السبت ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٢٤
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

الوردة البيضاء

في قرية من القرى النائية التي تحتضنها ربوع تلك البلاد البائسة، يشق نهر صغير أرض القرية ويتدفق بقوة وكأن عصا موسى قد رُفعت عن أرضه للتو. وعلى جانب الضفة، رجل أربعيني يسير بخطوات ثقيلة ويقلب نظره في أرجاء المكان.
ينظر الرجل بعين ذابلة إلى الأرض ليقع نظره على وردة بيضاء تقف شامخة وتتمايل مع نسمات الهواء يمنة ويسرة. يقترب الرجل بخطوات بطيئة مطأطئ الرأس نحو الوردة ليقطفها وما إن تقترب راحة يده منها حتى يشعر بملمس دافئ. يرفع الرجل رأسه ليجد فتاة في ربيع العمر صارخة الجمال، تسحب يدها بخوف وتضمها إلى صدرها وهي تنظر إليه بترقب.

بقيت راحة الرجل ممدودة كما اعتاد في تجاربه السابقة، إذ كان الجميع يسحبون أيديهم خوفاً أو جبناً أو خيانة. تبسم الرجل بسخرية ثم نهض، واقترب من الفتاة بخطوات ثابتة وأردف قائلاً: "ما الذي حملك على المجيء إلى هذا المكان، لم لا تشاركين أهل القرية في الاحتفال الصيفي؟"

زفرت الفتاة شهيقاً طويلاً وكأنها أفرغت كل القلق الذي كان ينتابها وأجابت بصوت ناعم: "لم تحملني أزمة منتصف العمر التي حملتك إلى هنا، ولكنني قدمت إلى هذا المكان بحثاً عن وردة بيضاء".

نظر الرجل إلى عينيها الصافيتين ثم اقترب منها أكثر وقال: "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً؛ إن هذه الأزمة جحيم العمر، يقف المرء فيها في منتصف كل شيء، فلا يملك ما يعينه على المضي قدماً، ولا يقدر على العودة إلى ما كان عليه". ثم جلس بجانبها دون استئذان وقال بذات النبرة الساخرة: "لا تقلقي، لن يحدث أي تلامس آخر".

نظرت إليه الفتاة بابتسامة ماكرة وقالت: "وهل تجرؤ؟"، التفت إليها ورمقها بنظرة باردة ثم قال: "لا أجرؤ ولا أقدر، لست في ربيع العمر لتقودني هذه الغريزة حيث تشاء، ولكنها تنطلق من مكامنها بقوة إذا شحذتها العاطفة، كما يتدفق هذا الماء" وأشار بيده إلى النهر.

ينظر الرجل إلى الوردة البيضاء بشرود ويواصل كلامه قائلاً: "إنها لغة يتقنها الكبار للتعبير عما تعجزالكلمات عن احتوائه، أما استخداماتها الأخرى فهي أدنى من ذلك، ولا تختلف عن استخداماتها عند بقية الحيوانات".

مرت بضع دقائق من الصمت المطبق، والرجل ينظر إلى الوردة دون أن يشيح نظره عنها، ثم يقطع صوت الفتاة هذا الصمت فتقول: "لن أخالفك في تسميتك لهذه المرحلة من حياتك بأزمة منتصف العمر، ولكنها تخبر الآخرين شيئاً مهماً عنك".

التفت الرجل إلى الفتاة ونظر إليها بتساؤل دون أن ينطق، فتابعت الفتاة قائلة: "إن منتصف العمر يعني وجود أطفال وزوجة ومنزل وبعض الأصدقاء، أليس كذلك؟"

تنهد الرجل ثم قال: "أما الأطفال سيغادرون المنزل كما فعلنا أنا وأنتِ، وأما الزوجة فهي ركن آمن ستهدمه الحياة كما هدمت ركنين أعظم منه، الأب والأم؛ وأما الأصدقاء فليسوا إلا كمسافرين في محطة قطار، سيغادرونك ويرحلون في مواعيد رحلاتهم".

ظهرت علامات الإنزعاج على وجه الفتاة وقالت باستنكار: "أين السعادة إذاً؟". وفي هذه اللحظة، مرت نسمة باردة فأغمض الرجل عينيه وابتسم ثم قال: "هذه هي السعادة، كهذه النسمة، ونحن لا نعرف طعم السعادة لأننا نبحث عن سعادة دائمة".

نهض الرجل متوجها نجو الوردة وقطفها ثم أغمض عينيه واستنشق عبيرها بقوة ثم واصل حديثه قائلاً: "نسمة باردة، ووردة فواحة، هي متع لحظية نجمعها فنحصل بمجموعها على سعادة طويلة، ولو بحثنا عن شيء واحد يمنحنا سعادة كاملة أو شخصاً واحداً يلبي احتياجاتنا كافة فلن نعرف إلا التعاسة".

اقترب الرجل من الفتاة وقدم لها الوردة ثم همّ بالانصراف فصاحت الفتاة: "على رسلك أيها الرجل، ألا تعلم أن الوردة الواحدة تجمع قلبين؟".

وهبت نسمة عليلة فتمايلت الوردة مع خصلات شعر الفتاة بمشهد ساحر، فاقترب الرجل مجدداً منها وهمس في أذنها: "أي رجل في موقفي هذا يشارك وردة بيضاء مع فتاة مثلك، ستنفجر براكين مشاعره ولن تطيق الفتاة لذلك دفعاً، فأخبئيها في قميصك؛ حتى تلتقي بمن يشاركك فيها".

ثم استدار ليغادر فصاحت الفتاة بصوت أعلى: "ولكن وردتي القديمة قد ذبلت، فشاركني بهذه". اقترب الرجل مجدداً وقال:

"قد تشاركنا فيها بالقدر الذي يحفظ لك رونقك". صاحت الفتاة باستنكار: "وكيف ذلك؟" فأجاب مبتسماً: "حسبي من الوردة شوكها وحسبك منها عبيرها" واستدار بسرعة ليغادر المكان، واستنشقت الفتاة الوردة ثم نظرت إلى الأرض، لتجد قطرات الدماء التي سالت من يد الرجل، ورفعت رأسها لتجد الرجل يتلاشى في الأفق حتى ابتلعه تماماً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى