الجمعة ٢٠ آذار (مارس) ٢٠٠٩
مقالات سساخرة
بقلم وليد رباح

السيرة الذاتية والتاريخية لحذائي الجميل

يحفل الأدب العربي بسيرة الحذاء..اذ كرمه على الناس احيانا لما له من فضائل جمه.. فمثلا يمكنك استخدامه عندما تدخل معركة مع خصمك فلا تجد شيئا تشج به رأسه سوى الحذاء..وللمرأة أن لم تجد شيئا تستخدمه ضد رأس زوجها او قفاه..وللطفل عندما يتعارك مع اقرانه..او على الاقل يمكن استخدامه ضد رئيس بلد لا يعجبك شكله او تصرفه..
وللحذاء في أدب العرب أقاويل.. فإضافة لحذاء الطنبوري هناك حذاء الخليفة..وخفي حنين وأحذية الحرافيش والسائحين والشيوخ والكهنة.. وكل سير الأحذية في الأدب العربي تدل على أن صاحب الحذاء قد مله أو مل الحذاء صاحبه.. حتى غدا التنبيه إلى قصص الحب العربية توصم بالحذاء.. فيقال فلان لا يغادر فلانة إلا وقت أن تغمض أجفانهما مثل فردة الحذاء والفردة الأخرى.. أو وصف عشيقة لعشيقها قائلة أننا سويا نليق ببعضنا بعضا مثل فردة الحذاء والأخرى.. واستثني من ذلك الصغار إذ انهم يلبسون الأحذية مقلوبة في معظم الأحيان فتصبح الفردة اليمنى هي اليسرى والأخرى هي اليمنى فيسيرون وقد التوت أقدامهم يأتون كأنهم ذاهبين.. ويذهبون وكأنهم يأتون..

وقد دفعت إلى كتابة سيرة حذائي دفعا إذ مللته فأخذت أشتمه صبحا ومساء لأنه لا يغادر مفاصل قدمي إلا عند النوم.. بل أنه في بعض الأحيان لا يغادر حتى وقت النوم فاضطر إلى النوم به توقيا لحالة طارئة فلا اضطر للبحث عنه فأجد فردة في أول البيت وأخرى في آخره لأن ابنتي لا تحب اللعب إلا به ولبسه والتباهي أنها أصبحت كبيرة تقلد الرجال في لباسهم.. وهكذا فإن الحذاء يلازمني حتى في نومي.. وهو في ذلك افضل كثيرا من زوجتي التي لا أراها إلا بضع دقائق قبل أن اغط في نوم عميق نتيجة الجهد الذي ابذله في نهاري..وأفضل من غذائي وطعامي لأن الناس لا تدري ما بداخل بطني ولكنهم ينظرون إلى قدمي أن كنت حافيا او لابسا فأتعرض للهزؤ والسخرية أن كانت الأولى فلا أجد ما أرد به على هزئهم.. وعلى سخريتهم..

وحذائي (طويل العمر) أبقاه الله لي سندا ودرعا.. قد ملني حتى غدا يطلب مني أن اغادره ولو لدقائق يوميا.. إذ ما أن اخلعه حتى يهرع الجيران للاتصال ببوليس النجدة الذي يحميهم من عكننة حذائي.. لأن رائحة قدمي تملأ المكان ولا تنفع في تهدئتها كل عطور الدنيا.. فتهرب زوجتي والصغار من المنزل.. يجلسون في ساحته حتى ولو كان الثلج يتساقط.. فالثلج ارحم من تلك الرائحة الزكية التي يبثها حذائي قبل أن تلبسه ابنتي الصغيرة وتتغزل بقيطانه الاسود الرقيق الذي يشبه رقة شفاه حبيبتي يوم كنت شابا صغيرا.. وتلك أسطورة أخرى سوف نأتي عليها في مقام آخر..

وحذائي (كما لا تعلمون) معجون بطينة أمريكية عربية مشتركة.. تماما مثلما التزواج بين الشفة والاخرى.. إذ تتعاون أمريكا مع عرب الزمان الأخير لتنفيذ الديمقراطية العرجاء.. وتفسير ذلك أنني اشتريته من محل أحذية قديمة تنتشر في أمريكا مثل البثور وتسميها الإدارة الأمريكية (ثرفت ستور) تلك المحلات التي تبيع ملابس وأحذية قديمة لمن لا يستطيعون شراء الجديد.. ويعلم الله كم مر في تاريخ ذلك الحذاء من عجائب.. وربما لبسه قبلي من مله فتبرع به (مشكورا)لتلك المحلات التي تبيع القديم بدل أن يلقيه في زبالة المدينة فكسب به أجرا.. وهذا هو السر الذي تخرج فيه رائحة الحذاء سريعة او بطيئة.. فإن كان الحذاء قد مل صاحبه فإنك تشم رائحته بعد يوم واحد من احتذائه.. وان كان صاحبه قد مله فإنك تشم رائحته الزكية بعد شهر أو اكثر أو أقل حسب سيرة الحذاء وتاريخه.. وحسب جدته وقدمه.. فالأحذية لها تواريخ محفورة في الذاكرة مثل معارك العرب ضد إسرائيل تماما.. فتارة يهزم العرب إسرائيل بالصياح ويعتبرون ذلك نصرا مؤزرا ويكتب التاريخ عن نصرهم قصائد ينظمها الشعراء بشيء من النفاق وكثير من الصراخ.. وأخرى تهزم إسرائيل العرب عسكريا فيتحدث شعراء العرب عن (النكسة) وخطوط الدفاع الثانية.. تماما مثلما هو تاريخ الحذاء الذي تمله او يملك فيكتب ذلك في تاريخه الناصع البياض.
في مرة ذهبت للصلاة في مسجد قريب من مكتبي فجاء من هو أعمى القلب ومفتح العينين فلبس حذائي وترك لي حذاءه إذ كانا يتشابهان في كل شيء إلا في الرائحة.. فكتبت اعلانا في الصحف المحلية عل من اخطأ في لبس الحذاء أن يعيده لي.. غير اني لم اسمع عنه خبرا طيلة شهر كامل.. وأخيرا وجدت حذائي باب مكتبي في الصباح وقد كتب من كان يلبسه رسالة وضعها في داخله يقول فيها بالحرف : لعنة الله عليك وعلى حذائك.. فقد طلبت زوجتي الطلاق لأنها لا تستطيع النوم والحذاء يرمقها برائحته النفاذة.. وهكذا عاد إلى الحذاء معززا مكرما بعد أن سكب من كان يلبسه اكثر من زجاجة عطر في داخله عله يغير (عادة الحذاء) في نفث سمومه ولكنه لم يغير فيه شيئا.. وقد تخيلت الحذاء يبتسم لي ابتسامة مرحة ساخرة وأنا احشر فيه قدمي ويقول لي : ها قد عدت إليك فلا تفكر بالخلاص مني ثانية.. فأنا قدرك الذي كتب عليك منذ يوم ولادتك..
فكرت في أن أتبرع بالحذاء إلى (الثرفت ستور) فعطرته ولمعته وأفنيت ساعات في تحسين هندامه ومظهره.. وما أن فتحت الكيس (لأهديه) للسيدة الأمريكية العجوز حتى صرخت بملء فمها قائلة: ابعد هذه الزبالة عن انفي.. فان لم تفعل ساتصل بالاجهزة الامنية لردعك.. وهكذا عدت به ثانية إلى مكتبي.

فكرت ثانية في أن اهديه لرجل أمريكي يتخذ من الارصفة فندقا له ينام فيها على غير استحياء من المارة.. وقد دققت النظر فيه جيدا فوجدته حافي القدمين على عادة (الهيبيز) فقدمت إليه الحذاء عن طيب خاطر فقال لي : ويلك.. انني افضل قضاء عمري حافيا عن أن البس هذا الحذاء المتعفن.. اغرب عن وجهي.

وفي مرة ثالثة فكرت في أن أهديه لأول زعيم عربي يزور واشنطن ليطلب دعم موازنة البلاد التي أتى منها لأنها تعاني الفقر والفاقة.. فقال لي الزعيم العربي: يا بني.. إنني احتذي الشعب العربي بكامله.. من أعلى رتبة في الجيش إلى (الزبال الذي يعمل في المقابر) فلست بحاجة إلى حذاء جديد مثل حذائك.. تبرع به لأغنياء الوطن العربي لانهم يعتقدون أن ما يأتي من أمريكا فهو (سوبر) وحذاؤك أمريكي الصنع فلا تقل لهم انك عربي وقد لبسته..لأن العربي في نظرهم حتى وان كان مهاجرا زبالة يجب أن تلقى على قارعة الطريق.. وهكذا اقتنعت بما أبداه الرئيس (أيده الله بنصر من عنده) ورجعت بالحذاء ثانية من واشنطن إلى ولاية نيوجيرسي أجر أذيال الخبية والمرارة.

وفي مرة أطلقت عليه النار لكي اخرم لسانه الطويل (لسان الحذاء) ثم وضعته في الزبالة فإذا (بالزبال) – الذي يلبس في أمريكا عادة رباط عنق اصفر اللون يعكس الفسفور فلا تدوسه السيارات الذاهبة الآيبة..- يعيده إلي قائلا: سيدي.. يبدو أن اطفالك قد القوا بهذا الحذاء (الجميل) إلى الزبالة دون علمك.. وتركه على الباب مشكورا بعد أن تباطأ بالمغادرة لا نفحه بالبخشيش كما ينبغي لرجل متحضر يحترم الزبالين إلى ابعد حدود الاحترام.. ولكني لم انفحه البخشيش لاني كنت غاضبا من تصرفه..

مرة أخرى عولت على أن أدفنه على رصيف الشارع قرب الزهور التي تقع على جانبي الطريق فاتخذ له قبرا محترما أبديا لا يخرج منه حتى وان قامت القيامة.. فإذا بالجيران قد اتصلوا بالبوليس الأمريكي وأبلغوه أن ارهابيا قد خبا (سلاحا) تحت شجرة باسقة على الرصيف ومن المحتمل أن عملا (جنونيا) سوف يرتكب في هذه الليلة الليلاء فجاء البوليس بقضه وقضيضه وصفاراته وأضوائه ترافقه عدسات التلفزيون والصحافيون المحليون في الضاحية وطلب إلى الحفر حيث دفنت السلاح أو (المتفجرات).. فإذا بهم في النهاية يسجلون محضرا طويلا عريضا بأني أتلفت (زهور البلدية) فدفعت مخالفة قدرها مائتا دولار عدا ونقدا عوضا عن المحكمة التي ضيعت فيها نهاري بانتظار أن يلفظ القاضي بالحكم على الحذاء وصاحبه.
وعلى مدار الأيام التي تلت كنت أضع الحذاء إلى جانبي وأقول له (أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) وان (أي اعتداء على حذائي يعتبر اعتداء على أحذية العرب في كل أمريكا) وان (التضامن العربي يقتضي مني أن اعترف:.. أن السفراء العرب في كل أمريكا جهلة لانهم متضامنون مع زوجاتهم فقط ولا يفعلون شيئا لخدمة ابناء بلدانهم.. وان (الفساء العربي قد منع اسرائيل من اقامة المستوطنات والحواجز في فلسطين.. وان (الدليل السري الذي تتبعه المخابرات الأمريكية المحلية لترحيل العرب إلى أوطانهم ثانية) وان (الحكام اللصوص في الوطن العربي وزبانيتهم ممن يأكلون أموال الناس بالباطل ثم يتحدثون عن الشرف والكرامة العربية) وأن (التضامن مع السلطة الوطنية أمام حماس)كلها تقف متضائلة أمام التخلص من هذا الحذاء الرقيع الذي جلب لي المصائب من حيث ادري ولا ادري.. وكل ذلك مرهون بإلقاء هذا الحذاء في بئر عميقة لكي تعود الأمور إلى نصابها وتصبح الديمقراطية جزءا من الحياة العربية.. فعولت على أن افعل ذلك ولكني اكتشفت أن الأمريكان لا يحفرون الآبار الارتوازية فالمياه عندهم متوفرة فوق قشرة الأرض ولا مجال للتخلص منه إلا بالتخلص من استماعي للمطربين العرب الجدد..

استشرت (مختار الجالية) العربية في نيوجيرسي للتخلص من حذائي فقال لي: عليك بالرئيس اوباما.. فسوف يضعه في طائرة مدنية عربية تسقط في البحر مع الصندوق الأسود فيختلط الأمر على المحققين الأمريكيين فلا يعرفون الصندوق الأسود من الحذاء.. وقال لي المختار أيضا: يا ولدي.. أنت محظوظ في امتلاكك للحذاء.. فمعظم اطفال العرب بل وحتى رجالهم في مجاهل اوطانهم التي تنتج النفط لا ينتعلون سوى الحصى ورمل الطريق.. ووجدت أنها فكرة جيدة.. ولكن كيف السبيل إلى تنفيذها..أخبروني..

أخيرا هدأت.. وعولت على أن احتفظ بالحذاء حتى لو طلبت زوجتي الطلاق.. أتعرفون لماذا؟ لاني سوف استخدمه في يوم من الأيام ضد رئيس عربي يأتي إلى امريكا فتشهرني الصحف والمجلات والفضائيات لاني قمت بعمل مجيد ضد دكتاتور متعفن..

ولكن زوجتي لعنها الله لم تترك وسيلة الا اتبعتها للتخلص من الحذاء فقد ساءها أن اتملص من مسئوليته فاخذت على عاتقها ابعاد رائحته عن العائلة.. وتذرعت بصحة الاطفال.. ارسلته مرة بالبريد المسجل إلى عائلة مستورة في الوطن فاعيد لها الحذاء بعد أن قال رب العائلة في رسالة مرفقة : اشكركم.. لقد شممنا فيه رائحة امريكا الرائعة.. لذا فاننا نعيده لارساله إلى عائلة اخرى كي تكتشف ارض الاحلام الامريكية.. وفي مرة اخرى ارسلته لفلاح في البلاد ايضا قيل انه ينتعل التربة الحمراء فاعاد الحذاء الينا في رسالة مرفقة يقول فيها : انه حذاء جميل.. ولكن البقرة التي تحرث الارض هربت إلى جهة مجهولة عندما اشتمت رائحة متعفنة آتية من الحذاء.. وما زال البحث عنها جاريا.. وفي مرة ثالثة أرسلته للبيت الابيض مع رسالة مرفقة كي تهديه للرئيس الامريكي.. فظن الموظفون انه الحذاء الذي ضرب به الرئيس الامريكي السابق فاجتمعوا.. وقرروا وضعه في المتحف الواشنطوي.. لكن زوار المتحف عزفوا عن زيارته لان كل التكنولوجيا الامريكية لم تستطع أن تزيل تلك الرائحة.. فاضطر مسؤولو المتحف للتخلص منه واعادته الينا..

عزيزي القارىء

اشعر انني قد اطلت عليك.. ما زال الحذاء في بيتي يرمقني بنظرات مبهمة.. احلم به ليلا فيمد لي لسانه الطويل وكأنى به يقول : لعنة الله عليك.. سوف اكتب في وصيتي أن ادفن معك في قبرك.. ولن اغادرك حتى ارى حساب الملائكة فاكون شاهدا على ما فعلته بي.. وسوف اكلف احدهم لكتابة جملة مفيدة فوق شاهد قبرك : هنا يرقد وليد رباح الذي مات ولم يستطع التخلص مني.. فكيف اذا ما اراد التخلص من زوجته الجديده.. افيدوني !!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى