الماركسية في عالم متغيّر
هل تستطيع الماركسية كفلسفة أن تضفي على نفسها مقدارا كبيرا من العلمية وأن تواجه تحولات وتداخلات العالم ومشكلاته من جديد؟ ربما يمكن أن يحدث ذلك بظهور أعداد جديدة من المفكرين على طريقة الماركسيين الجدد الذين يحاولون استعادة روح التفكير الحر لماركس الشاب أو ماركس الشيخ على حدّ سواء. وقد يكون بالإمكان حينئذ كسر (طوق) الاعتقاد السائد بأن الماركسية ماتت بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق وسقوط جدار برلين عام 1989بعد أن تحولت الماركسية من الدعوة إلى الدولة الصارمة التي استخدمت كلّ وسائل القهر والعنف لأدلجة الناس قسرا؛ تلك الطرق القديمة التي رفضها ماركس منذ البداية.
وما موقف الماركسية من ظاهرة (التعولم) الجديدة باعتبارها واحدة من قوانين النمو الامبريالي؟ وإذا كان العالم يسير حتما وحثيثا نحو نزعة التداخل والتحول إلى قرية واحدة، لماذا تحاول الولايات المتحدة – المتأدلجون الصقور الجدد- فرض النفوذ بقوة السلاح أحيانا من اجل مصالحهم الدولية؟ وهل يتوقف نزيف دول جنوب الكرة الأرضية الاقتصادي (ظاهرة التطور اللامتكافيء) أمام تصاعد أسعار السلع والبترول المضطرد؟ وكيف يمكن لاقتصادات الدول الفقيرة غير المنتجة للبترول أن تعيش في ظل غلاء عالمي قد يصبح معضلة للعالم بعد حين كما كانت الدورة الاقتصادية عام 1929 وعندئذ هل سيأتي من يأتي لحلها كما فعل الاقتصادي المرموق كينز؟ لكن هذه المرة ستأتي (جماعات)علمية بالطبع، لأن المعادلة من الاتساع والكبر مما يصعب الإحاطة بها من أفراد بعينهم او جماعة واحدة صغيرة متخصصة. من هنا فإن أسطورة العقل الواحد – العبقري والمنقذ- قد انهارت إلى الأبد؛ لم يعد للفكر البشري ثمة أباء مؤسسون على طريقة القرنين الثامن والتاسع عشر الأوربيين.
ولكن يبقى السؤال نفسه الذي راود البشرية ومعظم الفلسفات الحديثة منذ العصور القديمة إلى يومنا: هل يمكن أن نجد عالما أكثر سلاما وإنسانية أخيرا؟ وما السبيل إلى ذلك؟ لا شكّ بأنه الحلم نفسه الذي راود الأنبياء والفلاسفة والأدباء وأولئك الذين اشتقوا لهم طريقا خاصة في التأمل بعيدا عن الناس من الصوفية والرؤيويين اللامنتمين على حدّ سواء، دون أن تثمر كلّ تلك الجهود الكبرى المختلفة شيئا مهما على طريق الإنسان إلى الوقت الحاضر. وفي وقت تتداخل فيه العلوم والأفكار والمصطلحات المعاونة على الحل وتشيع ثورة المعلومات على نطاق لم تشهده البشرية من قبل. من الصعب أن يجد المتلقي هوية أكاديمية محددة كما هو الشأن الآن لكثيرين بعد أن يزداد ذلك التداخل على نحو كبير وعميق وتكثر العلوم المزدوجة التي تعالج قضية واحدة.
ربما نجد بعد مدة قصيرة علماء سوسيو اقتصاديين على نطاق عالمي واسع. سنجد من يخبرنا دوافع الولع الدائم بمصطلحات الاقتصاد الحديث كالتصدير والاستيراد والإنتاج الواسع وقانون فائض القيمة، والعرض والطلب وقانون تناقص الغلّة ومصطلحات العولمة والسوق الحرة وحرية التجارة وهي تتداخل مع مصطلحات الضبط الاجتماعي والعزلة والتفكك الأسري. فمن يمكنه أن يحدد لنا استخدامات مصطلحات الاقتصاد بالسياسة والاجتماع وتعشيقاتها الجديدة في بحر السياسية الدولية والمحلية والإقليمية؟ يظهر ذلك على نحو فريد في الخطابات السياسية لقادة العالم من السياسيين المحنكين المهنيين في بدايات القرن الحادي والعشرين على وجه الخصوص: إنهم يعكفون على بناء عالم لهم كلّ الإمكانات فيه، وتتداخل العلوم كلّها في هذا العالم المتحول في كلّ دقيقة لخدمة أهدافهم المعلنة وغير المعلنة، وتنشط فيه قوة تداول المعلومات على نحو لم يسبق له مثيل.
