الخطاب الصوفي
ابن عربي نموذجا.
لعل أغلى ميزة ينماز بها التراث الصوفي هو ذلكم الجانب الباطني للأشياء ما علمت منها الذات الإنسانية –المتعاملة مع هذا الرصيد المعرفي-وما لم تعلمه؛ تلكم المعاني التي أضحت الذات المتصوفة تنفرد بها وهي تصبو نحو اللامتناهي أو اللامعرفة أو اللاعقل أي المطلق،وهي إذ تقوم بهذه الطريقة لعلمها اليقيني بأنّ الخالق عزّ وجل قد بثّ في الذات الإنسانية مجموعة من النواميس الفطرية والوجودية لكي تتحلى بالجانب الإطلاقي شكلا ومضمونا.
إنّ الحديث عن واقع الشرعية المعرفية التي تتوسط بين(الوحي/التلقي) – قائمة أو غائبة – لا يتأتى لنا فهمها ولا يستقيم لنا أمرها،إلا إذا قام بالضرورة ضدها،أو بضدها تعرف الأشياء. إننا نعني مفهوم الأمانة والخيانة؛فالأمانة والخيانة مقولتان ذهنيتان متلازمتان كتلازم مقولتي الزمان والمكان،ما أثرنا الواحدة منهما إلا واضطررنا إلى ذكر الثانية.فما المقصود بهما؟أو بالأحرى،ما المقصود بالأولى حتى تنتفي الثانية؟وهل الأمانة المتعلقة بحُرمة الشرعية المعرفية مطلب يمكن تحقيقه أم أنها حلم وشرط لا يجتمع بغيره من الشروط مثلما لا يجتمع الجمال والأمانة؟!
نقول بسمة الأمانة في حق الشرعية المعرفية؛لأننا على علم هو باليقين بأنّها أمانة تعاملت معها الذوات،ويا للأسف الشديد لو كان التعامل ينطلق من لبّ هذه الأمانة التي تصب في عمق حرمة الشرعية،ولكنه التطاول والتلاعب بين الحين والآخر تارة يكون من عمق الذات وما تمليه الأهواء والأنفس من نزاعات فكرية وفلسفية،وتارة أخرى يكون بالجانب التحويري لواقع النصوص من أجل أن تتماشى وما تعتقده النفس من مبادئ تؤمن بها ومن ثم لا تستطيع أن تحيد عنها بحال.
ولما كانت هذه الشرعية لا تتجسّد بوضوح وإجلاء إلا في غضون النصوص فأين يكمن يا ترى السرّ اللغوي/التأويلي الذي يتماشى ومبدأ الشرعية؛هل في ذاتية النص بحكم اتصافه بصفة الثبات والاستمرارية؟أم في التحرك الديناميكي المتغير والمتجدد الكائن في الجانب المعرفي؟بعبارة أخرى هل كل من النص والتأويل ثابتان،أم أنّ النص ثابت والتأويل متحرك ومتغيّر تبعا للوقائع والمستجدات؟.
إنّ وسيلةً لا تقل أهميتها لدى العملية التأويلية،هي ولا شك،ذلكم النص بمفهومه الواسع الشاسع؛على أساس أنّ النص يعدّ بحق الحجر الأساس للذات الإنسانية (المتلقية) في محاولة تحقيق عملية تشفيرية لأيّ حدث كلامي،تريد سبر غوره العميق لاسيما إذا كان الحدث الكلامي له علاقة بواقع النص القرآني المطلق؛فإنّ العملية التشفيرية اللغوية تجد ظلها اللامحدود من المعاني التي لا تنتهي إلا بانتهاء حركية الوجود المطلق،ولعلها حقيقة لا ينماز بها واقع النص القرآني فحسب،وإنما نجده أيضا واردة في كثير من نصوص الكتاب المقدس.بعبارة أدق إنّ في الكتابات المقدسة،مثلما هي الحال مع الكتاب المقدس(التوراة)والقرآن الكريم،مادة تشكل مواضيع خصبة للدراسة؛حيث يتداخل زخم من التماثلات وأوجه الشبه،تغري المقارنين والدارسين على اختلاف نحلهم ومذاهبهم.فتفسير الكتابة المقدسة هو في الواقع،فك للتشفير أو ما نصطلح عليه تأويلا للرؤى المذهبية،الاجتماعية،السياسية والثقافية لكتبة نصوص العهد القديم. أما القرآن الكريم، فيتحدد بكونه تعبيرا وحدويا مسكونيا صريحا، تماما كما هي المسكونية المسيحية.
إنّ أدنى تأمل في بُعد واقع النص القرآني الكريم يجعلنا ندرك إدراكا لا يشوبه شك ولا يرتابه ارتياب بأنّ تعامل المتلقي(مهما كان المقام الذي يحتله)مع واقع الوحي الإطلاقي لا يستطيع أن يحرّك بؤرة ضوئه النبراسي الذي يستضئ به في معرفة الحق على ثلاثية تصب في عمق الشرعية الوسطية الكائنة بين الذات القدسية والذات الإنسانية وهي:الاختلاف والجدل والغموض المفاهيمي(اللفظ/السياق)؛هذه الثلاثية التي يتولد عنها حقيقتين اثنتين:أحدهما "استقرار" والثانية:عدم استقرار.ففي الحالة الأولى يتحقق ما يسمى بنية التقليد والتبعية للذات الإنسانية التي لم تستطع الانسلاخ عن هذا المبدأ الأخير،أو لربّما اكتفت في كثير من المقامات بما كان النص يمليه عليها من أحكام تختلف من سياق إلى آخر؛الشيء الذي جعل من الذات الإنسانية المتلقية لمثل هذه الأحكام والضوابط تنسى أو تتناسى تلكم التساؤلات الوجيهة المنصبة أساسا على واقع الشرعية التي تتوسط بينها وبين عالم النص فهي تبعية مطلقة لا تستطيع الذات الابتعاد عنها طرفة عين.
أما في الحالة الثانية والتي تصب في عمق الشرعية المعرفية؛فإنّها لا يمكن لها أن تنزاح عن هذه الثلاثية الفطرية/الوجودية التي ظلت حينا من الدّهر ولا زالت تسير مع سبيل اثنين لا ثالث لهما:أحدهما عالم الذات المتلقية لهذا الحدث الكلامي الإطلاقي،والثاني السياق الواقعي الحالي بكل ملابساته الداخلية والخارجية.إنّ الاختلاف والجدل والغموض المفاهيمي،تبقى جوانب شكلية صرف؛لأنها تعكس حقيقة تعدد النظرات الإبستمولوجية لطبيعة العقل الإنساني، وليست على الإطلاق تجليا للتناقض الذي قد يفرق بين الميولات الذاتية التي لها علاقة وطيدة بكثير من الحقول المعرفية على الإطلاق.
إنّ الحديث عن واقع الشرعية المعرفية التي تتوسط بين(الوحي/التلقي) – قائمة أو غائبة – لا يتأتى لنا فهمها ولا يستقيم لنا أمرها،إلا إذا قام بالضرورة ضدها،أو بضدها تعرف الأشياء. إننا نعني مفهوم الأمانة والخيانة؛فالأمانة والخيانة مقولتان ذهنيتان متلازمتان كتلازم مقولتي الزمان والمكان،ما أثرنا الواحدة منهما إلا واضطررنا إلى ذكر الثانية.فما المقصود بهما؟أو بالأحرى،ما المقصود بالأولى حتى تنتفي الثانية؟وهل الأمانة المتعلقة بحُرمة الشرعية المعرفية مطلب يمكن تحقيقه أم أنها حلم وشرط لا يجتمع بغيره من الشروط مثلما لا يجتمع الجمال والأمانة؟!
نقول بسمة الأمانة في حق الشرعية المعرفية؛لأننا على علم هو باليقين بأنّها أمانة تعاملت معها الذوات،ويا للأسف الشديد لو كان التعامل ينطلق من لبّ هذه الأمانة التي تصب في عمق حرمة الشرعية،ولكنه التطاول والتلاعب بين الحين والآخر تارة يكون من عمق الذات وما تمليه الأهواء والأنفس من نزاعات فكرية وفلسفية،وتارة أخرى يكون بالجانب التحويري لواقع النصوص من أجل أن تتماشى وما تعتقده النفس من مبادئ تؤمن بها ومن ثم لا تستطيع أن تحيد عنها بحال.
ولما كانت هذه الشرعية لا تتجسّد بوضوح وإجلاء إلا في غضون النصوص فأين يكمن يا ترى السرّ اللغوي/التأويلي الذي يتماشى ومبدأ الشرعية؛هل في ذاتية النص بحكم اتصافه بصفة الثبات والاستمرارية؟أم في التحرك الديناميكي المتغير والمتجدد الكائن في الجانب المعرفي؟بعبارة أخرى هل كل من النص والتأويل ثابتان،أم أنّ النص ثابت والتأويل متحرك ومتغيّر تبعا للوقائع والمستجدات؟
إنّ وسيلةً لا تقل أهميتها لدى العملية التأويلية،هي ولا شك،ذلكم النص بمفهومه الواسع الشاسع؛على أساس أنّ النص يعدّ بحق الحجر الأساس للذات الإنسانية (المتلقية) في محاولة تحقيق عملية تشفيرية لأيّ حدث كلامي،تريد سبر غوره العميق لاسيما إذا كان الحدث الكلامي له علاقة بواقع النص القرآني المطلق؛فإنّ العملية التشفيرية اللغوية تجد ظلها اللامحدود من المعاني التي لا تنتهي إلا بانتهاء حركية الوجود المطلق،ولعلها حقيقة لا ينماز بها واقع النص القرآني فحسب،وإنما نجده أيضا واردة في كثير من نصوص الكتاب المقدس.بعبارة أدق إنّ في الكتابات المقدسة،مثلما هي الحال مع الكتاب المقدس(التوراة)والقرآن الكريم،مادة تشكل مواضيع خصبة للدراسة؛حيث يتداخل زخم من التماثلات وأوجه الشبه،تغري المقارنين والدارسين على اختلاف نحلهم ومذاهبهم.فتفسير الكتابة المقدسة هو في الواقع،فك للتشفير أو ما نصطلح عليه تأويلا للرؤى المذهبية،الاجتماعية،السياسية والثقافية لكتبة نصوص العهد القديم. أما القرآن الكريم، فيتحدد بكونه تعبيرا وحدويا مسكونيا صريحا، تماما كما هي المسكونية المسيحية.
إنّ أدنى تأمل في بُعد واقع النص القرآني الكريم يجعلنا ندرك إدراكا لا يشوبه شك ولا يرتابه ارتياب بأنّ تعامل المتلقي(مهما كان المقام الذي يحتله)مع واقع الوحي الإطلاقي لا يستطيع أن يحرّك بؤرة ضوئه النبراسي الذي يستضئ به في معرفة الحق على ثلاثية تصب في عمق الشرعية الوسطية الكائنة بين الذات القدسية والذات الإنسانية وهي:الاختلاف والجدل والغموض المفاهيمي(اللفظ/السياق)؛هذه الثلاثية التي يتولد عنها حقيقتين اثنتين:أحدهما "استقرار" والثانية:عدم استقرار.ففي الحالة الأولى يتحقق ما يسمى بنية التقليد والتبعية للذات الإنسانية التي لم تستطع الانسلاخ عن هذا المبدأ الأخير،أو لربّما اكتفت في كثير من المقامات بما كان النص يمليه عليها من أحكام تختلف من سياق إلى آخر؛الشيء الذي جعل من الذات الإنسانية المتلقية لمثل هذه الأحكام والضوابط تنسى أو تتناسى تلكم التساؤلات الوجيهة المنصبة أساسا على واقع الشرعية التي تتوسط بينها وبين عالم النص فهي تبعية مطلقة لا تستطيع الذات الابتعاد عنها طرفة عين.
أما في الحالة الثانية والتي تصب في عمق الشرعية المعرفية؛فإنّها لا يمكن لها أن تنزاح عن هذه الثلاثية الفطرية/الوجودية التي ظلت حينا من الدّهر ولا زالت تسير مع سبيل اثنين لا ثالث لهما:أحدهما عالم الذات المتلقية لهذا الحدث الكلامي الإطلاقي،والثاني السياق الواقعي الحالي بكل ملابساته الداخلية والخارجية.إنّ الاختلاف والجدل والغموض المفاهيمي،تبقى جوانب شكلية صرف؛لأنها تعكس حقيقة تعدد النظرات الإبستمولوجية لطبيعة العقل الإنساني، وليست على الإطلاق تجليا للتناقض الذي قد يفرق بين الميولات الذاتية التي لها علاقة وطيدة بكثير من الحقول المعرفية على الإطلاق.
وإذا كان كذلك-والحال هذه-؛فإننا سنشير ولو من بعيد إلى جانب واحد فقط والمتعلق بالجانب التأويلي في علاقته باللغة،محاولين أن نستشف عن طريقه تلكم الشرعية التصوفية،التي استطاعت أن تكوّن لنفسها رصيدا معرفيا أهّلها سلفا لأن تقتحم عالم النصوص من الجانب الباطني قاصدة في سيرها هذا أن تعامل النصوص معاملة تختلف عن سابقيها.ولكن للأسف معاملة لم تعط للطرف الآخر المتلقي لرصيدها المعرفي الصوفي أيّ قدر من الاهتمام والعناية،سواء تعلق الأمر بالجانب الوجودي كوجود مستقل بذاته،أم الجانب المعرفي،اللهم إلا إذا كان الآخر ينتمي إلى هذا الرصيد الصوفي فإنه يحصل ذلكم التلاقي والانسجام بين الباث والمتلقي معا.
يرتكز مفهوم التأويلية-على حد أهل الاختصاص- على واقع حركية النص في علاقته بالمتلقي وهو يريد الوصول إلى قصدية النص. بعبارة أخرى هل يمكن للذات الإنسانية أن تصل في لحظة ما إلى قصدية موضوعية تاريخية لواقع حركية النص؟ أم أنّ عملية فهم النص - على حدّ تعبير نصر حامد أبو زيد-هي جزء لا يستقل عن موقع المفسّر والموضح؟ [1]؛هذا هو أهم تساؤل وجيه تقوم عليه التأويلية؛الأمر الذي يجعلنا ندرك إدراكا يقينيا لا يشوبه شك بأنّ هذا التساؤل التأويلي موجود وكائن في واقع تراثنا العربي الزاخر على اختلاف سياقاته.إنه كائن منذ بداية ظهور ما يسمى بالتفسير (المأثور/الرأي)؛فالمعتزلة يقولون هل يمكن للذات الإنسانية أن تفهم وتدرك القصد الإلهي وهي تتعامل مع واقع النص القرآني المطلق بدون أن تكون لهذه الذات الأخيرة معطيات عقلية اعتزالية مسبقة عن جانبيين اثنين:العدل والتوحيد؟ومن ثمة إذا أخذت الذات الإنسانية النص القرآني وراحت تصدقه بأنه من الذات القدسية دون أن تكون لديها معرفة عقلية سابقة بالمفهوم الحقيقي للصدق الربّاني،ما الذي يمنع في اعتقاد الذات الاعتزالية أن يكون هذا النص كاذبا؟ أو إنّ العلاقة الكائنة بين المعنى داخل واقع حركية النص وتلكم المعرفة المسبقة اللازمة لاستكشاف هذا المعنى سؤال كائن في واقع تراثنا العربي الإسلامي [2].
والأمر لا يقف عند هذه الفئة الاعتزالية فحسب وإنما يبتعد ليصل إلى معناه الأعمق والأوفر عند المتصوفة؛على أساس أنّ القارئ للتراث الصوفي قراءة لغوية مطلقة تنطلق من عالمها الإطلاقي/الروحي،يدرك لا محالة أنّه وهو يقرأ للذات الصوفية؛فكأنه يقرأ لهايدجر الألماني أو جدامير والعكس أيضا،ونحن نقرأ لهايدجر وجدامير في تعاملهما مع اللغة وربطها بحركية الوجود المطلق فكأننا نقرأ لابن عربي ومن تبعه من المتصوفة.
ونحن إذ نريد التحدث عن التراث الصوفي فإننا نقصد شخصية بارزة من الشخصيات المتصوفة التي استطاعت أن تنفرد برصيد لغوي لا يستهان به،وهو ابن عربي الذي يمثل بحق غالبية المتصوفة في اعتمادهم على نفس المنهج أو الطريقة وهم يتعاملون مع النصوص.وعليه سنشير فقط إلى تلكم الإشارات التي توقف عندها-ابن عربي-في تعامله مع اللغة من منظور تأويلي.
إنّه ذلكم التساؤل الوجيه المنصب أساسا على واقع حركية الوجود المطلق بعبارة أخرى هل الوجود المطلق هو وجود موضوعي مستقل في الخارج؟ أم الوجود المطلق واقع إطلاقي خيالي يشترك فيه كل من:الذات القدسية(المطلق)والذات الإنسانية(التقييد)؟تماما ما توقف عنده العالم الألماني هايدجر حين كان يتساءل في كثير من السياقات؛هل الوجود له استقلال موضوعي خارج الذات المدركة أم خارج المعرفي [3]..
إنها بدون شك تلكم الشرعية التصوفية/التأويلية المنصبة أساسا على ما يمكن تسميته بالعقل التأويلي،الذي لا يرضى لذاتيته الكينونية والوجودية والمعرفية إلا السير وفق تلكم النواميس الوجودية المطلقة فيتحلى بما يتحلى به من أسرار وأبعاد عميقة؛الأمر الذي يجعله يقتحم عالم المعرفة ابتداء من ذاتيته كعقل مستقل في حدّ ذاته،وانتهاء إلى تلكم العلاقة الكائنة بين الذات الإنسانية والوجود المطلق.
وإذا كان الأمر كذلك؛فإنّ السياق يجعلنا نتوقف عند بعض من التساؤلات الوجيهة،والتي نراها أنها تتماشى إلى حدّ بعيد مع تلكم الشرعية المعرفية المعلنة تارة،والمتسترة أو المختفية تارة أخرى،وهي على النحو الآتي:
– هل الكينونة شيء والوجود شيء آخر،أم هما شيء واحد؟
– هل حديثنا عن الكينونة يحمل ضمنيا معنى السرّ الوجودي أم العكس؟
– ما السرّ الإعجازي الذي جعل من واقع النص القرآني المطلق لم يستخدم لفظة (الوجود)ولو مرة واحدة،على خلاف أنه استخدم لفظة الكينونة (كونوا،كنتم وغيرها من الاشتقاقات المنبثقة من الفعل الكينوني الربّاني)في كثير من السياقات التركيبية؟
– هل عندما نريد التحدث عن واقع الكينونة الربّانية نستخدم الفعل (كان)أم الفعل (وجد)؟
ثم لماذا الخالق سبحانه وتعالى في كثير من السياقات حينما يريد أن يبيّن للذات الإنسانية السرّ الإعجازي لاسيما المتعلق بعالم الخلق من العدم لا يستخدم إلا الفعل كان مع مضارعه يكون؟
– ما السرّ في استخدام غالبية المتصوفة،عندما يتناولون قضية الوجود الإنساني في هذا الوجود المطلق،لفظة الكينونة أو إن شئتم لفظة كن،وهم يربطون ذلك بما كانوا يطلقون عليه في كثير من المقامات بالإنية؟
ثم لماذا عندما نريد ترجمة لفظة الوجود والكينونة دائما تجدنا نستخدم لفظة واحدة تجمعهما في جميع السياقات التركيبية وهي لفظة [4]؟
هل يفتقد الفعل كان للمقابل الترجمي حتى يجعله ينماز عن أخيه الفعل وجد؟...
إنها الشرعية التأويلية التصوفية التي همها الوحيد،هو ذلكم النمط الكينوني الإنساني داخل العالم على حد اعتقاد هايدجر الألماني،ومن ثمة فلا ضير من أن نشير باختصار شديد إلى أهم المحطات التي توقف عندها ابن عربي الصوفي وهو يتناول مفهوم التأويل في علاقته باللغة والوجود لنصل في نهاية المطاف إلى واقع تأويلية الآخر سواء بالنسبة للمتلقي الصوفي الذي يُعدّ من جنس هذه اللغة الباطنية التصوفية،أم ذلكم القارئ المجهول لهذا الرصيد اللغوي الصوفي الذي لربّما مرّت عليه سياقات كثيرة كان في أمسّ الحاجة لأن يقتحم هذا العالم الباطني بكل مستوياته قصد إدراك تلكم العملية الربطية بين الروح/اللغة/والوجود المطلق.
يرى ابن عربي(ت638ه)في كثير من المقامات وهو يتعامل مع النص القرآني بأنّ الوحي إنما يتجدد ويتنوع تبعا لتنوع العارفين بأسرار حركية الوجود على مستوييه الداخلي والخارجي؛الأمر الذي جعل من واقع هذا الوحي الإطلاقي المتجدد-في حق الذات المتلقية- دلاليا/وجوديا ينصاع لهذا النوع التجدّدي في صور متعددة من المعاني والأبعاد العميقة على الرغم من أنّ النص القرآني هو واحد في ذاتيته المطلقة،وعليه فالقرآن في نظر ابن عربي«...متنوع ينطبع عند النازل عليه في قلبه بصورة ما نزل عليه، فتعيّر على المنزل عليه الحال لتغيّر الآيات،والكلام من حيث ما هو كلام واحد لا يقبل التغير» [5].
ثم إنه إذا كانت الشرعية التأويلية تعني في ما تعنيه تلكم العلاقة الحميمة بين واقع النص مع المفسّر أو المبيّن؛فإننا نجد النص القرآني-على حدّ اعتقاد ابن عربي الصوفي- نفسه يتنوع بتنوع القارئين له بل يتنوع واقع معنى النص بتنوع أحوال القارئ المتلقي الواحد.بعبارة أخرى إنّ العلاقة بين القارئ المستقبل للحدث الكلامي الربّاني وواقع المقروء في حدّ ذاته هي علاقة جدلية يتبادلان فيها التأثير والتأثر. يقول ابن عربي في هذا المقام:«...ألا ترى العالم الفهم المراقب يتلو المحفوظ عنده من القرآن فيجد في كل تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الأولى،والحروف المتلوة هي بعينها ما زاد فيها شيء ولا نقص وإنما الموطن والحال تجدد ،ولا بدّ من تجدّده؛فإنّ زمان التلاوة الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية» [6].
إنها بدون شك تلكم العلاقة الجدلية الأزلية القائمة بين القارئ وحركية النص،والتي تقوم أساسا على تنوع واقع النص من جهة،وتنوع أحوال ذاتية القارئ المتلقي من جهة أخرى.
ومما يسترعي التريث أنّ حديثنا عن(النص/القارئ المتلقي)من منظور تصوفي إنما يجعلنا نستحضر تلكم المعاني الخفية حينا،والمعلنة عنها حينا آخر،والمتمركزة أساسا على الكينونة الموجودة بين الذات القدسية والذات الإنسانية؛على أساس أنها تقوم-على حدّ اعتقاد ابن عربي ومن تبعه من المتصوفة- على ما يسمى بمبدأ الاستناد والمماثلة.بعبارة أخرى إنها علاقة الأصل بالصورة،والباطن بالظاهر، والأول بالآخر،والحق بالخلق،والسيد بالعبد،وكذا الرب بالمربوب،والإله بالمألوه. كل هذا وذاك إنما يمثل في كثير من السياقات علاقة تلازمية لا يستطيع أحدهما أن يُوجد بمعزل عن الآخر. يقول في هذا المقام:«إنّ العبد هو عبد لذاته ولكن لا تعقل له عبودية ما لم يعقل له استناد إلى سيّد، والرب ربّ لذاته ولكن لا تعقل له ربوبية ما لم يعقل له مربوب هو مستنده؛فكل واحد مسند للآخر،فالمعلوم أعطى العلم للعالم فصيّره عالما، والعلم صيّر المعلوم معلوما.ومن حيث ارتفاع هذا الذي قلناه فلا عالم ولا معلوم ولا ربّ ولا مربوب،وليس الأمر إلا عالم ومعلوم وربّ ومربوب وهو الذي عليه الوجود،فليتكلم بما أعطاه الوجود والشهود وليترك وهميات الجائز العقلي» [7].
إنها بدون ريب عبارة عن موازاة أنطولوجية قائمة بين واقعين إطلاقين هما: واقع النص القرآني ثم واقع حركية الوجود المطلق،وهما إذ ذاك لا يخرجان-على حدّ اعتقاد ابن عربي- من المنظور النفس الإلهي الربّاني الذي بفضله غدت تظهر فيه جميع أعيان صور الموجودات على اختلاف أنواعها وأشكالها الداخلية والخارجية،ومن ثم أضحى مفهوم النص القرآني على حد هذا المعتقد الصوفي هو كلام الله،وكذا معنى الوجود المطلق على ضربيه:الداخلي والخارجي عبارة عن كلمات الله تعالى،وهو إذ ذاك لا يعطي للواسطة اللغوية أية اهتمام في إدراك بُعد مفهوم الكلام الرباني،وإنما همّه الوحيد يظل مرتكزا على تلكم الساعات الاستماعية إلى المتكلم في حدّ ذاته سبحانه وتعالى،وذلك من خلال قناتين اثنتين:الوجود والنص. يقول في هذا السياق«...اتل القرآن من حيث ما هو كلام الله تعالى لا من حيث ما تدل عليه الآيات من الأخبار والأحكام فإنه الرّان» [8].
إنّها قراءة استماعية تأويلية تخريجية لكلمات حركية الوجود المطلق من الجانب الخارجي،واستماعية في الوقت نفسه من الجانب الداخلي،ومن ثم لا تقتضي هذه العملية من المنظور الصوفي أيّ تعارض بين ظاهر الجانب الوجودي الخارجي وباطن الإيمان الداخلي؛ على أساس أنّ كلا منهما يؤديان في نهاية المطاف إلى ذلكم التعبير عن واقع النص القرآني المطلق.يقول ابن عربي في هذا المقام:«...ولا تظن يا بني أنّ تلاوة الحق عليك وعلى أبناء جنسك من هذا القرآن العزيز خاصّة، ليس هذا حظ الصوفي،بل الوجود بأسرهكتاب مسطور في رقّ منشورتلاه عليك سبحانه وتعالى لتعقل عنه إن كنت عالما.قال تعالىوما يعقلها إلا العالمون ولا يحجب عن ملاحظة المختصر الشريف من هذا المسطور الذي هو عبارة عنك؛فإنّ الحق تعالى تارة يتلو عليك من الكتاب الكبير الخارج،وتارة يتلو عليك من نفسك فاستمع وتأهّب لخطاب مولاك في أيّ مقام كنت،وتحفظ من الوقر والصمم؛فالصمم آفة تمنعك من إدراك تلاوة الحق عليك من نفسك المختصرة،وهو الكتاب المعبّر عنه بالفرقان إذ الإنسان محل الجمع لما تفرق في العالم الكبير» [9].
ثم إنه لما كانت كل عملية تأويلية تنطلق أساسا من اللغة وتصبّ أيضا داخلها؛ فقد كانت إشكالية الجانب التأويلي التخريجي تؤسس إشكالية خاصة باللغة والدلالة في آن واحد.بعبارة أخرى«....ما دامت وضعية التأويل غير مستقرة فقد كانت وضعية اللغة-كمشكلة إيبستمولوجية- غير مستقرة تبعا لذلك» [10]،ومن ثمة وجدنا ابن عربي في عدة مقامات لم تكن لتغيب عنه مثل هذه العلاقة بين التأويل واللغة؛على أساس أنه كان أكثر المتصوفة على وعي عميق وإدراك شامل بالقيمة الإيبستمولوجية لواقع اللغة أولا،ثم بالقيمة الأنطولوجية لها ثانيا؛الأمر الذي أهّل من ذاتية ابن عربي الصوفي إدراك البُعد الحقيقي لتلكم الخلافات والصراعات والمشاكل التي كانت تسود الفكر العربي الإسلامي،كتلك الواقعة في مجال الفرق،وكذا المتعلقة بالمنهجية التي طرحتها تلك الفرق كمشكلة النص القرآني،ومشكلة الدلالة داخل ذلك النص من جهة،وعلاقتها بالجانب الدلالي من جهة أخرى.
بل لا يقف ابن عربي عند هذا الحد من اكتفائه بدراسة اللغة دراسة حدودية، وإنما يبتعد إلى أبعد من ذلك ليربط واقع فضاء اللغة والجانب الامتدادي بحركية الوجود المطلق،وعليه سيعمل على عملية تفجيرية تحرّرية لمفهوم الحدث الكلامي، ولربّما الفلسفي عن واقع النص القرآني المطلق؛لأنه خطاب ظل في كثير من المقامات يشير إلى تلكم الحقيقة الفطرية الوجودية التي لا تستطيع الذات الإنسانية الانسلاخ أو الانخلاع عنها طرفة عين.
إنه بكل بساطة ذلكم الاختلاف الذي جعله صاحب العدل الربّاني آية من آيات تلكم الكينونة الربانية المبثوثة في كل روح إنسانية عرفت قدر وجودها الفطري والمعرفي وفق هذا المعطى الأخير.إنه الكلام الربّاني الذي إذا نزل بقوم راح مبدأ الاختلاف الفطري/الوجودي يجسّد معالمه عبر كل ذات إنسانية وهي تصبو نحو معرفة الحق،عن طريق قناة الفهم عن الله تعالى ما أراده سبحانه وفق تلكم الكلمات الواردة في واقع النص القرآني،ومن ثمة ما من وجه-على حدّ اعتقاد ابن عربي ومن تبعه من المتصوفة- إلا وهو مقصود للذات القدسية وذلك بالنسبة لهذا الشخص ما دام يسبح في ذلكم اللسان الذي نزل به واقع النص القرآني المطلق؛فإن خرج من هذا اللسان فلا علم ولا فهم البتة [11].
لا يريد ابن عربي أن يقف عند حدود الفهم أو التفسير الذي لا يتجاوز حدود واقع النص،وإنما همّه الوحيد هو الوصول إلى بُعد تلكم الشرعية التأويلية التصوفية لاسيّما عند تعامله مع تلكم الحروف الواقعة في بداية السور(ألم،ألمص،حمعسق... ) ؛هذه الحروف التي يستوجب في فهمها وسبر غورها العميق إلى عملية تأويلية لا تخرج عن القيمة الأنطولوجية لحركية الحروف داخل سياقاتها التركيبية؛على أساس أنّ كل حرف يربط العارف الصوفي بمنزلة من منازل الوجود المطلق، ومن ثم لن تستطيع هذه العملية التأويلية الوجودية أن تؤتي أكلها كل حين إلا إذا كان العارف الصوفي ملما بعالم الحروف ومقوماتها،ولعله السبب الرئيسي الذي جعل ابن عربي يُفرد كتابا خاصّا يتعلق بعالم الحروف في علاقتها بواقع الوجود المطلق.
واللافت للنظر-والحال هذه- أنّ هذه الشرعية المتمثلة في العملية التأويلية الصوفية أو التصوفية ما ترد في هذه الذات العارفة؛إلا لأنها تحاول بكل ما أوتيت أن ترتفع بواقع حركية اللغة بتلكم التعريفات الواردة عن طريق مجموعة من الذوات،من كونها مجرد علامات اجتماعية أو نسقية،قد تكون مفتوحة أو مغلقة إلى كونها رموزا أكثر تعقيدا وكثافة من العلامات أو الدليل.ومن أجل فك مثل هذا النوع من التعقيد الرمزي لا بدّ من تحقق تصور عام وشامل لحركية الوجود المطلق من جهة،ثم عالم الذات الإنسانية بكل نواميسه الداخلية والخارجية من جهة أخرى.في هذه الحالة قد يُتخيّل للناظر أو المتتبع لمثل هذه الطريقة أنّ الذات الإنسانية يسهل عليها بأن ترقى باحتمالاتها وهي تتعامل مع المعطى المعرفي إلى مستوى اليقين؛لأنّ مثل هذا المستوى مرفوض من الناحية المعرفية عند ابن عربي الصوفي [12].
إذاََ هي الشرعية اللغوية التصوفية الإطلاقية التي لها من القدرة الفطرية والوجودية ما يجعلها تحتل وسطيا ـ على حد اعتقاد ابن عربي ـ بين واقعين اثنين:واقع الذات القدسية،ثم الذات الإنسانية؛ففي المقام الأول تكون اللغة بين الذات القدسية والذاتية النبوية المختارة من قبل السر الرباني الكوني يسودها طابعا معينا له علاقة بالإيحاء أو الإشارة،بينما تحتل اللغة في المقام الثاني وسطا بين الذات النبوية والبشر لا يخرج عن جانبه التواطئي الاصطلاحي؛لأنّ اللغة في مثل هذه الحالة لا تخرج عن وظيفتها التواصلية الاجتماعية.
وواضح مما سبق أنّ الوحي بمفهومه الدقيق هو لغة إشارة،أما قراءة الوحي بلغة مؤسسية فتعني نقل مضامينه إلى مستوى علامات التواصل الجمعي.وعلى هذا الأساس،يمكن أن نميز بصدد واقع النص القرآني بين مفهومين كل واحد يطابق نوعا خاصا من الدلالة:مستوى الوحي ثم مستوى الخبر.الوحي إشاري،والخبر اصطلاحي متواطأ عليه.أما مفهوم النقل فيشملهما معا.لماذا هذا التمييز؟إنه تمييز هام لأنّ له انعكاسات أساسية على المستوى الإيبستمولوجي؛فتأويل القرآن عملية ممكنة،لكنها تبقى في حدود اللغة الاصطلاحية،ولا يمكن للتأويل أن يتجاوز إلى مستوى الدلالة الإشارية؛لأنّ ذلك خاص بالله تعالى والرسول عليه السلام [13].
إنها العملية التأويلية التي في جل تحليلاتها ومقوماتها تضع الذات الإنسانية مباشرة أمام اللغة الرمزية وإشكالية الدلالة،غير أننا نلفي انتباها إلى أنّ هذه العملية الأخيرة مع ذاتية ابن عربي الصوفي تفتحنا على مشكلة العلاقة الكائنة بين الوجود المطلق واللغة؛هذا الانفتاح الإطلاقي يحوي في باطنه العميق على قلق خاص ينصب أساسا في اللغة الإطلاقية.إنه القلق الوجودي الكوني الذي يمكن حصره في بعض من التساؤلات لعل من أهمها:كيف يمكن للذات الإنسانية هدم الهوة التي تفصل بين الكينونة وبين اللغة؟هل بإمكاننا اقتلاع اللغة من قبضة الذات المتكلمة التي راحت في كثير من السياقات تدعي امتلاك الحقيقة الكينونية لنفتح في نهاية المطاف المجال أمام الكينونة حتى تتحدث لعتها الخاصة؟بعبارة أخرى كيف نجعل الذات العارفة تنصت لحديث الكينونة عوض أن تتكلم باسمها حتى ولو كان ذلك الكلام قريبا من الكينونة ذاتها؟ [14]..
