُ أخٌ بأخٍ:كـم كنتَ أشرفَ منا يا أبا لهبِ!!؟
وليس غريبا على شاعر مجرب صادق العاطفة وأتقن صنعته وملك أداته الفنية وعاصر من استكوى أن يترافع في خطوته الثانية بالحكمة، لعلها تكون الدواء والدفء والتثبيت لقلوب الإخوة على الحق:
حربُ الأخـوّةِ أن طاشتْ فصـائبةٌوإن تُصِبْ أهلكتْ كالنارِ في الحطبِما أعذبَ الموتَ أن أعداؤُنا بطشوالكنّهُ علقـمٌ أن غالني ابنُ أبــيخلّوا التفاوضَ عنـد الخُلفِِ سُنّتَكمْومَن يشاورْ أخاً في الأمرِ لم يخبِ
واحتكمت الحكمة في تثبيت الصلح وتوكيده في النفوس والفصل بين الأخوة والأخذ على يدهم إلى المثل المشهور (في بيته يُؤتى الحَكَمُ)، إلى من أحكمتهم التجارب من الطرفين، إلى الرموز الفلسطينية كخطوة ثالثة تستشهد بِهَدْيِهِم ودَلِّهِم، والشاعر خلال ذلك يعبر عن حنينه إلى سمت القادة وحنكتهم، الذين نرجو الله أن يكونوا من الشهداء، وأن يكونوا للطرفين إسْوَة:
قـد قالـها ياســرٌ من قبلِ غَيبتِهِو مُغرِيـاتُ العدى للحربِ في دأب:ِلا أرتضـي أن يكونَ السّيْفُ مُحتَكَماإليهِ، ما بيننا، لـو مِتُّّ من سَغَـبِو قالَها أحمــدُ الياسـينِ ناصعةً:لو نالَنـي ظلـمُ اخْوانـي بلا سببلسـوفَ أصـبرُ للآلامِ محتمِــلاًو أجعلُ الثأرَ من خصمي ومُغتصِِبيكذاكَ قـالَ ابنُ عيّـاشٍ عبـارتَهِ:إنّـي أحرّمُ نـاري عن ذوي نَسَبِ
وقادته الخطوة الثالثة إلى ذكريات الماضي (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) في زمن الأخوة الحقيقية التي تستحق التعظيم والإكبار والفخر بتضحياتها وإيثارها، واستعانت هذه الذكريات بأمرين متكاتفين في الغاية المنشودة من الطرفين؛ ليكونا عونا رابعا في الإقناع والتأثير، الأول بدلالة (كم) على كثرة العطاء في الماضي وإخلاصه، والاستفهام الموجه إلى أثرة الحاضر وانقسامه وتواكله؛ للتميز بين الحق والباطل، والثاني بتكرار (كان) الماضية الناقصة الناسخة بدلالاتها الموحية إلى ماض يطلب التغيير والنسخ؛ حتى لا يكون ناقصا خجلا من أفعاله الحاضرة:
أتذكرونَ و قد ولّـى العدى فَزَعًاوإذْ رأَوْا غُنْمَهمْ في الفرِّ والهرَبِكنتمْ أسودَ الوغى والخصمُ يعرفُكمْوكم جفا النومَ مِن خوفٍ و مِن رَهَبِكنتمْ رموزَ الفدا حينَ انتفاضتِكمْوالكونُ يشهقُ مأخوذًا من الَعجبِ
ويختم الشاعر بائيته المعتقة التي اخترت من معانيها المتكررة الأبيات السابقة بتنهيدتين، الأولى بدأها بـ (والآنَ)، وكأنه يقول بمحكيته الشعبية على لسان قومه (وبَعْدِين)، ثم ختمها بـ (والله) الملجأ الخامس الأخير بعد خطوات العقل السابقة، وآثر خلال دفقته النرجسية الصادقة النداء بـ (يا إخوتي)؛ لأن الحال قبل شكلها الخارجي لا تحتمل (يا إخواني) المتدرعة بجدار الألف والنقطة المتعصبة لذاتها فقط في ظل جدارها الحقيقي وفصلها العنصري، وما ملتُ إلى هذا التفسير إلا لأن الشاعر ذكر الكلمتين في قصيدته بهذه الدلالة اللغوية، وتعامل معهما بعاطفته الصادقة؛ فارتبطت (إخواني) مع الظلم والنحر (ظلم إخواني، ونحر إخوانكم)، ولم يحدث ذلك مع (إخوة) المتكررة في قصيدته:
والآنَ يا إخوتي و الحزنُ ينهشُنافقد أُصِبْنا بجُـرحٍ جـدِّ ملتهـبِدعوا اختلافَ الرؤى كالزهر،منظرُهيزيّنُ الروضَ بالآلوانِ، لم يَعِبِو الله َ نسألُ أن تُشفى جراحُكمُو أن نظلَّ يداً في حُلكةِ الُّنوَبِ
أما تنهيدته الثانية التي ختم بها قصيدته فجاءت بدهاء لا الناهية الجازمة؛ لتبرر علة عتاب الشاعر عبد الرزاق البرغوثي المشروع لحبيبته فلسطين، وفي ذكر المكان ذكر لأهله، وهو عتاب ما أفرط فيه لولا جنون القسوة المفرطة من الأخوين، تماما كحذف النون من الفعل بدخول (لا)؛ فهذه فلسطين الطرفين تنهانا متجاهلة اليهود لتجزمنا!!، ثم لخص الشاعر (رسالته) بـ (لم) التي تدل على الماضي، و(لن) المستقبلية، ليوكد ضرورة العودة إلى الحكمة وحوار الأحبة، حتى نصل إلى فجر حبيبتنا متجاوزين ليل الحاضر بالتوبة والندم:
لا تنكري يا فلسطينَ الهوى ألميلما جُنِنتِ، وإن أفرطتُ في عتبيفأنتِ ليلاي لن أرضى بها بدلاًعن حبِّكِ القلبُ مهما نال لم يتبِ
وهكذا دَعَّتِ المناسبة الشخصية عاطفة الشاعر الصادقة الذي فقد خلالها أفرادا من أسرته إلى المناسبة العامة (اشتباكات قلقيلية الدامية في سَوْرة الغضب)؛ فجاءت القصيدة ناطقة بدقة كلامها المعبرعن معانيها، لتكون نموذجا متعاونا يحتذى في الإخلاص الوطني والانتماء الفلسطيني.
وهذه القصيدة جعلتني أعود إلى قول لإبراهيم السامرئي بعد قراءته قصيدة الشاهد الأخير لحيدر محمود: (إن هذا لهو الشعر الجديد وليس ما يشقى به جمهرة شبابنا وغيرهم، قرأت قصيدتك فحفزتني إلى أن أسعى إليك فأبدي رضاي واستحساني، ولا أحسب أن كلمة(أحسنت) تفي بما أريد)، ودفعتني في سياقها وأخواتها إلى قصيدة كتبتها لفدوى طوقان بعنوان: (طريق جديد)، ومنها:
رَجَمُوا الـرَّصيفَ وَغَيـّروافدوى مَعالِـمَـهُ بذُلٍّ أعْـلَـنـُوه..رَصَـفـُوهُ بالـدّمِ والخيانةِإنّ رسمـَكِ عَـلّـمـُوه!ومن الحياة إلى غدٍ متوهّجٍنثروا زمانًا أرّخـوهْ..!
طاب كل حرف في قصيدتك أخي الشاعر عبد الرزاق البرغوثي جنيا وسعدا، ودام عطاؤك وتتابع في الخير برك.