ترى هل تكون المعلوماتية العالية هي النقطة التي يتصارع حولها بني البشر في القرن الحادي والعشرين؟ وكيف ستتمكن الشعوب والأمم من الاحتفاظ بالمعلومات وسط شرطة سرية تخترعها قريبا؟ وما وضع العرب والمسلمين الفقراء بالمعلومات والمدججين بعصور الخرافة والخيال؟ وإذا كان السياسي العولمي الجديد لا يستطيع أن يخطو خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف دون حساب كامل لعوامل الربح والخسارة والنقص والإضافة على مستوى العمل والنظر، فإن السياسيين الذين تخلّوا عن هذه (القاعدة الذهبية) المترشحة عن التعامل التجاري البسيط، قد خسروا مواقعهم في الدولة والمجتمع وخارطة العمل السياسي والتاريخ والعالم أخيرا. إذا لا مكان لسياسينا المحتفظين بكراسيهم والذين يرفضون تداول السلطة سلميا باعتبار الأخيرة كنزا لا ينضب وليست مجرد سلعة تداولية. وها نحن نراهم بلا رؤية إستراتيجية للأمة وبلا نظرة توحيدية خشية فقدانهم لمصالحهم وفي زمن تزداد فيه الكتل الاقتصادية والسياسية الكبرى في العالم قوة ونفوذا.
ستكون أولى التداخلات الكبرى على سطح أبستمولوجي ساخن بين الاقتصاد والسياسة مؤطرا بالبيئة حتى ليبدو لنا بعد مدة من الزمن أن ليس ثمة إلا علما واحدا يتناول قضايا محددة. إنها الحاجة الأولى للعمل من اجل وضع بعض الحلول للمشكلات التي بدأت تواجه البشرية منذ بدايات القرن الحادي والعشرين. ولسوف يعاد النظر بمجمل أطروحات المتعلقة بإضفاء العلمية على الفكر من جديد.
كانت الماركسية هي أول من حاول ذلك على الصعيدين الفكري والفلسفي. وتخبرنا سيرة السياسي الألماني الكبير كارل ماركس الذي لاحظ انهيار تجربة كومونة باريس عام1871، بالشيء الأكبر عن علاقة السياسي بالاقتصادي؛ فطفق ماركس يدرس قوانين الاقتصاد الرأسمالي منذ عهود المركنتلية، ليخرج لنا بعد ذلك بواحد من أهم الكتب في الاقتصاد السياسي في القرن التاسع عشر ألا وهو "رأس المال" بعد أن تحول مباشرة من الفلسفة إلى الاقتصاد السياسي.
كان كارل ماركس قد درس الفلسفة اليونانية في ألمانيا, وحصل على إجازة في الدكتوراه في موضوع فلسفة أبيقور. وربما كان لذلك الموضوع الرائق في بحث فلسفة السعادة هو الذي قاده إلى التفتيش المستقبلي عن (السعادة الإنسانية) في مجتمع لا طبقي مثالي بعد ذلك؛ من خلال التخلّي عـن الملكية الخاصة والشخصية، وتحويل كلّ شيء إلى مشاع، تماما كما كان أجدادنا في عصور الجمع والالتقاط تقريبا حيث يكون الإنتاج الطبيعي للغابة المطرية يفيض عن الحاجة الإنسانية. وعلى الرغم من إن شيوعية ماركس التي حاول أن يضفي عليها طابع (العلمية) هي أقرب إلى يوتيبيا توماس مور الآن؛ لكن ثمة من يرى بأنها هي الحلّ؛ باعتبار أن الملكية مصدر الشرور كلها- بدلا عن السيد إبليس طبعا - ثمّ هيّأ ماركس نفسه ليكون أستاذا جامعيا وشاعرا. ولكن سارت السفن الماركسية بخطّ آخر مختلف، وأبحرت في بحار أخر حيث السياسات الأممية ثمّ الاقتصاد السياسي العالمي والتفكير بوضع حلّ لجميع شرور العالم منذ بدء الخليقة في نهاية المطاف. حسنا أنها فكرة قلما حاولها أشخاص ومن هنا يكمن سرّ بريق الماركسية كما أظن.
لماذا تحول ماركس من الشعر والحياة الأكاديمية والحياة النضالية في الامميات إلى السياسة و الاقتصاد، وهاجر إلى فرنسا منفيا، ثمّ إلى لندن منفيا مرة أخرى يعاني من الفقر والتشرد، بعد تجارب مريرة مع عدد كبير من رفاقه الذين اختلف معهم جميعا تقريبا ما عدا فردريك أنجلز؟ تلك قضية مهمة جديرة بالتأمل.. ثمّ ما الدوافع الكبيرة التي حدت بهذا "الراهب" المادي الديالكتيكي إلى الاعتكاف في مكتبة " المتحف البريطاني" عشرين عاما لكتابة سفره العظيم "رأس المال" الذي نشر الجزء الأخير منه زميله ورفيق نضاله الطويل الإنكليزي فريدريك أنجلز بعد موته؟ كان انجلز يعيل ماركس وعائلته طوال هذه المدة إذ كان ابن صاحب معمل وقد اخترم لزميله بعض ما أخذه والده من فائض القيمة!
كانت سيرة ماركس على العموم أقرب إلى الزهد بالعالم وتكريس النفس إلى قضية واحدة. ومن هنا يمكننا أن نفسّر إعراض ماركس عن العمل السياسي بعد ذلك. لا شكّ بأنها الرغبة في البحث عن الحقيقة دائما, وعن الأسباب والمسببات في تدهور الحياة البشرية منذ بدء التاريخ إلى يومنا هذا. إنه العلم المشحون بإماطة اللثام عن زيف العالم في كلّ حقبة تاريخية ممكنة. ومن هنا فقد جاءت صرخته: إني لست ماركسيا!
كانت تلك واحدة مما عرف آنذاك في مناخ الفكر السياسي للقرن التاسع عشر، بالرسالة السياسية العالمية للبروليتاريا: تلك الفكرة الخلابة لبريق القرن التاسع عشر المولع بالصراعات الاستعمارية. وكانت تلك أيضا – ولأول مرة- يسجل فيها التاريخ رسالة لطبقة اجتماعية، منذ ثورة سبارتيكوس في روما وعلي محمد صاحب الزنج في العصر العباسي والقرامطة وتجربة روبرت أوين.. لم تكن بالطبع ثمة (رسالة) علمية محددة في تلك الثورات الطبقية التاريخية، لأن (الرسائل) كانت مقتصرة على الأديان والأمم خاصة؛ وكما يحلو للفلاسفة الألمان تدبيجه في الفلسفة القومية.. وهي بالطبع- أي رسالة البروليتاريا- لا تشبه مفاهيم الرسالات الدينية أو القومية بأي حال من الأحوال؛ لكنها على العموم تبقى "رسالة" في الحياة والرؤيا، وهي امتداد لروحية (المنقذ) المسيحية بهذا المقدار أو ذاك. فمن ينكر رغبة ماركس في إنهاء الشرور عن العالم من خلال إنهاء الملكية وإقامة المجتمع اللاطبقي وإنقاذ العالم؟
كان انهيار الاتحاد السوفيتي مفتاحا جديدا لتغيير النظرة إلى رسالة العالم من جديد. كما أنها في الوقت نفسه محاولة أخرى لإعادة النظر في الماركسية نفسها وتقييمها كفكر وفلسفة من اجل وضع حلول لمشكلات العالم المتجددة. من الصعب ان نتصور بأن الماركسية العلمية قد ماتت كما يحاول أن يشيع ذلك بعض المعنيين بالفكر الرأسمالي. توقّع لينين وهو ماركسي عنيد ومحاول علمي آخر ورجل دولة مجرّب أن ينهار النظام الرأسمالي بعد سبعين عاما من نشؤ مجالس السوفيتات. لكن ما حدث كان هو العكس تماما؛ فقد انتصر الرأسمال من جديد، وهزمت تجربة البروليتاريا الحديدية في الاتحاد السوفيتي وقتل ليون تروتسكي في المكسيك منفيا على يد الاستخبارات السوفيتية في العهد الستاليني.
ويبدو من الاستقراء الأولى إن رسالة البروليتاريا قد أصبحت مجرد (دعوة تاريخية) لم يلبث أن تخلّى عنها(الماركسيون الليبراليون الجدد) وهي تقترب من الهامشية حثيثا، بعد ذلك الانهيار المدوي لأكبر دولة وقوة أممية مدججة بالأسلحة التدميرية الشاملة حملت شعار"دكتاتورية البروليتاريا". وتخبرنا السيرة الفلسفية للعديد من مفكري العالم الحديث وفلاسفته في "تطفل" السادة السياسيين على إنجازات الفلاسفة والرؤيويين الفكرية، وتبني رؤاهم الخاصة؛ بل وحتى النهل من معين أولئك الكبار على نحو دائم؛ وعلى استعارة ما يحلو لهم لتوظيفه في العمل السياسي، كما يحلو لهم، للوصول إلى الأهداف السياسية لهم. وهم لا يتورعون عادة عن توظيف مختلف البنى الفكرية جميعا – وليست الماركسية وحدها- بما فيها الدين أو العواطف القومية وحتى النزعات العرقية والأثنية من اجل أهدافهم الخاصة.
لا شكّ بان دوافع السياسيين القدامى والجدد في دراسة الاقتصاد كانت من الأهمية بمكان حتى بات من الصعوبة الفكاك منه. بيد أن سياسيي العصر الحالي يجدون صعوبات كبيرة في تعلّم الاقتصاد بعد أن أصبح الاقتصاد القياسي معيارا مناسبا لجميع المباحث الاقتصادية، حيث تراجع مفهوم الاقتصاد الوصفي إلى خانة صغيرة ولم يعد يكتسب تلك الأهمية في سيل الإحصاءات والجداول والقوانين المشتقة والأرقام الدامغة. لم يعد بإمكان رجل السياسية على أية حال أن يكتشف (اللامساواة العالمية) على سبيل المثال إلا من خلال إحصاءات وقوانين ونظريات اقرب إلى الرياضيات (شبه المجردة) منها إلى التنظير والوصف والتحليل العاديين.ربما لا يعود ذلك بالفائدة على السياسيين الذين يرغبون دائما في تلقف الأفكار الجاهزة ومن ثمّ تسويقها للناس. حسنا عن ثورة المعلوماتية سوف تسحق بلا هوادة أولئك السياسيين الشعراتيين من حملة أوسمة القومية والدين الذي يراد له أن يتحول بلا مناسبة إلى سلعة وسلطة بيد بعض السياسيين.
لم يعد الاقتصاد في عصر العولمة سياسيا بمقدار ما هو عولمي.. فأصبحت العولمة صفة مميزة لعصرنا، وإن عارضها من عارضها من أولئك السياسيين المعلّبين كهوغو شافيز الرئيس الفنزويلي الذي قاد المعارضة ضدّ مشروع التجارة الحرة بين الأميركيتين الذي عرضته الولايات المتحدة والرئيس بوش كاتحاد على غرار الاتحاد الأوربي الذي بدأ في السوق الأوربية المشتركة كمشروع أولي، ثم وافقت عليه معظم دول الأمريكيتين ما عدا البرازيل ذات الثقل الاقتصادي الكبير في قارة أميركا الجنوبية والأرجنتين ورئيسها دي سيلفا صباغ الأحذية العتيد في بوينس آيرس، وبضعة دول صغيرة أخر..تنبّه دي سيلفا إلى أهمية التكتل والقوة العالمية أخيرا. ولن يمرّ وقت طويل حتى يجد شافيز نفسه في المكان عينه. فلم يعد الفنزوليون راضين عن محاولة تعديلاته الدستورية وفي وضعه رئيسا مدى الحياة! وعما إذا كانت القرارات الإدارية ذات الطابع الاشتراكي التي اتخذها شافيز مناسبة لروح العصر. وربما سوف ينتفض الفنزوليون من جديد يوما ما ضدّ مفاهيمه للاشتراكية التي عفا عليها الدهر. وعندئذ لن تنقذه على أية حال صداقته القوية مع فيدل كاسترو الكوبي الذي يعد العدة لتوريث أخيه راؤول السلطة في كوبا. لماذا أخوه بالتحديد؟ أين هم الرفاق الآخرون؟ لم يبق من تلك الجوقة القوية الماثلة غير ذلك الرئيس الكوبي الذي لم يحضر أعمال المؤتمر العالمي لأسباب أمنية!!
إن العالم الجديد المائل للقوة يجنح نحو التكتلات الكبرى. وتظهر على السطح العالمي بين مدة وأخرى كتل اقتصادية هنا وهناك، وقد تتبعها كتل سياسية على غرار الاتحاد الأوربي. في وقت يغرق فيه العالم العربي والإسلامي في نزاعات داخلية وتفتت أشد قادم، وتحت ظل فقهاء الموت المجاني المدججون بالديناميت المعجون بكرات الحديد.
ربما يتوجب على الماركسية وغيرها من الأفكار من اجل أن تحيا من جديد على سطح الفكر الإنساني بقوة أن تعيد النظر بوسائلها وبناها بما يتناسب وأشكال التحول والتداخل الجديدة على مستوى العالم.