تتكون كلمة(كن)من تلكم الحقيقة المطلقة الكينونة أو الكينونية،التي لا تخرج عن ثلاثة أحرف؛لأنّ أصلها مأخوذ من الحدث الكوني،وحذفت الواو على حدّ قول أهل الصرف لالتقاء الساكنين:الواو والنون.غير أنّ هذه العملية الحرفية تكتسب عند ابن عربي الصوفي دلالات وجودية تتماشى وما يقتضيه السّر الوجودي المطلق، ومن ثمّ فحذف الواو من المنظور التصوفي يوازي ذلكم التوجه الإلهي الباطن في كل شيء في هذا الوجود المطلق [15].
إنّ مثل هذه الحقائق الكونية الوجودية لواقع ذاتية اللغة،تقلب الحقائق رأسا على عقب؛على أساس أنّ كلا من الكينونة والوجود عبارة عن لغة تسير وفق كل عالم يليق بمقامهما،وأنّ غالبية الموجودات المنبثقة عن هذه الحقيقة هي كلمات؛وعليه فإنّ هذا الأخير لا يفسّر بأنّ«...اللغة معطى حسي،وإنما المقصود هو أنّ العارف الصوفي حينما ينظر إلى العالم؛فإنه ينظر إليه في رمزيته وفي تشابك مباشرته ولا مباشرته،في ارتباط ظاهره بباطنه.وبالفعل حينما نقول بأنّ العالم يتكلم بواسطة الرموز ويكتشف عن ذاته؛فإنّ الأمر لا يتعلق بلغة نفعية وموضوعية.إنّ الرمز ليس نسخة مطابقة للواقع الموضوعي.إنه يكشف عن شيء ما أكثر عمقا وأهمية» [16].
من هذا المنطلق وجدت اللغة متنفسّها الداخلي في رحاب ذلكم المعطى الصوفي؛فغدت تتحلى بشرعية معرفية إطلاقية تتجاوز الحدود والتقعيدات المعيارية التي لا تسمن ولا تغني من جوع،على الرغم من أنّها باتت حينا من الدّهر تتراود الذوات على اختلاف نحلها ومذاهبها،وهي تتناول الظواهر والوقائع تناولا لا يخرج في الغالب عن الجانب السّطحي المعياري الذي يأبى أن يسير مع ذاتية اللغة الإطلاقية.
لكن هلا فكّرنا لحدّ الآن أن نكوّن لأنفسنا رصيدا معرفيا لا يؤمن إلا بما يتماشى وحركية الواقع المتجدد والمتغير؛على أساس أنّ هناك خيطا وجوديا معرفيا يربط المسار المعرفي والواقع بكل ملابساته الداخلية والخارجية؟هلا سمحنا لأنفسنا بل لضميرنا المعرفي والخلقي أن نكوّن قارئا تصوفيا يستطيع إلى حدّ بعيد أن يتناول ذلكم الرصيد المعرفي التصوفي تناولا معرفيا أصيلا بكل ملابساته الداخلية والخارجية على السّواء؟ألا تساعد تلكم التخريجات التصوفية التي في غالبيتها تنبثق من باطنية اللغة،ومن ثم باطنية الذات في تجسيد الشرعية المعرفية للمتلقي،وهو يتناول النصوص على اختلاف نمطيتها،لاسيما وأننا نعلم بأنّ أغلى ميزة ينماز بها التراث الصوفي هو ذلكم المعطى الروحي الجامع بين الذات الإنسانية(المطلقة) وحركية الوجود المطلق؛إذ كل يكمّل الآخر؟ثم أين يكمن سرّ الإشكال في ما يتعلق بالشرعية المعرفية؛هل في علاقتها بالذات المتلقية للحدث الكلامي،أم الشرعية في علاقتها بواقع النصوص؛على أساس أنها تتنوع من مقام إلى آخر،أم أبعد من ذلك الشرعية في علاقتها بكل من:الحدث الكلامي وذاتية المتلقي لهذا الحدث الكلامي؟ثم هل نفسّر بُعد الشرعية المعرفية التي تتحلى بها الذات الإنسانية وهي تتعامل مع عالم النصوص،بأنها شرعية ثنائية بين النص وعملية التلقي(المتلقي)؟أم هي عملية ثنائية بين المتعامل مع النص والطرف الآخر سواء أكان موجودا وجودا تصوريا ذهنيا أم وجودا عينيا؛على أساس أنّ النص هو في حقيقة أمره يمثل في عمقه ذلكم التقارب الفطري المعرفي بين البشر من أجل تحقيق عملية تواصلية تربطهم جميعا قصد إدراك الحقيقة الوجودية"المعرفة أو مبدأ الحوار"المعبّر عنها في واقع النص القرآني بـ:(الكلمة السّواء)التي تجعل فعلا كلا من المتعامل والمتلقي(الطرف الآخر) يحققان بحق عملية وسطية في ما يخص مفهوم الشرعية التي ينبغي أن تتحلى بها الذات الإنسانية وهي تتعامل مع واقع النصوص؟....
تعقيب:
نعود لنقول شيئا عن بُعد مفهوم الشرعية التي تتوسط بين ذاتيتي (الوحي/المتلقي)في ظل واقع النظام اللغوي،والتي تعدّ رؤية شخصية من قبلنا، نحسبها تتماشى إلى حدّ بعيد مع ما يقتضيه المسار المعرفي من جهة،ثم ما له علاقة بالسياق الواقعي/الحالي الذي يساير الذات الإنسانية ولا يستطيع الانفصال عنها بحال؛فنقول وبالله التوفيق:
لا شك بأنّ قولنا بالشرعية إنّما يرتكز على حقيقتين اثنتين:
نصّي قد احتوى في باطنه السرّ الإطلاقي بكل ما تعنيه الكلمة في حواليتها الداخلية والخارجية وهو بدون شك الوحي القرآني
عقلي والمتمركز أساسا على واقع الذات الإنسانية المتلقية لهذا الحدث الكلامي الإطلاقي.لكن ما يلفت التنبه في هاتين الحقيقتين إنما يكمن في لبّ ما له علاقة بالمنهج والطريقة اللتين يتجسّد عن طريقهما واقع الشرعية بالمعنى الحقيقي الذي يتماشى وواقعها الإطلاقي.بعبارة أخرى إنّه التقابل الفطري والوجودي بين العقل/العقيدة؛على أساس أننا نلفي انتباها بأنّ العقل عام وشامل ومستغرق عند جميع البشر على الإطلاق،وذلك بحكم ماهيته،على خلاف ما نجده في لبّ العقيدة التي تتمركز على فئة محددّة ومضبوطة من قبل تلكم القواعد أو المسلمات التي عرفتها تلكم الذوات التي راح السياق الواقعي يطلق عليها بين الحين والآخر بـ: المؤمنين.على الرغم من أنّها ضمنيا تطفي على نفسها الطابع الشمولي الاستغراقي في كثير من المقامات غير أننا نلفي في هذه الحالة الأخيرة عقائد كثيرة ترى ما تراه الأخرى من هذا الطابع الذاتوي. [17].
