الأربعاء ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٣
بقلم محمد فرج البدري

الصندوق

في تمام اليوم المكمل للعام الألفي كان الأمر بالإفراج.. الشمس.. الهواء.. الحياة.. الحرية. ذاكرته الصندوقية لا تتذكر سبب اعتقاله ولاحريته. كل ما يذكره صندوقه الحديدي خزانة مكعبة تضغط جسده في شبه كرة؛ رأسه بين قدميه. ليس هناك أدنى مساحة لحركة زائدة.. فقط فتحات ثلاث في الصندوق.. هواء.. غذاء.. إخراج. مئات من السنين قابع في صندوقه.. لا يسمع إلا قرقعة السلاسل.. أحيانًا مطارق.. أحيانًا فحيح النيران. إلى أن اختلطت الأصوات في المائة الخامسة.. في فترات الرحمة والأعياد والمنح كانت تغسل زنزانته بالماء – وهو فيها – وتعلق في آتون الشمس حتى الانصهار. في لحظات العطاء كانت تتأرجح وتدور حتى الإغماء.. وأحيانًا تنسى ويغزوها الطحلب فيتلهى بمداعبة المخمل الآسن. أو تغمرها عاصفة رملية فيطيل البحث عن الثقب الأوحد للهواء.

أعوامًا كانت أعضاء تناسله توشك أن تزرع في أحشائه طفلاً - لكن ضيق الزنزانة لم يسمح – في المائة الخمس الأولى كان سؤال يتردد في عقله عن بعض سنتيمترات فارغة.. في المائة الخمس الأخيرة سدت لحيته وشاربه وشعر رأسه هذه المساحة فلم يسأل. واليوم قذفوه خارج زنزانته متكورًا متدحرجًا على نداوة شارع شتائي.. أغشاه الضوء الباهت.... آلمه الهواء النقي.. اشتمت أنف مجبولة على رائحة الصدأ مكان الزنزانة عاد إليها في شكل كري معتمدًا على أطراف أربعة .. أدمته نتوءات الشارع.. ينزف صدأً ورمالاً وطحالب خضراء.. وصل إلى الصندوق تمسك بحوافه.. حاول أن يدخل . وجد بالداخل جسداً متكوراً مازال في مرحلة الأنين المكبوت.. صارع في يأس.. لكنه.. مات على أعتاب الزنزانة الرطبة.. والحرية


مشاركة منتدى

  • حين تتوه الحروف في غابات الكلام يكون الجمال أخذ مأخذه في وحي الأبجديات
    فأنا لا أجد ما أصف مشاعري تجاه الوجع الذي أشعرتني به في تلك الزنزانة التي هي جزء من حياة العربيّ في أي وطن كان له....وصف دقيق لكومة إنسان وبقايا حياة مرهونة بين الجدران....ولا هناك شيء يذكّر بالحياة....جميل بوحك ...وإلى البعيد تشدنا في قصتك الملهمة بحزنها في تلك الزنزانة/ وزنازين الحياة.....
    مبدع شاعرنا المتميز ولمصر الحب والسلام.
    الكاتبة والشاعرة: أسمى وزوز
    فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى