القاهرة... بيروت... باريس
عندما يحل "الفرنسي" محل "الأمريكي" رمزا للشر
لحوم بشر معلبة في رواية مثيرة... مسيسة دون ضجيج
رواية جديدة صغيرة الحجم نسبيا (99 صفحة من القطع المتوسط) كاتبها روائي شاعر (حاصل على عدة جوائز مصرية وعربية عن إبداعه الشعري) مسرحي (حصل نصه المسرحي الأول على جائزة الإبداع العربي من دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة) باحث (حرر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري) فضلا عن عدة مؤلفات صدرت في القاهرة وبيرت وعمان. الطبيعة المثيرة لأحداث الرواية أعادت للأذهان حقيقة أن كاتبها اكتشف وأعاد نشر رواية: "اعترافات حافظ نجيب: مغامرات جريئة مدهشة وقعت في نصف قرن" للمغامر المصري حافظ نجيب، وهي الرواية التي اقتبس عنها المسلسل التلفزيوني الشهير "فارس بلا جواد". وقد قدم لها وألحق بها دراسة عن حياة مؤلفها. الرواية "القاهرة... بيروت باريس" كل شخصياتها الرئيسة من الرجال ما قد يعتبره البعض صدى للانتماء السياسي للكاتب الذي عرف بانتمائه الإسلامي.
ويبقى من الخلفيات المهمة عن الرواية أنها الأولى لكاتبها وقد حصلت على المركز الثالث في الدورة الثانية (2005) للمسابقة السنوية الأدبية التي تنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة ويمنح جوائزها الكاتب المصري الأستاذ أحمد فتحي عامر (مستشار مؤسسة الفكر العربي). وكانت لجنة تحكيم الرواية في هذه الدورة مكونة من: الأستاذ الدكتور محمد حسن عبد الله الأستاذ بجامعة القاهرة، والأستاذ محمد مستجاب الروائي المعروف والأستاذ مصطفى عبد الله مشرف الصفحة الأدبية بجريدة الأخبار.
على غلاف الرواية مشهد من شاهد الرواية يشير إلى الطبيعة المثيرة لأحداثها ونصه:
"توقف الرجل عن الكلام واستدعى الأمن من هاتفه الداخلي، فجاءوا لحمل بهي الذي أغمي عليه وراح في غيبوبة.
بقي في غرفة مجاورة حتى انتهت الإسعافات الأولية .. أفاق بهي وجاءه بعد قليل الفرنسي المتعرب يرمقه بنظرة هي خليط من الإشفاق والازدراء، وبادره قائلا:
"نحن ندرك شعوركم الطاغي بالاختلاف عنا .. . . ولهذا فضلنا أن نصدر الجزء الأكبر من هذه اللحوم الناتجة عن مشروع تجريبي إلى الدول الأوروبية كمعلبات مخصصة لتغذية الحيوانات الأليفة . . . . والجزء القليل الذي صدر إلى بلادكم جاء إليها عبر مافيا معروفة تشتري منتجات مماثلة من الأسواق الأوروبية بأسعار زهيدة وتعيد تغليفها وتصديرها"
استدار الفرنسي المتعرب وأطلق عينيه خارج النافذة مستطردا:
".. وفي النهاية، هذا الخطأ الذي أثارك لدرجة القيء يا مسيو ثمن طبيعي للتقدم .. .. فلا تقدم دون ثمن وتضحية وقسوة. . . طبيعتكم العاطفية من أهم أسباب رؤيتكم السلبية لنا . . . نحن نجرب فنصيب ونخطئ . . . وبالتالي نتقدم .."
ثم حدق في عينيه متحديا:
".. أما أنتم فالزمن يتجاوزكم وأنتم مقيدون بقيود العاطفة والقداسة . . . . إنني أحدثك باعتبارك مثقفا سيعي معنى ما أقول" ..
وصمت بهي للحظات .. ..
ثم بصق في وجهه !!
المشهد أيضا يشير للطبيعة المعرفية للرواية وهي سمة تميزها عن التيار الرئيس السائد منذ سنوات في الرواية المصرية وهو تيار التأريخ الاجتماعي عبر بناية أو شارع أو حي وهو تيار خرج من معطف نجيب محفوظ ولم يزل مهيمنا على الساحة الروائية المصرية.
الرواية تبدأ في أحد أحياء الطبقة المتوسطة المصرية (حي عابدين) حيث شركة لاستيراد اللحوم المعلبة تعمل في هذا المجال منذ سنوات يديرها رجل أعمال في مطلع الخمسينات ورثها عن أبيه شركة صغيرة واستطاع أن يحقق خلال سنوات نجاحا ملحوظا ورغم هذا ظل محتفظا ببعض بصمات الأب حيث ما زال يصر على الاستعانة بخطاط عجوز لكتابة بيانات المنتجات بخط اليد رافضا الاستعانة بالكومبيوتر. الخطاط "عم شفيق" هو الآخر يخفي وراء ملامحه التي أجهدتها الشيخوخة فنانا متدفقا ومتفلسفا متعمقا فهو عند أول فرصة يتحدث بوضوح ورصانة عن البعد الإنساني في الفن وعن "الدقة" في مواجهة "الرقة". .. إلى آخره.
لكن العم شفيق الذي وجد للمرة الأولى منذ سنوات فرصة للحوار العميق عن الفن تغمره الشجون والذكريات فيتسبب في مشكلة تبدأ بعدها الرواية التي تبدو هادئة ناعمة في التحول إلى بركان هادر تتسارع أحداثه وتتلاحق مفاجآته.
المفاجأة الأولى كانت في ختام القسم الأول من الرواية كما يصوره المشهد التالي:
وضاع صوت محسن فجأة .. .. وانتبها معا على صوت سيارة شرطة تطلق نفيرها وتتجه مسرعة ناحية الشركة مثيرة سحابة كثيفة من الغبار وتظاهرة من النظرات المتسائلة في الشارع الهادئ. وقفت السيارة أمام باب الشركة ونزل منها عدد كبير من الجنود أحاط بعضهم بالباب وانتشر آخرون داخل المكتب. عقدت المفاجأة لسان محسن ووقف بشكل لا شعوري بينما العم شفيق يجلس في سكون مترقبا.. .. كانت ملامح الضابط الذي نزل من السيارة واتجه نحو الباب توحي بالصرامة لدرجة مخيفة.
ابتلع محسن ريقه وتكلم بصعوبة:
"خير يا أفندم؟"
"أنت صاحب الشركة؟"
قالها الضابط كما لو كانت مقدمة لكارثة، فرد محسن متلعثما:
"لا .. لا يا أفندم .. .. صاحب الشركة فؤاد بيه عبد القادر وهو غير موجود".
بدأ الضابط يتحرك متفحصا كل شئ في صمت دون أن يتخلى عن صرامته ، وقال في تهكم لا يخلو من عدوانية:
"وأنت ماذا تعمل؟"
"محاسب يا أفندم"
"وأين صاحب الشركة؟"
"في المنزل يا أفندم"
قالها محسن وهو يمد يده إلى الهاتف، وبدا وهو يحاول تهدئة الضابط كما لو كان ينزع فتيل قنبلة توشك أن تطيح برأسه. طلب الرقم في ارتباك شديد وانتظر أن يرد الطرف الآخر لحظات مرت كأنها أيام، وهو يختلس النظر للضابط وكأنه يتوقع أن يطلق عليه الرصاص دون تحقيق أو محاكمة بل حتى دون أن يعرف ما تهمته.
"فؤاد بيه"
قالها كأنه انتشل من الغرق
"ضابط يسأل عن حضرتك يا أفندم"، وقبل أن يكمل كلامه انتزع منه الضابط منه سماعة الهاتف بعنف وقال بلهجة آمرة:
"أنت مطلوب في النيابة حالا"
"عندما تذهب ستعرف"
"نيابة جنوب القاهرة . . . . ومعي أمر بإغلاق الشركة سأنفذه فورا".
أعطى الضابط السماعة لمحسن وصوت فؤاد مسموع بوضوح يحاول أن يتفاهم معه، ووضع محسن السماعة على أذنه وهو مذهول مما يحدث ثم وضعها لينهي المكالمة. تأبط محسن عم شفيق الذي بقي صامتا لا يدري ماذا يفعل وخرجا .. .. فأشار الضابط للجنود فخرجوا وأغلقوا الباب .. .. ووضعوا عليه أختام الشمع الأحمر.
وتلاشى غبار انطلاق السيارة وهي تغادر المكان . .. . وبقيت الأسئلة.
في الجزء الثاني من الرواية يتوجه فؤاد عبد القادر للنيابة وهو مرعوب بشكل غير مبرر فصورته في هذا الجزء إيجابية تماما ولا يوجد ما يوحي بأننا إزاء شخص منحرف بأي معنى، لكننا بعد قليل نكتشف أن رعبه ليس بسبب ما يحيط به بل ينبع من داخله فهو في حوار مع محاميه يكشف عن سر خوفه وفي الوقت نفسه يتلقى من محاميه صدمة كبيرة، فرجل الأعمال الناجح يعاني من حلم تكرر في منامه كثيرا يرى فيه خفافيش تلطمه على وجهه بعنف في كهف مظلم وهو إحساس داهمه عندما دخل مبنى النيابى حتى أنه كاد يرفع يديه ليدفع هذه الخفافيش التي فرت من عالم الأحلام لتكر حياة فؤاد عبد القادر. والمفاجأة التي كانت في انتظار فؤاد عبد القادر أن العم شفيق أخطأ في كتابة البيانات على المنتج وكتب "لحم بشري طازج" بدلا من "لحم بقري طازج"!
وفيما يشبه التسليم والتسليم والتسلم في سباقات التتابع تختفي شخصات لتظهر أخرى وتحتل موقع المركز في بناء الرواية التي تتحول لغة السرد فيها انقلابيا، فيظهر بهي الأحمدي وهو صحافي كان السبب في تحول القصة إلى قضية رأي عام وهو صحافي مغامر من أسرة ثرية جدا فضل العمل في الحوادث ليكون بعيدا عن السياسة ومخاطرها وعن الثقافة ومللها، فهو رجل الأشياء العابرة بامتياز. وفي مشهد مكثف جدا تحدث النقلة الثانية في الرواية وهي نقلة كبيرة في محتواها صاغها ممدوح الشيخ بمزيج من الاقتدار والبساطة:
انطلق بهي كالسهم داخلا مبنى الجريدة دون أن يتوقف للتوقيع أو رد تحية موظف الاستقبال، كانت لهفته لمقابلة مؤنس لا تقل عن لهفة مؤنس:
"من المؤكد أنك دعوت على لأنني أيقظتك مبكرا على غير عادتك"
قالها مؤنس متلطفا.
"أنا لم أنم يا أستاذ مؤنس .. وأرجوك أن تشرح لي ما حدث دون أي مقدمات أو إبطاء".
بدأ بهي حديثه من على باب الغرفة وأطاح بحقيبته بعيدا بغير اكتراث وجلس متحفزا أمام مؤنس:
"أنا غادرت النيابة بالأمس وفؤاد عبد القادر ومحاميه عند وكيل النيابة .. ولما تأخر خروجهما ذهبت لتناول الغذاء ونسيت الموضوع كله وعدت للمنزل في المساء .. . . فما الذي حدث منذ غادرت النيابة حتى الآن؟".
وبدأ مؤنس حديثه وبهي منتبه بكل حواسه:
"وكيل النيابة كان متجها لحبس فؤاد عبد القادر على ذمة القضية أولا لأنها قضية رأي عام . . . . المحامي أصر على اعتبار الأمر مجرد خطأ في كتابة البيانات، وبالتالي حدث بحسن نية، لكن تقدير حسن النية في نظر وكيل النيابة كان متوقفا على نتيجة تقرير المعمل، وطبعا أي وكيل نيابة تكون أمامه قضية رأي عام يتصرف فيها بيد مرتعشة ويميل للتشدد".
اعتدل بهي في جلسته وقال :
"طبيعي .. حتى الآن لا مشكلة".
مد مؤنس يده لعلبة السجائر الموضوعة أمامه وأشعل سيجارة وأشار لبهي بواحدة فأخذها دون تعليق ومؤنس يستمر في السرد:
"محامي فؤاد عبد القادر طلب من وكيل النيابة الإفراج فرفض، وثار نقاش قانوني انتهى إلى ضرورة الحصول على تقرير المعمل أولا .. .. وبدأ فؤاد ومحاميه اتصالات على أعلى مستوى، لأنهما اعتبرا أن حبس فؤاد على ذمة القضية إساءة لشخصه ولشركته".
وأراد بهي أن يقاطعه فأشار إليه مؤنس بيده وأكمل:
"أرجوك .. اسمع أولا .. في النهاية تم الاتفاق على إجراء تحليل أولي في اليوم نفسه على أن تستكمل التحليلات بعد صدور قرار الإفراج عنه، قبل الطرفان هذا الحل الوسط، وكانت كل الأطراف تعتبر نتيجة التحليلات تحصيل حاصل .. المفاجأة كانت أن نتيجة التحليلات المبدئية سلبية وأكدت وجود بقايا لحم بشري في المنتج الذي يستورده فؤاد عبد القادر".
ولم يستطع بهي أن يكتم حيرته واستغرابه لما يسمع فقاطع مؤنس:
"ولكن فؤاد عبد القادر ومحاميه ليسا ساذجين ليطلبا هذه التحليلات إلا إذا كانا متأكدين من سلامة موقف فؤاد القانوني، كما أن فؤاد عبد القادر ذهب للنيابة بنفسه ولم يقبض عليه، كان أمامه فرصة كافية للهرب لو أراد".
تصرف مؤنس كما لو كان يتجاهل محاولة بهي لإخضاع ما حدث للتحليل المنطقي وألقى قنبلة أخرى:
"فؤاد عبد القادر أصبح خارج الموضوع تقريبا .. وربما بشكل نهائي".
وبدا الأمر أكثر استعصاء على الفهم بالنسبة لبهي فقال:
"هذا أغرب .. كيف وهو المستورد ؟ .. إنه المسئول الأول".
عاد مؤنس لسرد الأحداث في تتابعها المثير فقال:
"فؤاد عبد القادر أصيب بانفجار في شرايين المخ بمجرد علمه بنتيجة التحليل .. وهو الآن في المستشفى في غيبوبة تامة".
وألحت على بهي فكرة المؤامرة بشكلها الساذج وقال:
"وهكذا تدفن معه الحقيقة . . . ربما كان مجرد ضحية في لعبة أكبر منه؟".
"فؤاد عبد القادر لم يعد المشكلة .. والخيوط التي ظهرت خلال ساعات عقدت الموقف بدرجة لن تكن متوقعة"
وتساءل بهي:
"أية خيوط .. هل هي رواية بوليسية يا أستاذ مؤنس؟".
واستطرد مؤنس:
"النتائج لخطورتها الشديدة قبل إبلاغها للنيابة العامة تم إبلاغها لجهات عليا .. ويبدو أن هناك من تبرع بإبلاغ سفارة فرنسا التي دخلت الخط بسرعة طالبة وقف النشر عن الموضوع".
وألحت الأسئلة على بهي فقاطع مؤنس من جديد:
"فؤاد عبد القادر استورد المنتج من تايلند فما دخل فرنسا؟".
"هذا مربط الفرس"
قالها مؤنس وتنهد وبدأ يتكلم بلهجة أقل إثارة مشيرا بيديه على سطح المكتب كما لوكان خريطة مرسومة:
"المنتج المستورد تنتجه شركة فرنسية عابرة للقارات رأسمالها فرنسي وإدارتها في بيروت ومصانعها موزعة في عدة دول منها تايلند .. لكن العلامة التجارية فرنسية والشركة تعتبر تايلند مجرد مكان ملائم للتصنيع والتغليف بسبب الأيدي العاملة الرخيصة والتسهيلات القانونية".
وانتبه بهي متأخرا جدا إلى أن ما توفر لمؤنس من معلومات غزيرة عن موضوع كهذا محظور النشر فيه هو الآخر غريب فقال:
"ومن أين لك كل هذه المعلومات الدقيقة في هذا الوقت المحدود؟"
ابتسم مؤنس وقال:
"سؤال مهم لكن الإجابة عنه تأتي بعد إطلاعك على بقية التفاصيل".
واستطرد مؤنس:
".. حظر النشر يعني حظره في مصر فقط، وهو سيدفع الناس للبحث عن الحقيقة في الشائعات .. الأرجح أن تنتهي الدعوة القانونية بموت فؤاد عبد القادر .. أو بالعفو عنه لأسباب صحية ليس هذا هو المهم".
وتساءل بهي في هدوء أحدثته الصدمات المتوالية:
"فما المهم إذن؟"
واكتسى صوت مؤنس بنبرة حماسية واضحة وانتقل من على مكتبه ليجلس بجوار بهي وقال:
"المجد المهني .. .. وهذا يتصل بسؤالك عن مصدر معلوماتي، فهناك جهات عديدة منافسة لهذه الشركة، ومنها شركة عابرة للقارات أمريكية الجنسية قررت تمويل إيفاد صحفي لجمع معلومات عن الأمر، وسيكون الاتفاق من خلال وكالة أنباء عالمية تنشر سلسلة من التحقيقات المصورة عن حقيقة القصة المثيرة في صحف عديدة بلغات مختلفة .. أنا لا أستطيع السفر بنفسي لأنني مثقل بارتباطات عائلية ومهنية . . كما أن هذه المهمة تحتاج إلى شاب طموح مثلك . . . وقد رشحتك للسفر .. .. على أن أقوم أنا بتوفير معلومات من مصادر أخرى وأتولى صياغة المادة وإعدادها للنشر .. و.. .."
ووصل العرض المغري للحظة الذروة:
"والمكافأة المقترحة عشرون ألف دولار غير مصاريف السفر والإقامة. . .. والمكافأة ستكون مناصفة بيننا".
لم يفشل مؤنس في إثارة فضول بهي وحماسه، لكنه كان المستوى الشخصي على أعتاب تحول حقيقي جعله يفكر لأول مرة في حياته أن يتصرف انطلاقا من استشعار مسئولية أخلاقية وإنسانية، صحيح أن العرض المغري الذي يقدمه مؤنس هو في النهاية جزء من آليات المنافسة الاقتصادية الشرسة التي لا قلب لها ولا أخلاق، لكن بإمكانه أن يحقق أهدافا يراها نبيلة ولا تتعارض مع أهداف ممولي المشروع.
أسباب كثيرة جعلته يعرف قيمة الصمت والتروي بعد أن كان مثالا للسرعة في الفعل ورد الفعل والانفعال، يتكلم بسرعة .. يحب بسرعة .. يشتهي بسرعة .. يمل بسرعة.
وطال صمته على غير المتوقع فباغته مؤنس بسؤال:
"هل أنت خائف يا بهي؟"
وخرج رده واثقا:
"إطلاقا .. .. ولكن الأمر كله مفاجأة كبيرة ومربكة .."
ركز بهي نظره على النافذة المفتوحة خلف مؤنس للحظات كأنه يقرأ خلالها:
"أنا موافق .. .. ما المطلوب؟"
وابتسم مؤنس ابتسامة المنتصر وقال:
"أرسل إلى بالفاكس الصفحات الأولى من جواز السفر وسأتولى ترتيب كل شيء".
نهض بهي وحمل حقيبته وغادر الحجرة وهو يلتفت إلى مؤنس:
"خلال ساعة على الأكثر تكون عندك .. .. وطبعا ستكون هناك جلسات قبل السفر للإعداد".
واختفى بهي سريعا .
وقد بهي منذ لقائه مع رئيسه في العمل "مؤنس" على موعد مع غائب آخر سيكون أحد الشخصيات الرئيسة في الجزء الباقي من الرواية، إنه شهاب علم الدين وهو أعز أصدقاء بهي الأحمدي وفي الوقت نفسه نقيضه الذي شاركه السكن لسنوات وهو مسيس متحمس قرر منذ سنوات أن يحمل حقيبته لينطلق إلى بيروت مشتركا في المقاومة وهناك اختفت أخباره. وبعد تحولات نفسية وفكرية قاسية يكابدها بهي الأحمدي يسافر إلى بيروت باحثا عن شركة فرنسية يملكها حفيد أحد ضباط جيش الاحتلال الفرنسي في الجزائر، ونراه يستعين بأوراق تركها صديق عمره شهاب علم الدين تتضمن جزءا وثائقيا في الرواية استعان فيه المؤلف برسائل حقيقية يذكر في تنويه في نهاية الرواية أنها منقولة حرفيا من مصادر تاريخية. وفي بيروت يكتشف سريعا أنها تجارة منظمة في لحوم البشر أعقبت مجزرة صابرا وشاتيلا وأن صديق عمره راح ضحيتها فيعود إلى مصر ليدفن بقايا صديقه في جنازة غريبة لدفن علب لحم محفوظ.
الرواية من الأعمال القليلة التي يكون فيها "الفرنسي" بالمخالفة للتيار السائد الذي يجعل "الأمريكي" رموزا للشر، فضلا عن استخدام صاحبها آليات متعددة ومستويات مختلفة من التحليل النفسي والجدل الفكري في رواية مليئة بالأحداث رغم حجمها الصغير نسبيا.
– الكتاب: القاهرة... بيروت... باريس
– المؤلف: ممدوح الشيخ - مصر
– الناشر: الدار العربية للعلوم – بيروت
– الطبعة الأولى: 2006
– الحجم: 112 صفحة من القطع المتوسط