عوالم الكينونة في لا نهائيّتها
– النّصّ:
المكان : نُقطةٌ
الزمان : نفسٌ
الفعل : كُنْ
..
الفستان مفتون بما يشفّ عليه.
– القراءة:
في مشهد قد يكون إشراقيّاً يطرح الشّاعر يوسف الهمّامي خلاصة الوجود بحسب رؤيته الخاصّة في نصّ يوحي شكلاً للقارئ كما لو أنّه يسير في ثلاثة اتّجاهات (المكان والزّمان والفعل) بيد أنّه نصّ يحمل في عمقه وحدة وجوديّة ويخرج عن مبدأ الجهة استناداً إلى (النّقطة والنّفس وكُنْ).
المكان مكان الشّاعر والزّمان زمانه ولا ضير في قول إنّ الفعل يعود له إذا ما فهمنا عميقاً دلالة النّقطة بوصفها رمزاً غير مساوٍ للمكان ودلالة النّفس المتباعدة عن الزّمان ودلالة كن العائدة للشّاعر. وذلك من خلال فصل المكان والزّمان والفعل عن النّقطة والنّفس وكُنْ بنقطتين فصلتا المعنى العامّ عن المعنى الخاصّ. والمعنى الخاصّ أعمق ممّا يبدو للقارئ. ولعلّ هذا النّصّ هو الدّائرة المرتبطة بالنّقطة الّتي وضعها الشّاعر في المقام الأوّل قبل النّفس والفعل. وغالب الظّنّ أنّه يشير إلى الإنسان الكامل بالمفهوم الصّوفي فيتماهى مع محيي الدين بن عربي في قوله: "الدائرةُ مطلقةً، مرتبطةٌ بالنقطة. النقطةُ مطلقةً، ليست مرتبطةً بالدائرة. نقطةُ الدائرة مرتبطةٌ بالدائرة" ما يمنح القارئ مفتاح النّصّ للدّخول إلى عمق المعنى الخاصّ، معنى الاختبار الصّوفيّ عند الشّاعر.
من الملاحظ أنّ الشّاعر عرّف المكان ولم يعرّف النّقطة بل جعلها نكرة، فحدّد المكان فاصلاً إيّاه عن النّقطة الدّالّة على ما هو غير محدّد. وبهذا الفصل انفصل الشّاعر نفسه عن المكان المحدّد وخلق مكانه الخاص، دائرته الخاصّة المرتبطة به (نقطة). فيصبح المعنى مكان الشّاعر نقطة، وهو تماهٍ مع الوجود ككلّ. فهو النّقطة المتّحدة بالوجود لكنّها النّقطة العليا. بمعنى آخر، ارتقى الشّاعر عن الوجود ولم يزل يتماهى معه. ولمّا أوجد الشّاعر مكانه الخاصّ خلق زمانه الخاصّ (نفس) فأمسى للشّاعر دائرته الخاصّة بفعله (كن) فالشّاعر، النّقطة العليا، خلق الدّائرة المرتبطة بالنّقطة والنّفس. ومعنى الخلق هنا علويّ وهو غير المعنى الانعزاليّ أو الانطوائيّ. فالشّاعر منفتح على العلوّ ومتّحدٍ بالعالم الإلهيّ وهو المخلوق والخالق. وأظنّ أنّه استند إلى الحديث القدسيّ: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ". كما استند إلى الآية 82 في سورة يس: "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، والاستناد إلى الآية أو الحديث القدسيّ استناد روحيّ يقينيّ بالنّقطة المرتبطة بالدّائرة أو الإنسان المرتبط بالله كما الشّاعر المتماهي مع العالم الإلهيّ. ولعلّي أستشفّ من المعنى العميق للنّصّ أنّ الشّاعر صاغ نصّه بذات الانفتاح العلويّ فأتى النّصّ دائريّاً لا بداية له ولا نهاية فينطلق من:
المكان : نُقطةٌ
الزمان : نفسٌ
الفعل : كُنْ
إلى المعنى الأكبر والأعمق،
كُنْ الفعل
نقطة المكان
نفس الزّمان
فبات الفستان الّذي يرمز إلى الجسد أو الثّوب أو اللّباس الشّرعيّ الّذي ينبغي ألّا يكون شفّافاً، مفتوناً بما يشفّ عليه. وكأنّي بالشّاعر يصف دائرته النّوارنيّة أو يحاول أن يترجم حالة النّور الّذي يحيا في دائرته، أو لعلّه يبيّن للقارئ حركة الكلمة النّور والفعل واليقين فيحمله من المكان إلى اللّامكان ومن الزّمان إلى اللّازمان. وقد يأخذنا المعنى العميق للنّصّ إلى ما أورده السّهروردي في كتابه (نـزهة الأرواح) بعض كلامه الفلسفيّ الصّوفيّ الّذي يشير فيه إلى تلك الأنوار وحضورها في مذهبه العشقيّ: "أوَّل الشّروع في الحكمة الانسلاخ عن الدّنيا، وأوسطه مشاهدة الأنوار الإلهيّة، وآخره لا نهاية له." ويبدو أنّ الشّاعر شرع في الانسلاخ عن الدّنيا ولكن بتجربة خاصّة قد تتمايز عن المعنى المتعارف عليه للانسلاخ عن الدّنيا إلّا أنّه منغمس في مشاهدة الأنوار الإلهيّة.