الخميس ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم هشام آدم

الموت ليلة البدرنار

الشتاء بأظافره -التي كمخالب الدببة الأسترالية- يكشط جثث البراغيث عن جلده الأسمر، ظنّها جلداً ميتاً، وقدّر أنه تحوّل بطريقةٍ ما إلى زاحفٍ قرر تبديل جلده في الموسم المناسب. الفانوس العتيق على كوة جدار غرفته الطينية رسم من الظل كائنات ناهضة على أحد الجدران العارية من الطلاء، كانوا يرقصون في الخارج بطريقة بدائية، ولم يستطع أن يُخمّن الموسيقى التي تجعلهم يتحركون بتلك الطريقة المُضحكة، شبههم بعفاريت ليلية مجنونة قررت الاحتفاء بطقس خاص في نوبة زار محتدة الصخب لامرأة اضطرت لسرقة مال زوجها ووهبته للأسياد علّها تنجب منه طفلاً في الرمق الأخير من شبابها قبيل سن اليأس.

جلس يستخرج الصملاخ من أذنيه بقشة استخرجها من أحد جدران غرفته، وهو يغمغم بتفاهات لا يسمعها. كان الأمر أشبه بملء خزان وقود طائرة رش وُجدت مصادفة في صحراء جرداء نائية. عيناه تجوبان في أرجاء المكان كعيني حرباء متربّصة بيعسوب عاثر الحظ، وكأنه يتوقع حدوث أمر ما. الضوضاء الصامتة التي يرى آثارها على الحائط تجعله يشعر بالطمأنينة والخوف في وقت واحد: طمأنينة تخرجه من إحساسه بالوحدة والعزلة، وخوف من المجهول المختبئ خلف تلك الحركات الراقصة ببلاهة.

لا يعرف الوقت، ولم يجتهد كثيراً ليعرف، ولكنه قرر أن يظل مستيقظاً حتى تكف الكائنات الراقصة على الحائط عن الحركة. المكان بالنسبة إليه هو هو نفسه، كتلة جسده المليئة بالبراغيث المنتحرة منذ آخر صيف، وشعره الكث، وساقاه العاريتان. وكأنه يرتدي المكان فوق جسده!

لا يكف عن القناعة الراسخة بأن ثقب الباب الخشبي يُسرّب إليه نظرات عيون فضولية، تنتظره أن ينام، فيظل يُصدر حركاته التي تعني أنه مازال مستيقظاً وكأن بقاء عينيه مفتوحتين لا تعنيان دائماً أنه مستيقظ. خاف ألا يُفرقوا بين نومه وموته، فقرر أن يتحرك على الدوام ليُدلل على حياته، وليس استيقاظه فقط؛ تلك كانت معركة أخرى!

ليس من سبيل للتفريق بين الأحياء والأموات. القابعون في الخارج يعتبرونه ميتاً منذ سنوات، منذ أن قرر الانتحار للالتقاء بوالديه اللذين ماتا غرقاً في النهر ولم يُعثر على جثتيهما. قالوا: "أخذهما النهر إلى قاع البحر!"، وقال إنه لا يمكن للأحياء الوصول إلى حيث يقبع الموتى فقفز وراءهما وانتشلوه في المرة الأولى، وظل يُكرر المحاولة المرة تلو الأخرى دون جدوى. كان عمره عندها ثلاثة عشر عاماً، ولم يكف عن محاولات الانتحار غرقاً حتى حبسه أهالي القرية في غرفة طينية، وأبعدوا عنه كل آلة حادة يمكن أن يقتل نفسه بها؛ أما هو فكان يسخر منهم لأنهم لا يستشعرون شهوة الموت التي يتذوق حلاوتها في كل محاولة.

القرية التي كبيوت النمل الأبيض على لحاء البلّوط كانت قد أسدلت عليها لباس الليل الأسود، وكأنها لا تريد أن ترى العالم الخارجي، كقنفذ يلتف على نفسه خوفاً من الضواري التي ينخر بطنها الجوع وشحّ الفرائس. متطرفة تقبع على تلة غير مستوية، تُشتم رطوبة البحر منها على بُعد فرسخ بمقدار ما يكفي لنعتها بالساحلية، وشعور أهلها بالفخر حيال ذلك. وعلى ضوء الفوانيس الزيتية والمشاعل النارية احتفل أهلها بيوم البدرنار الذي يحتفلون فيه باختفاء البدر تماماً عن سماء قريتهم الساحلية.

