

الحبّ حتّى المنتهى
"الحبُّ لا يصنعُ المعجزات
هو، بحدِّ ذاتِهِ، معجزة" (سوزان عليوان)
يتجلّى الحبّ في ديوان "لنتخيّل المشهد"، عذباً رقراقاً كالنّدى المنسكب على وريقات الورود عند الفجر. أرادته الشّاعرة كذلك، وخلقت مفهوماً شاملاً للحبّ، اختزلته بعاشقين جعلت منهما رمزاً لهذا الحبّ.
يلاحظ القارئ بوضوح ارتباط الحبّ عند سوزان عليوان بالطّفولة، لكنّه يأخذ الأبعاد النّقيّة البسيطة المتجذّرة في هيكليّة الطّفل، دون المساس بالنّضج العاطفيّ والعلائقيّ. فللطّفولة عند الشّاعرة أهميّة كبيرة، إمّا لأنّها تحنّ إلى استعادتها، أو أنّها تحيي في داخلها تلك الطّفلة الّتي تاهت بحكم ظروف معيّنة أو نتيجة اختبارات شخصيّة أفقدتها الحسّ الطفوليّ. لكن لا ريب في أنّها تعرّف الحبّ ككائن طفوليّ يحمل في ذاته مقوّمات الطّفل المرادفة للبراءة، والعفويّة، والنّقاء، والخيال، والحلم...
تحكم الشّاعرة ديوانها بين قصيدة افتتاحيّة "لنبدأ بالنّهاية" (ص3) وقصيدة ختاميّة "من يكملُ الحلم؟" (ص 49). فيأتي الحدث معاكساً للنّمط التّقليديّ، لتبدأ من النّهاية وتنتهي بالحلم، أو بمعنى أصحّ، تعبّر الشّاعرة عن الحبّ الحلم الغريب عن العالم، المنفصل عنه. ترسمه لوحات استمدّتها من عالم الشّعر ومن عمق ذاتها حيث يسكن إنسانها العاشق الحقيقيّ.
إذا قرأنا الدّيوان بطريقة تقليديّة من القصيدة الأولى إلى القصيدة الختاميّة، نرصد معاناة الحبّ في هذا العالم القاسي والمرعب. فالقصيدة الأولى وإن حكت عن افتراق عاشقين، إلّا أنّها تحمل ما بين سطورها غربة الحبّ في عالم يصعب عليه تقبّل الحبّ المتجرّد والمتفلّت من مقوّمات العالم:
عاشقان في اللّيل.خائفانكدمعتينفي عينيْ طفلٍمثقوبِ القلبوردتُهُ مجروحة.معطفُهُ على كتفيهاذراعُها حول عنقِهِيرتعشانبردًا و عتمةمثلَ ورقتيْ شجرةٍشبهِ عارية.
المشهد قاتم وقاسٍ تدعمه دلالة الدّمعتين في عينيّ طفل، والارتعاش برداً وعتمة، لتقبض الشّاعرة على وجدان القارئ وتحرّك فيه الوعي العاطفي، فتحثّه على استدراك مشاعر الحبّ الحقيقيّ لتنقذه من قسوة العالم. وتنساب القصائد تباعاً لترسم كلّ واحدة منها رسماً فنّيّاً خاصّاً حتّى تكتمل معاني الحبّ بالمفهوم الّذي أرادته الشّاعرة، وبالمعنى الّذي يتوق إليه القارئ من ناحية اختلاج المشاعر، وارتعاش القلب، واستيقاظ الحبّ المعجزة الّذي يحوّل القارئ من مشروع إنسان إلى إنسان.
بالمقابل، إذا تمّت قراءة القصائد بطريقة معاكسة، تصاعديّة، بدءاً من القصيدة الأخيرة "من يكمل الحلم؟"، سيتعرّف القارئ إلى حلم الشّاعرة، حلم الحبّ، بل سيشاركها الحلم، إذ تفتح له آفاق إكماله. كما أنّها تدخله في عالم الأحلام، والخيال دون أن تفقد الواقع قيمته، وإنّما تهدف إلى زرع الحبّ في كلّ ذرّة من الإنسان.
في قصيدة "زمن الوردة" (ص48)، تُدخل الشّاعرة القارئ في مشهديّة أشبه بأسطورة لتبيّن تفاصيل الحبّ، والعلاقة الوطيدة الأبديّة بين عاشقين الّتي يغفل عنها الإنسان، ليتحدّث عن الحبّ بشكل عام دون أن يهتمّ للتفاصيل الّتي ترتكز عليها الحالة العشقيّة. وبهذا فإنّ الشّاعرة تتحدّث عن حبّ حقيقيّ خارق، يتجذّر في التّراب لينبت في الأعالي. ما يغفل عنه العالم قطعاً:
يُحكىأنَّ عاشقيْنِفي زمنٍ قديمٍدُفِنا في حفرةٍ واحدة.لنتخيَّلَ المشهد:هيكلان عظميَّانمُمدَّدان جنبًا إلى جنبٍكما لو أنَّ الترابَ سريرٌ من عشبٍوالدودَ الذي ينهشُ اللحمَ الباردَفراشاتٌ تنقلُ القبلاتِ في رحيقِها.هل قُتِلا؟انتحرا معًا؟أم أنَّهُما من ضحايا الكوليرا؟
الزّمن القديم يعود بالحبّ إلى أصوله الأولى، والدّفن في الحفرة الواحدة، يرمز إلى أزليّة هذه العلاقة العشقيّة الّتي لا تسقط حتّى وإن احتضنها التّراب. بل وكأنّ الشّاعرة تبرز المعنى المتجدّد الأبديّ للحبّ، وتسكبه في إطارٍ قصصيّ خياليّ لطيف، يحوّل الفناء إلى حياة (الترابَ سريرٌ/ الدّود فراشات). لكنّه في ذات الوقت يطرح تساؤلات عدّة، ويكشف سذاجة العالم، استهتاره، اهتمامه بما لا فائدة منه بدلاً من الاكتراث والاعتناء بالتّبشير بالحبّ:
تجاهلَ الرّواةُعبرَ العصورِهذه التّفاصيل العابرةلتسطعَفي الحكايةِوردةٌ حمراءنبتَتْمن التّرابِ الّذي احتضنَ العاشقيْنِ في عناقٍ أخيرٍجذورُها عظامُ أصابعِهِماالمتشابكةُ في الموتِكما في الحياة.
لا يحتاج الحبّ إلى طرح إشكاليّات وجدليّات وشروحات نظريّة. يكفي التأمّل بوردة حمراء منسيّة حتّى تفيض معاني الحبّ ودلالاته في تفاصيل يعتبرها العالم عابرة، إلّا أنّها ذات دلالات عميقة:
بعدَ ألفِ عامٍ تقريبًامن زمنِ الوردةوفي زاويةٍ صغيرةٍ من جريدةخبرٌ عن طائرةٍ تحطَّمَتْعن علبةٍ سوداء مفقودةعن غوَّاصٍ من فرقةِ الإغاثةعثرَفي أعماقِ البحرِعلى ما يُشبِهُ وردةً حمراء:يدان متعانقانانفصلتا عن جسديْهِمادونَ أن تنفصلَ الواحدةُ عن الأخرىدونَ أن يفترقَ العاشقان.
يأخذ الحبّ عند سوزان عليوان بعداً إنسانيّاً شاملاً، فلا يتحدّد في علاقة بين شخصين، بل ينطلق من الشّخص إلى المحيط. ويُظهر الأعماق الإنسانيّة الّتي يعوزها أن تحبّ لتعاين الجمال، وتشعر بالآخر، وتتلمّس العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطّبيعة وجميع الخلائق. فيرتقي الإنسان وتسمو المعاني الإنسانيّة، ويحيا النّقاء والصّفاء:
لأنَّهُ يحبُّهايصعدُكُلَّ ليلةٍعلى سلالمِ العتمةِبقدميْنِ حافيتيْنخشيةً أن يدنِّسَ السماءَ بحذاءٍلا ينزلُإلاَّ والقمر في يدِهِرغيفًا يفتِّتُهُعلى شكلِ كواكب ونجوم صغيرةدونَ أن يهدرَ حبَّةَ قمحٍ واحدة
ولئن احتلّ الحبّ هذه الرّتبة في عليائه واستحال قوتاً ضروريّاً للعالم (القمر/ الرّغيف)، امتدّ إلى الكون بأسره ليشبع النّفوس الجائعة:
بالتّساويبالعدلِ الذي لا تعرفُهُ سوى أصابع عاشقيوزِّعُ كعكاتِهِ الدّافئةَعلى أطفالِ الشّوارععلى شبابيكِ النّائمينَ دونَ عشاءٍ أو أملعلى الكلابِ والقططِ الضالَّةِ أيضًا.
في الحبّ يتجلّى مفهوم العدالة، والرّحمة، والخلاص. لا بدّ للكون بأسره أن ينغمس في الحبّ كي يخلص، كي تتحقّق فيه العدالة والحرّيّة لأنّ الحبّ لا يحابي الوجوه، ينطلق حرّاً باذلاً ذاته مجّاناً:
فقطلأنَّهُ يحبُّها.من أحبَّ إنسانًاأحبَّ الناسَ جميعًا.
(كواكب و نجوم من قمح/ ص 12)
بالحبّ ترى ما لا يُرى، وتدرك معاني الإنسانيّة الأصيلة، وتستخرج الجمال من القبح، أو ما تعتقده قبحاً. ذاك ما رآه طفلان صغيران متعانقان في متسوّلٍ بعينين مفقوءتين، يتوسّل نظرة حنان واحدة:
وحدهما الولد والبنت المتعانقانضفيرةً من لحمٍ ودمتحتَ مظلَّةٍ ملوَّنةوضعا، برفقٍ، في ثقبيْهِ العميقيْنِقطعةً من الخبزِ المُحلَّىوكمشةَ زبيبٍ وياسمينمتوهِّميْن أنَّهُ شجرةًوأنَّ تجاويفَ جمجمتِهِ- هذه التي تقرفُ الناسَوترعبُ الأطفال-أعشاشَ عصافير.
ذاك ما يعوز كلّ إنسان ليكون إنساناً، وهو أن يعود طفلاً. وحدهم الأطفال ينفتحون على حقيقة الحبّ، ويسمحون لها أن تتسرّب إلى قلوبهم دون فلسفة الأشياء. ببساطة وتلقائيّة، يحتضنون الحبّ في قلوبهم ويعكسون صورته على العالم. هم فقط يفهمون معنى المعجزة، يدخلون في سرّها ويحبّون حتّى المنتهى.