المقعد المهجور
في صباحٍ رماديٍّ مائلٍ إلى الزرقة، توقّف عند المقعد المهجور في حديقةٍ لم تطأها قدماه من قبل.
لم يكن يبحث عن راحةٍ، بل عن شيءٍ يُنصت إليه وسط ضجيج الأيام. جلس، أحسّ أن الخشب القديم يتنفّس تحته كما لو كان يحتفظ بسرٍّ ما.
أطفالٌ يركضون بعيدًا، وامرأةٌ تُحدّث شجيرةً كأنّها صديقةٌ قديمة، وريحٌ صغيرةٌ تعبث بأوراق الجريدة التي تركها أحدهم على الأرض. كان كلّ تفصيلٍ حوله يُذكّره بأنّ الحياة تُمارس نفسها من دون إعلان.
رفع رأسه نحو السماء، فلم يرَ سوى طيورٍ تمرّ في صفٍّ مستقيمٍ كالسؤال.
تساءل: «هل تتذكّر الطيورُ وجهَ الطريق، أم أنّها تمضي فقط لأنّها خُلقت للمضي؟»
من الجهة الأخرى من الممرّ، جلس رجلٌ مسنٌّ على مقعدٍ مكسورٍ بعض الشيء، ينحت بعصاه خطوطًا في التراب، ثمّ يمحوها بطرف حذائه.
بدت ملامحه ساكنةً، لكنّ أصابعه كانت تتحرّك بإيقاعٍ غامض، كما لو أنّه يكتب شيئًا لا يُقال.
اقترب منه وسأله بابتسامةٍ متردّدة: «ما الذي ترسمه؟» أجابه الرجل، وهو يواصل الحفر في التراب: «أجرّب أن أرى الوقت، لا الساعة. فالساعات تُقيس الغياب، أمّا الوقت الحقيقيّ فهو في الحركة.»
صمت أبو حسن قليلًا، ثمّ جلس قربه على طرف المقعد.
كان الهواء يحمل رائحة التراب الرطب، والمدينة من حولهما تتباهى بالمصابيح المرتفعة بين جوانبها.
قال الرجل المسنّ: «هذا المقعد يسمع أكثر ممّا نسمع نحن. كلّ من جلس عليه ترك أثر صوته في الخشب.»
مدّ أبو حسن يده ولمس المكان الذي أشار إليه. شعر بخشونةٍ حيّة، كأنّ الذكريات ليست ماضيًا، بل مادّةً تُقيم في الأشياء.
وحين نهض ليغادر، أحسّ أنّ المقعد لم يعد مهجورًا، بل صار صديقًا صامتًا يُذكّره أنّ الإصغاء، في حدّ ذاته، نوعٌ آخر من الحياة.