تلك أسطورة توارثها أهالي القرية عن الأسلاف، تهب السماء صفائها الأزلي الأصيل. السماء سوداء أو داكنة الزرقة، وهكذا يجب أن تظل دائماً، وحده حبيس الغرفة الطينية لا يعرف الوقت إلا عبر ثقب لعين في بابها الخشبي المتهالك. الضوء والحركة هما اللغتان الوحيدتان اللتان يألفهما ويفهمها جيداً بعد أن فقد سمعه، ومن يومها وهو مستمتع برؤية العالم على طريقته الخاصة. قال: "العالم جميل وهادئ بلا أصوات!"

أخرجوه ليغتسل في النهر أسوة ببقية أفراد القرية، وربطوه بسلاسل غليظة كأغصان كستناء الحصان. أمسكوه من جذعه العاري، وصبّوا عليه الماء فتساقطت جثث البراغيث دون أن يعلم أحد. نظره إلى من حوله من بشر وأشياء عبر فتحات الليل المظلمة، وهو ينظر إلى ظلال الكائنات الناهضة وكأنها شمعدانات حيّة، حاول الإفلات من أيدهم فلم يستطع، رأى بصعوبة بالغة لمعان أسنانهم على ضوء المشاعل النارية، كانوا يفتحون أفواههم ويُغلقونها باستمرار، وتعرّف على كلامهم من تعابير وجههم الساخطة. أرخى عظام ساقيه فخرّ على ضفة النهر، وكأنه يُريد أن يشتم رائحة الموت من أطراف الماء. لم يتمن أحدٌ الموت كما تمناه مسعود، وربما من أجل ذلك لم يمت إلا بعد أن دخلت الكهرباء القرية واختفت الفوانيس والمشاعل النارية، حتى وقتها ظل أهالي القرية مُصرين على أن تظل الأنوار مطفأة حفاظاً على خصوصية ليالي البدرنار. كان لا يزال سجين غرفته الطينية يُراقب العالم عبر ثقب ملعون في بابها الخشبي المتهالك، ويسخر من البقية الذي يموتون واحداً تلو الآخر ويحرمونه ذلك.

قال: "أريد أن أموت، لا أن أهلك!" منعه خرسه من إيصال هذا المعنى إلى البقية، حاول كثيراً، ولكنهم في كل مرّة كانوا لا يسمعون سوى صرخات مزعجة لا تحمل أيّ معنى. كيف يمكن أن يظل المرء حياً رُغماً عنه؟ كيف لا يملك حق أن يموت كيف ومتى يشاء؟ ما قيمة الحياة التي يهبها لك الآخرون دون رضاك؟

كان أطفال القرية -الذين لم يشهدوا حادث غرق والدي مسعود- يجتمعون بعد زوال الشمس أمام غرفته الطينية يسترقون النظر إليه. كانت عيونهم الصغيرة تبدو مكتملة من خلال ثقب الباب الملعون، وكان يراهم وهم يُبالغون في فتحها وكأنهم يُريدون أن يبتلعوا الثقب بأعينهم الصغيرة. ولسبب ما أحس بأنها طريقتهم الجديدة في التثاؤب!

وفي ليلة من ليالي البدرنار حالكة الظلمة، توجهت امرأة عجوز خلسة إلى غرفة مسعود الطينية، ولم تنظر إليه من ثقب الباب الخشبي، ولكنها أفلتت عنه القيود والسلاسل وانصرفت في هدوء وجلست غير بعيد وهي تنظر إلى الباب الخشبي وتتوقع أن يخرج منها جسد مسعود الهزيل الأسمر، ولكنه لم يخرج. وبعد أن رقص الجميع ورددوا صلواتهم وتراتيلهم التراثية، جلبوا سلاسلهم الغليظة لإجباره على الاستحمام في ماء النهر، ولكنهم وجدوه ميتاً وعلى عينيه آثار دمعة جافة.

أطلقت العجوز صرخةً لم يفهم مغزاها أحد، ولكنها مررت كفها المجعّدة على جسده المليء بجثث البراغيث وبكت كثيراً. حمله الرجال على أكتافهم وأرادوا أن يدفنوه، لكنها وقفت أمامهم: "ارموه في النهر حتى تنطفئ شهوته، فقد عاش دائماً يحلم بالموت فيه" ولكنهم قبل أن يفعلوا غسلوا جسده بزيت الشلغم، ووضعوه جثته على قارب هزيل مصنوع من أوراق شجر الموز ربطوه بحبال من ألياف النخيل الصناعية، وأخذوا ينظرون إلى جثته وهي تذوي في الماء حتى اختفى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى