الأحد ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم حميد طولست

النقل المدرسي

رغم الدخل الهزيل للكثير من الأسر المغربية، والمصاريف الكثيرة والمتنوعة التي تتكبدها وترهق كاهلها، يلاحظ تزايد وتيرة إلحاق الأبناء بالمؤسسات الخصوصية، لما توفره من خدمات تخفف بعض أعباء هذه الأسر، وعلى رأسها نقل الأطفال من البيت إلى المدرسة وإرجاعهم منها إليه،و تيسير وصول الذين يحول بعد منازلهم عن الوصول إلى المدرسة بوسيلة نقل مناسبة تتوفر بها عناصر السلامة المرورية وتحت إشراف تربوي مناسب؛ ما يوفر مناصب شغل عديدة تساهم في امتصاص اليد العاملة العاطلة. لكنه بالمقابلي جعل أساطيل هذا النوع من حافلات النقل المدرسي بلونها الأصفر الموحد تملأ شوارع كل المدن والأحياء الشعبية منها والراقية، تساهمة هي الأخرى وبشكل كبير في زيادة حدة مشاكل السير على الطرقات – المأزومة أصلا- خاصة إذا نظرنا إلى أنواع وحالات تلك السيارات، ووضعيات من يقومون بقيادة تلك الحافلات وشروط تشغيلهم.

فترى مئات السيارات من كل الأنواع يوحدها لونها الصفر، تذرع شوارع المدينة في كل الأوقات، وخاصة منها ساعات الذروة التي تُساق فيها بسرعات جنونية لا تعطي الانطباع على أن السائقين واعون بما يمكن أن تتعرض له حمولة هذه الحافلات من الأبرياء الصغار منهم والكبار، المتميزون وغير المتميزين، الذين كُدسوا بداخلها تكديسا وفي أوضاع محزنة لا إنسانية.

حافلات نقل لا تتوفر في غالبيتها على الشروط المفروضة دوليا في هذا النوع من النقل. فلا عجب ولا غرابة إذن أن نلمس النفور والخوف والإحباط يغمر نفسيات كل من يستعمل هذه النوعة من وسائل النقل، خاصة في المراحل الأولى من أعمار الأطفال الحساسة، حيث ينتقل الواحد منهم غضا طريا من حضن أمه إلى وسط غريب الشكل (الحافلة التي هي في غالبيتها عبء وهم ومرض نفسي في أحيان كثيرة،) لا تشبه سيارة الأسرة التي يعشق الطفل ركوبها ويسعد به، وأكثريتهم أصغر وأضعف من أن يتحملوا كدمات سيارات لا يصلح جلها إلا لحمل البهائم والخضر - وهو أصل الكثير منها قبل أن تتحول إلى سيارات لنقل المتدرسين، وذلك بتغيير لونها فقط.

سيارات للنقل، ليس لها من صفة المدرسي، إلا ذاك الطلاء الأصفر، فكثيرا ما تظهر على الأطفال أعراض آلام البطن، والقيء والإسهال وحتى التبول اللا إرادي كلما حان وقت المدرسة أو ذكرت حافلات النقل المدرسي أمامهم. وكم من مرة أصيب الأطفال بخدوش وجروح جراء إرتجاجهم بسبب الفرملة القوية المتهورة، التي يضطر إليها "الشيفور" لكبح سرعة السيارة تفاديا لوقوع حوادث ربما تكون نتائجها أفدح وأخطر..

أظن أن هذه الاختلالات ما تحكمت في ميدان التعليم الخصوصي إلا بسبب العلاقة التي لم تكن صحية في يوم من الأيام بين التعليم والتجار. فالتعليم بمشاكله المختلفة لم يكن أبدا ضمن حسابات معشر التجار الذين يستثمرون فيه، إلا فيما ندر. وحتى هذه الندرة عادة ما تكون في سياق مبهم، أو في إطار حسابات شخصية ظرفية تليّن من موقف هذا أو ذاك، فيُقدم من ثم التجار القليل من المال لدعم التعليم ومساندته وتطويره، فالتجار المشتغلون في هذا القطاع الخاص، لا يعيرون التعليم كتعليم اهتماماً لذاته. هذا مفروغ منه ومن القديم. والدليل أن أي مراجعة للأدبيات التي بحثت سبل وطرائق النهوض بالشأن التعليمي، وتحريك مياهه الراكدة، ليست خلواً من توصيات تطرح هذه المسألة، تحت بند المشاركة والشراكة والتفعيل الضرورية.

فما انفك التعليم الخصوصي يعاني من هذه الجفوة والجفاء إزاء ابتعاد هؤلاء عن خط الدعم، وعن سائر أشكال التمويل الأخرى التي تنقل التعليم من دائرة الكفاف وذر الرماد إلى مساحات أرحب.

قد يشذ البعض القليل عن القاعدة، فيرتدون زي المهتمين بالتعليم، وينصبون أنفسهم حماة لقلعته المظعظعة- خاصة منهم أولئك الذين عملوا به قبل أن يتحولوا للتجار- يخططون ويهندسون وينظرون، لكن وفي العموم تبقى العلاقة بينهم وبينه مرسومة بدقة، ولا يطرأ أي تغيير نوعي يعوّل عليه أو أي بشارة بانتهاء حقبة الامتناع عن النزوعات التجارية المحكومة بالربحية. ويكاد المتتبع لمجريات الأمور يجزم أن من يشذ عن خط التجار لا يفعل ذلك إلا لغرض آخر في نفسه، وأنه لا يدعم التعليم بقدر ما يدعم غاياته.

يقول أحد السائقين نحن مرغمون على خوض سباقات لا قانونية ضد الساعة، وإلا فوداعا للشغل " اللي ما لقيناه غير بستة وستين كشيفة " لأن أصاحب المدارس الخصوصية وأولياء الأطفال كل واحد منهم يبكي على ليلاه، فالأول لا يهمهم إلا أن تتم عملية جمع أكبر عدد من التلاميذ في أقل وقت وتكديسهم في أصغر حيز ممكن، طمعا في المزيد من الربح. والثاني فهمه الأوحد، سلامة وراحة أبنائه وعودتهم من المدرسة سالمين. وكم تلقينا من انتقادات وصلت في بعضها إلى السب والشتم والتهديد الصادر من هذا الجانب أو ذاك، (وما في الهم غير الشيفور)..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى