الاثنين ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

الْمُخْتَلَفُ فِيهِ

في قلب السوق، حيث تصنع الأصوات والألوان حياةً لا تهدأ، كان الزمان يختلط بالمكان بطريقة لا يعيها إلا من يعبر بين الأكشاك. كل حجر، وكل قطعة قماش معلّقة، وكل بائع يقف خلف صوته، يحمل في ذاته طيفًا من الحكايات. فالمكان هنا ليس فراغًا، بل كيان يتنفس، يبتلع الهمس ويطلق الصخب، كأنما السوق نفسه كاتبٌ مجهول ينسج الحكايات لحظةً بعد أخرى.

كان فَضْل، الرجلُ المختلفُ فيه، يجتاز الممرات كل صباح، وسلّةُ التمر الثقيلة معلّقة على كتفه، كأنها تحمل عبءَ السنوات، عبءَ كل من عرفوه في الحي، وعبءَ ذكرياتٍ لم تبح بها وجوهُ المارّين. كانت أصابعه تتحسّس الحباتِ واحدةً تلو أخرى، كأنها تقرأ على سطحها خطوط الزمن، وتستخلص منها أسرار الناس؛ أسرارًا لم يجرؤ أحد على السؤال عنها، مختبئةً في ابتسامة، أو عبوس، أو في ذلك الصمت الغريب.

صار السوق كيانًا حيًا يتنفس ويئنّ، يختلط فيه الصخب بالهمس، والابتسامة بالغموض. كل من يقف أمام فضل يرى شيئًا مختلفًا: بعضهم يراه مكّارًا يحسب كل حركة ويُخفي ما في قلبه، وبعضهم يراه نزيهًا يوزّع بلا تمييز، صادقًا كما لو أنه مرشدٌ صامتٌ للعالم.

في زاوية السوق، ارتفع صوتُ حسني الحمد: «انظروا إلى فضل! كل حركةٍ محسوبة، وكل ابتسامةٍ مكيدة!»

ضحكت سميرة، بائعةُ الحلويات، وهي تهزّ رأسها برفق، ثم همست كمن يكلّم الزمن نفسه: «لا يا حسني… الرجل أكثر صدقًا مما تتصوّر. الصدق لديه غير مرئيّ لمن لا يعرف أين ينظر.»

وبينما كان يوسف السمسار يلوّح بيديه، ينقل الأخبار عن التمر ويروي تفاصيل لعبةٍ مستمرة بين السعر والدهاء، كانت أمينةُ المسنّة تمسح جبينها المليء بالتجاعيد وتهمس للهواء: «التمر مجرد تمر… لكنه يكشف القلوب أكثر من أي حديث. كل حبة تكشف ما يُخفيه الإنسان عن نفسه.»

وفجأةً، انكسر أحد صناديق التمر، فتساقط محتواه على الأرض. توقّف السوق للحظة، ثم اندفع الجميع لالتقاط الحبات المتناثرة وسط صرخات وهمهمات وتداخل أصوات: «مكّار! نزيه! ماذا يفعل بنا هذا الرجل؟»

صاحت سميرة وسط الفوضى: «انظروا! كم هو نزيه! لم يرفع السعر، بل أعطى بسخاء!»

وفي الظلال، كان رشيد يدون ملاحظاته في دفتره، كأنه يرسم خريطةً خفيةً للسوق:

«فضل خليط من الصدق والمكر… انعكاسٌ لكل من يراه. ليس مجرد بائع تمر، بل حاملٌ لسرّ السوق. كل حركةٍ درس، وكل ابتسامةٍ لغز.»

جلست ليلى الصغيرة بين الأرجل، تلتقط قطع التمر المبعثرة، وتهمس لنفسها: «هل الرجل طيب أم مريب؟ أم أنني أرى نفسي فيه فقط؟»

وفي لحظة صمتٍ طويلة، بدا كأن التمر نفسه يتكلم، يبوح بأسرار فضل لكل من يقترب. من يراه مكّارًا يراه يرفع السعر ثم يخفضه، ومن يراه نزيهًا يراه يوزّع بسخاء. صارت كل حركة لعبةً بين الحقيقة والغموض.

اقترب صبيّ صغير يحمل سلة فاكهة بسيطة، وقد غلب على وجهه الخوف والفضول. نظر إلى فضل، فقال الرجل بهدوء: «كل شيء هنا له قيمة… لكن قيمتك الحقيقية ليست فيما تبيع، بل فيما تعطي.»

ارتطمت الكلمات بقلب الصبي فابتسم، وانتشر صمتها في السوق. بعضهم رآها حكمةً صادقة، وبعضهم ظنّها مكيدة جديدة.

ثم ارتفع سعر التمر فجأة، فتجمع الناس يناقشون ويتساءلون: «هل يختبرنا؟ أم أنّ الأمر تغيّر طبيعي؟»

لكن أحدهم لاحظ شيئًا: فضل لم يكن ينظر إلى الأسعار مطلقًا.

كان ينظر إلى الوجوه فقط: الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء… كأنّه يحاول قراءة المدينة بأكملها من خلال التمر.

تهبط الأسعار فجأةً، فيثور الجدل مجددًا: «مكّار! يعرف كيف يقود السوق!»

فتردّ سميرة بثقة: «لا… الرجل نزيه. هكذا تتكشف القلوب.»

وهكذا ظلّ السوق رقصةً لا تنتهي: كل يوم مشهد جديد، وكل حركة من فضل تولّد ألف حكاية؛ بعضها صادق كما يراه قائله، وبعضها مموّه بالمكر كما يراه آخر.

ابتسم رشيد، وكأنه يقرأ ما لا يراه أحد: «الصدق والمكر وجهان لعملة واحدة… والتمر ليس مجرد تمر، بل مرآة. سوق فضل مرآةٌ أكبر من شخصه. كل واحد يرى فيه ما يستحق أن يراه.»

كانت خطوات فضل بين الأكشاك تلوّح بسلة التمر، تترك أثرها في النفوس أكثر مما تتركه على الأرض. يبتسم للغموض، ويترك السوق يعيش بين ارتفاع السعر وهبوطه، بين صراخ حسني وابتسامة سميرة، بين صخب يوسف وهمس أمينة، وبين دفتر رشيد الصامت.

صار السوق حكايةً حية، حكايةً عن الإنسان، عن المكر والصدق، عن الرجل المختلف فيه: فضل، الذي لم يعرف أحدٌ حقيقته تمامًا، لكنه جعل كل لحظة، كل حركة، كل ابتسامة، جزءًا من أسطورة تكشف النفوس، وتصنع نسيج المدينة حيث تحمل كل حبة تمر صمتًا أكبر من الكلام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى