العراق… الأبد حين يتذكّر نفسه
يا عِراقُ…
يا ما تبقّى من فكرةِ اللهِ حين فَكَّرَ في الخلود،
يا شَغَفَ الطِّينِ الأوّلِ حينَ لامَسَ النَّارَ فصارَ إنسانًا،
يا حُلمًا قديمًا،
يُحاوِلُ أن يُكمِلَ سطرَهُ في كتابِ الكَونِ،
لكنَّ الدَّمَ يُغنّي بدلَ الحبر.
يا عِراقُ…
يا تَنهيدةَ السَّماء على الأرض،
يا مَهبطَ الوحيِ حين تَعبَتِ الملائكةُ من الطّيران،
فاستراحتْ على مَآذِنِكِ،
وغَفَتْ في ظلِّ نخيلِكِ،
تُحصي النُّجومَ وتُصلّي.
من تُرابِكِ وُلدَ الحرفُ الأوّلُ،
وفي نَهريْكِ اغتسلتْ البَشَريةُ من جَهْلِها،
وفي خُبزِكِ تعلَّمَتْ أنَّ الجوعَ ليسَ نَقصًا في الطَّعام،
بل في العَدالة.
يا بابلُ…
يا قصيدةَ اللهِ الّتي كتَبَها بالنّارِ فَتَرجَمَها الإنسانُ إلى لغاتٍ من طِين.
منكِ تَعَلَّمَتِ الأرضُ أن تُخطِئَ،
ومن رمادِكِ وُلِدَ العِلمُ والجنونُ والندم.
ويا أورُ، يا حاضنةَ إبراهيمَ في لَيلِ الشّك،
ما زالَ سُؤالكِ يتردَّدُ في قلوبِنا:
“أينَ الله؟”
فإذا رفعنا رؤوسَنا إلى السَّماء،
أجابَنا العراقُ من أعماقِه:
“هُنا، في الإنسان.”
يا نينوى،
يا عَينَ اللهِ الباكية،
كم بكى نبيّكِ، وكم بكى الحُكماء،
ولم يَعلموا أنَّ اللهَ يَبكي حينَ يَرى العِراقيَّ يَبتسم.
يا كربلاءُ،
يا سِفرَ الحُزنِ المكتوبَ بالحبِّ،
يا نُقطةَ النّقاءِ التي انتصَرَ فيها المَوتُ بالحياة،
منكِ وُلِدَ المعنى:
أن تموتَ من أجلِ مَن تُحب،
لا أن تَقتُلَ باسمِهِ.
يا بغدادُ…
يا جَرحَ اللهِ في جَسدِ الأرض،
كم مرَّتْ عليكِ الجيوشُ كالأحلام،
تَكسِرُكَ ثمَّ تَنحني لتستغفِرَكِ.
كم احترقتِ لتُضيئي أكثر،
وكم فقدتِ أبناءَكِ لتَعرفي أنَّ الأمومةَ فِعلُ فداءٍ لا فِعلُ ميلاد.
فيكِ يتعلَّمُ الشُّعراءُ أنَّ الجَمالَ لا يُرى،
بل يُوجَعُ.
وفيكِ يَكتبُ المتنبّي قصيدتَهُ الأخيرة في صَمتٍ،
ويُخفيها في قَلبِ نَخلةٍ كي لا تموت.
يا عِراقُ،
يا مَسرَحَ القيامةِ الأولى،
ومِلحَ الأرضِ الأخيرة،
يا حكايةً نَصفُها مِن نارٍ ونصفُها مِن صَلاة.
ما أعمقَ وجعَك،
وما أبهى هذا الوجع حينَ يَصيرُ معنى.
كأنَّكَ تُعلِّمُنا أنَّ الحياةَ ليستْ أن نَعيش،
بل أن نُقاومَ نسيانَنا.
يا عِراقُ،
أنتَ النَّجمُ الذي سَقَطَ في الوحلِ،
لكنَّهُ أضاءَ العالم.
أنتَ الكِتابُ الذي مُزِّقَت صفحاته،
لكنَّهُ ما زالَ يُقرأُ في أرواحِ العالَمين.
أنتَ… الشَّهادةُ الوحيدةُ على أنَّ الإنسانَ —
برغمِ كلِّ هذا —
ما زالَ جميلًا.