علينا أن نُدرك إدراكا لا يرتابه ارتياب،بأنّ ثمة حقيقة كائنة بين واقعين اثنين:واقع إطلاقي(القرآن الكريم)،ثم واقع نسبي(الذات المتلقية).بعبارة أخرى هناك معنى مطلق،ثم فهم نسبي يكون تبعا لمقتضيات السياق الواقعي الذي تمر عن طريقه الذات الإنسانية دون أن تحيد عنه بحال.ونحن إذ نقول بهذه الحقيقة،فإنّما لنؤكد بأنّ واقع الشرعية المعرفية تختلف من زمن إلى آخر،ومن ثمة من إدراك إلى آخر،وذلك تبعا لأهلية الذات المتلقية للحدث الكلامي وهي تتعامل معه قصد سبر معانيه؛إذ كيف يعقل شرعا وعقلا بل خُلقا«...أن تُقدم للناس في القرن العشرين فهم الناس للقرآن في القرن السّابع ليُطبق الناس في القرن العشرين إسلام الناس في القرن السّابع؛لأنّ ذلك يعني تجاوز التاريخ وتطور الزمان والمكان،فينتج من ذلك إسلام خيالي يعيش في فراغ خارج التاريخ، وبذلك نجعله دينا لا علاقة له بالحياة اليوم على رغم نجاحه الباهر في قيادة حياة الأمس بناء على فهم الناس له بالأمس» [18].
المتداول لدى أهل الاختصاص،أنّ النص ثابت والمعنى(التأويل)متغير ومتحرك باستمرار،ولعلها حقيقة وجودية معرفية ظلت تسير مع عالم النص القرآني المطلق.لكن اللافت للانتباه أنّه كيف نفسّر واقع الشرعية في ضوء ثبات النص وتغير المعنى باستمرار؟أو كيف تستطيع الشرعية أن تحدث عملية وسطية بين ثبات النص القرآني وتغير المعنى،هل في علاقتها مع النص مباشرة وهي تتعامل معه،أم في علاقتها بالمتلقي الآخر الموجود وجودا تصوريا ذهنيا،أم عينيا لحظة مخاطبته مباشرة؟.لاشك أنّ قضية الثبات والتغير الكائنان في النص القرآني،إنّما مردّهما في ما تناولته هذه النصوص الدينية من أحكام؛فعلى مستوى النصوص التي تناولت الأحكام التي لها علاقة بواقع العبادات التي تسير سيرا مطلقا مع واقع الوحي الإطلاقي؛فإنّه لا مندوحة للذات الإنسانية من الانصياع والتبعية والاقتداء دون الخروج عن ذلك بحال،على غرار ما قرّرته النصوص الدينية الأخرى المتعلقة بواقع العبادات والمعاملات،فهي ثابتة من حيث اللفظ،متحركة باستمرار من حيث الجانب المعنوي؛وهذه الشاكلة الأخيرة إذ نجدها تسير وفق هذا النمط الحركي التغيّري إنّما لحقيقة جعلها الله سبحانه وتعالى في كل نفس تعيش عصرها، تحاول بكل ما تملك من قوة فكرية وعقلية أن تحقق ذلكم التفاعل الموضوعي مثلما مارسته تلكم النفوس التي سبقتها وهي تتعامل مع الوحي الإطلاقي،تماما على نحو ما تقدّم في عقل أبي حنيفة رضي الله عنه حين كان يشير في كثير من السياقات بأنّنا رجال وهم رجال.إنّه المسكوت عنه الذي مفاده أنّه لنا الشرعية المعرفية في أن نقول ونحكم ونخرّج تخريجا يتماشى وما نحن نعيشه ونقوم به،مثلما كان عليه ذلكم الحال عند أولئك الذين كانوا يتربعون على هذه الشرعية المعرفية وهم يتناولون النوازل على اختلاف أشكالها وأنواعها.لكن هل هذه الشرعية المعرفية الكائنة في الأداة(نحن)هي شرعية تعطي الحق اللازم للطرف الآخر المتلقي لاسيّما عند علمائنا الأقدمين،أم هي شرعية تنطلق من الذات لتعود إليها من جديد؟ [19].
هذه رؤية نحسبها تلامس واقع الحقيقة ولو من جانب معيّن؛على أساس أنّ القصد في ملامسة الحقيقة أحسن من تيقن من واقعها تيقنا مطلقا.ونحن إذ نقول بهذه الطريقة إنّما لعلمنا أنّ الباحث عنها ينبغي أن تتوفر فيه ما يسمى بالجرأة العلمية وكذا القناعة؛إذ بدونهما لا تستطيع الذات الإنسانية معرفة وجودها البتة،لاسيّما وأننا نتعامل انطلاقا من وعينا المعاصر في علاقة مباشرة بتلكم الأصول الكائنة في وعي تراثنا العربي الزاخر،على ألاّ نقع في أسر هذا التراث رفضا أو قبولا غير مشروط، لئلا نظل تابعين غير محرّرين بحرية مطلقة تتماشى وما يقتضيه هذا التراث العربي الأصيل.
جامعة عبد الحميد بن باديس «مستغانم »، الجزائر
– كلية الآداب والفنون
– قسم اللغة العربية وآدابها.
– الدكتور:مختار لزعر