قراءة نقدية في كتاب سراديب الذاكرة لفوزية كتّاني
يشكّل كتاب سراديب الذاكرة للكاتبة فوزية كتّاني عملًا أدبيًا متميّزًا في طبيعته وبنائه، فهو لا ينتمي إلى جنس سردي واحد، بل ينهل من السيرة الذاتية، والحكاية الشعبية، والذاكرة الجمعية، والشعر، ليصوغ نصًا تنصهر فيه التجربة الفردية مع الوجدان الجماعي.
وقد صدر الكتاب عن دار سهيل عيساوي للطباعة والنشر، وهي دار باتت علامة في تشجيع الإصدارات التي تحمل قيمة ثقافية وتراثية أصيلة.
منذ الصفحات الأولى، تدرك الكاتبة أن الذاكرة ليست أرشيفًا للصور، بل كيان نابض يعيد إنتاج ذاته.
لذلك لا يكتفي سردها بوصف ما جرى، بل يغوص في كيف ولماذا تتشكّل الذكريات، وما الذي يجعل التفاصيل الصغيرة تتحوّل إلى لحظات مؤسسة في الوعي.
السرداب… مجاز الذاكرة وعتبتها
تقسّم فوزية كتّاني كتابها إلى «سراديب»، وهو اختيار دلالي موفق؛
فالسرداب ليس مجرّد فصل، بل نافذة داخل ذات تتأمل ماضيها.
كل سرداب يضيء جانبًا من الحياة الريفية الفلسطينية:
طقس يومي، عادة اجتماعية، رائحة خبز تنبعث من فرن الطين، عباءة امرأة، زغرودة، أو مشهد عابر يظل يرافق الذاكرة رغم بساطته.
يتحوّل الكتاب إلى رحلة زمنية، لكنها لا تنحاز إلى النوستالجيا العاطفية؛
فالكاتبة تعالج الماضي بصدق ووعي، من دون تمجيد أو جلد، بل باعتباره لبنة أساسية في بناء الهوية الفلسطينية.
المرأة مركز الحكاية وروح النص
تحضر المرأة في الكتاب بوصفها القلب النابض للذاكرة:
هي الأم، والجدة، والمعلمة، وحافظة العادات، وصانعة التفاصيل اليومية.
رغم بساطة أدواتها، تمتلك حضورًا قويًا تنسجه كتّاني بحساسية عالية.
في شخصيات مثل حفظة، وفي قصص النساء العاملات في البيت والمزرعة، نرى كيف كانت المرأة تشكّل ركيزة اجتماعية وثقافية،
وكيف حافظت على ترابط العائلة والحيّ، وعلى انتقال القيم بين الأجيال.
بهذا، يقدّم الكتاب رؤية جديدة لمكانة المرأة الريفية التي غالبًا ما تُهملها الكتب التاريخية التقليدية.
من الخاص إلى العام… ومن البيت إلى الوطن
تنجح الكاتبة في تحويل التجربة الشخصية إلى تجربة جماعية.
فالقرية — بما فيها من بيوت طينية، آبار ماء، مواسم حصاد، أعراس، أسواق، وأصوات الطبيعة — تتحوّل إلى بطل سردي قائم بذاته.
تكشف قصص الكتاب البنية الاجتماعية القائمة على:
• التعاون
• الترابط العائلي
• احترام الأرض والعمل
• الاحتفاء بالمناسبات الشعبية
ليس الماضي هنا لوحة مثالية، بل حقيقة اجتماعية تُقدَّم بصدقٍ ووعيٍ نقدي.
حكايات الأطفال… ترميم للذاكرة عبر الخيال
تختم الكاتبة كتابها بمجموعة قصص موجهة للأطفال، من بينها:
• زيتونة الحاكورة
• شارع الفارس محفوظ
• ثلاث سنابل وشبيل
وهي حكايات تتجاوز الترفيه نحو ترسيخ الذاكرة الشعبية لدى الجيل الجديد.
فالحكاية تصبح جسرًا يصل الطفل بجذوره، ويعرّفه على قيم الأرض، والمثابرة، والوفاء، والعمل.
بهذا، يكتسب الكتاب وظيفة إضافية:
إنه ليس مجرد استعادة للماضي، بل مشروع تربوي وثقافي ممتد في الحاضر.
لغة الكاتبة… بين الشفوية والشعر
تكتب فوزية كتّاني لغة تشبه نبرة الحكاية الشفوية، لكنها مصاغة بحرفية شاعرية واضحة.
لغة مشبعة بالتفاصيل الحسية:
روائح، ألوان، ملمس، أصوات، جمل قصيرة تنبض بإيقاع الحياة الريفية.
وتختتم الكاتبة عملها بنصوص شعرية تعمّق البعد الوجداني،
وتفتح أمام القارئ نافذة على عاطفة المكان والإنسان.
خلاصة نقدية
يقدّم كتاب سراديب الذاكرة نصًا متعدّد الطبقات:
يجمع بين المتعة والمعرفة، بين الوثيقة الأدبية والحكاية الشعبية،
وبين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية التي تصنع هوية مجتمع كامل.
نجحت الكاتبة فوزية كتّاني في كتابة نص يليق بالتراث الفلسطيني،
وفي منح التفاصيل اليومية قيمتها الحقيقية.
أما دار سهيل عيساوي للطباعة والنشر فقد أضافت إصدارًا نوعيًا إلى رصيدها الأدبي المتخصص بالتراث والثقافة المحلية.
إنه كتاب يُقرأ… ويُحَسّ… ويستحق أن يُهدى للأجيال بوصفه جزءًا من ذاكرة وطن.

