الاثنين ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم فيصل القاسم

الجمهور مش عايز كده!

غالباً ما نتحدث عن الديكتاتورية السياسية والدينية، علماً بأن هناك ديكتاتورية لا تقل بشاعة وإرهاباً وفتكاً، ألا وهي الديكتاتورية الإعلامية، فوسائل الإعلام، في الشرق والغرب، على حد سواء، تمارس استبداداً خطيراً، حتى لو بدا أقل فجاجة من السياسي والديني. ماذا يمكن أن نقول عن التحكم الإعلامي بأذواق الجماهير وبرمجتها ووتوجيهها وتعويدها على أنماط ونماذج معينة، ثقافياً وفنياً واجتماعياً، رغماً عنها؟

ألا يمارس الإعلام نفس الدور الذي يمارسه الطغاة في فرض توجهاتهم ورؤياهم ومعاييرهم ووجهات نظرهم على الناس، دون أن يكونوا راضين أو متقبلين لتلك التوجهات؟ ولا أبالغ إذا قلت إن الطغيان الإعلامي يكاد يكون أكثر خطورة على المجتمعات من الطغيان السياسي، لأن الأخير أشبه بالدمل الخارجي، فهو، على حد تعبير الطبيب المفكر خالص جلبي،على الأقل، واضح ومؤلم ومقاومته سهلة. أما الطغيان الإعلامي فهو غير مؤلم ومقاومته معقدة، وهو في هذا يشبه السرطان. فإذا كانت الديكتاتورية السياسية أشبه بالخرّاج، فإن الهيمنة الإعلامية ورم خبيث. الأول سطحي، والثاني خفي. ما أسهل أن تقاوم الديكتاتور السياسي، لكن ما أصعب أن تقاوم الديكتاتور الإعلامي، فهو أكثر قدرة على خداعك والتقرب منك وتخديرك بوسائله الماكرة والإغرائية.

وبما أن المجتمعات العربية تقبع تحت استبداد مقيت يفرض نوعاً واحداً من كل شيء، فإن قدرتها على مقاومة الطغيان الإعلامي ظلت محدودة، إن لم نقل معدومة، حتى انبثق عصر السموات المفتوحة الذي بدأ يحطم القبضة الحديدة للأنظمة الطغيانية ويحرر المجتمعات من هيمنتها بأشكالها كافة. لكن الكثير من وسائل الإعلام التي انطلقت مع الثورة الإعلامية الحديثة راحت ، من سخرية القدر، بدورها تمارس الاستبداد الإعلامي بحجة التعددية الإعلامية بدهاء أكبر وتأثير أخطر، وكأنك "يا بو زيد ما غزيت"!

صحيح أن من حق الجميع أن يطلقوا وسائل إعلام تعبر عن توجهاتهم وميولهم ومصالحهم المختلفة في عصر الانفتاح الإعلامي، وصحيح أيضاً أن هذا التعدد الموجود في الفضاء دليل ديموقراطية إعلامية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بفضل التطور الخطير الذي وصلت إليه تكنولوجيا المعلومات، إلا أن الديكتاتورية، على ما يبدو، متجذرة في النفس الإنسانية حتى لو اتيح لها ممارسة أقصى حالات الديموقراطية.

لم يستفد الإعلام العربي مثلاً من نعمة التعددية الإعلامية التي وفرتها ثورة الاتصالات الحديثة، إلا ما ندر. صحيح أننا أطلقنا مئات القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية، إلا أننا بقينا ندور في فلك الاستبداد. ماذا يمكن أن نسمي هذه الموجة الجارفة من الفضائيات الغنائية والفنية والترفيهية التي تجتاح الفضاءات العربية من المحيط إلى الخليج؟ أليست ديكتاتورية من نوع ما؟ لماذا ظل التعدد الإعلامي خجولاً في مجتمعاتنا العربية؟ فإذا قارنا عدد الفضائيات التنويرية بالشعبوية نجد أن الأخيرة تفوقها بأضعاف مضاعفة.

قد يقول البعض إن الأمر ذاته ينطبق على البلدان الغربية الديموقراطية، حيث يزيد عدد وسائل الإعلام الشعبية الصفراء على وسائل الإعلام التنويرية بنفس القدر أو أكثر. وهذا صحيح. لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم قطعوا أشواطاً هائلة على طريق التقدم التكنولوجي والصناعي والعلمي والثقافي، وقد يكون من حقهم أن يأخذوا استراحة محارب حتى لو كانت استراحة ماجنة، بينما ما زلنا نحن العرب نعيش في مرحلة ما قبل عصر التصنيع تكنولوجياً، وفي العصر القبلي سياسياً وثقافياً واجتماعياً. بكلمات أخرى، فإن ما ينطبق على المجتمعات الغربية لا ينطبق على المجتمعات العربية، لا من حيث العقلية والثقافة، ولا من من حيث مدى التقدم. بعبارة أخرى، فقد قفزنا إلى المرحلة الغربية دون أن نمر في مخاضها، أي أننا أخذنا قشورها من دون أن نعيش جوهرها. ناهيك عن أن تلك القشورالإعلامية التي أخذناها من الغرب ضارة جداً حتى بالنسبة للمجتمعات الغربية ذاتها، فهي أسوء ما أنتجته تلك المجتمعات؟ هل يمكن أن نسمي التعهير والانحلال الإعلامي الغربي تقدماً مثلاً، أم هبوطاً؟

إن الإعلام الغربي شعبوي وتسطيحي وتخديري وحتى منحط إلى حد كبير، فهو يصنع النماذج الساقطة والسخيفة والهابطة، ويفرضها على المجتمعات الغربية، كأن يركز ليل نهار على مطربة أو فنانة أو لاعب كرة، بينما يتجاهل المفكرين والمثقفين والكتاب والأدباء، بحجة أن "الجمهور عايز كده"، وأن علينا أن نساير رغبات الجمهور ومتطلباته وأهواءه، بينما هو في الواقع، إعلام ديكتاتوري إلى حد بعيد من ناحية فرض نماذج وأنماط معينة دون غيرها على الجمهور، ثم يدّعي أن الجمهور يريد ذلك، ناهيك عن أن "الديموقراطية" الإعلامية الغربية المزعومة ليست مقياساً ولا حتى مثالاً يُحتذى، فهي، كما أسلفت، أقرب إلى الاستبداد عندما يتعلق الأمر بتوجيه الشعوب وتسييرها وبرمجتها وتخديرها، بالرغم من ادعائها التحرر والتنوع والاستقلالية. مع ذلك، فقد ضربت وسائل الإعلام العربية عرض الحائط بكل تلك الحقائق البشعة عن الإعلام الغربي الأصفر، وراحت تقلده على طريقة القرود.

ولعل السمة المشتركة الأبرز بين وسائل الإعلام العالمية، ومنها العربية، أنها قهرية وقسرية إلى حد كبير. ولو أخذنا الإعلام العربي الشعبي الذي يزعم التحرر والديموقراطية ومسايرة الشعوب تحديداً، لوجدنا أنه ديكتاتوري إلى أبعد الحدود، بحيث لا يختلف عن الإعلام السياسي التابع للأنظمة الشمولية، فالأثنان ينصّبان نفسيهما موجهين للجماهير وقيمييّن على أذوقها، الأول ثقافياً وفنياً واجتماعياً، والثاني سياسياً.

ما هي النماذج التي يحاول الإعلام العربي فرضها على ملايين المشاهدين العرب، أليس نموذج المغنيات والمؤديات والراقصات الماجنات؟ هل يُعقل أن مؤدية ساقطة أجرت لجسدها عشرات عمليات التجميل، وحقنت جسمها بكيولات من السيليكون وقد أصبحت المثل الأعلى للجمهور العربي؟ بالطبع لا. قد تحاول الفضائيات العربية أن توهمنا بأن هذه الفنانة الماجنة أو تلك قد غدت النموذج الأمثل للمشاهدين والمشاهدات، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً. ليس صحيحاً أن النماذج التي تروج لها التلفزيونات العربية الغنائية والاجتماعية هي المأمولة أو المرجوة أو المطلوب احتذاؤها. ولا أبالغ إذا قلت إن العكس قد يكون صحيحاً.

لقد شعرت بفرحة كبرى لظهور قناة فضائية عربية فنية شعبية تسعى إلى معاكسة التيار الإعلامي السائد والمهيمن على الساحة. هذه القناة تشن منذ انطلاقها قبل فترة حملة شعواء على نماذج التعهير التي تتبناها الفضائيات المسيطرة الأخرى وتصنعها. واللافت أن السواد الأعظم من الذين يتصلون ببرامج تلك القناة الخارجة على السرب يمطرون الفنانات والمؤديات والراقصات والساقطات اللواتي ظنن أنهن أصبحن ملهمات المجتمعات العربية وأيقوناتها ومبتغاها ومثلها الأعلى، يمطرونهن بوابل من السباب والشتائم والإهانات، مما يعني أن تلك النماذج هي نماذج مرفوضة، لكنها مفروضة بقوة الإعلام الديكتاتوري، لا أكثر ولا أقل، وهن قد لا يمثلن إلا شريحة صغيرة جداً من المجتمعات. بعبارة أخرى، "الجمهور مش عايز كده"، بل هو ضحية التسلط الإعلامي البغيض.

وحتى لو تعود الجمهور على بعض الأنماط التي يصنعها الإعلام فليس لأنه اقتنع بها، بل لأنه لا يرى غيرها أمامه. إن الإنسان أشبه بالكومبيوتر، فنظرية الحاسب الآلي تقوم على مبدأ: رابش إن رابش أوت ، أي ضع في الكومبيوتر معطيات جيدة يُخرج لك معطيات جيدة، واعطه معطيات سيئة يُخرج معطيات سيئة. وكذلك الأمر بالنسبة للمستهلك الإعلامي، قدم له مادة صالحة، تصنع منه مستهلكاًً صالحاً. ما أصعب أن ترتقي بالجماهير، وما أسهل أن تهبط بها إلى أسفل السافلين!

وكما عانينا ومازلنا نعاني سياسياً من ظاهرة الزعيم الأوحد، فقد بدأنا نعاني الآن من ظاهرة النموذج الاجتماعي والغنائي والفني الأوحد الذي يمثله بعض الفنانين والفنانات، والذي تروجه فضائيات "الهشك بيشك"،على الرغم من محدودية أتباعه. لا شك أننا بحاجة إلى عشرات القنوات لمواجهة استبداد الإعلام الجديد الذي يحاول أن يفرض على مجتمعاتنا أشكالاً وأنماطاً معينة، لهذا فإن القناة آنفة الذكر قد لا تستطيع أن تتصدى لهذا المد الإعلامي الطغياني الذي يجتاح عالمنا العربي كاجتياح النار للهشيم، رغم جرئتها الرائعة في تسخيف النماذج الرائجة وتعريتها وفضحها، وربما تبقى صرخة في واد. وأخشى أن تكون كمن يتصدى لدبابة بحصوة. فالسلعة الرديئة في بلادنا العربية يبدو أنها تطرد السلعة الجيدة، وليس العكس، خاصة وأن المتمولين وأصحاب الملايين القائمين على بعض الامبراطوريات الإعلامية العربية لا يحبون المتاجرة إلا بالسلع الرديئة، كما يظهر من نوعية فضائياتهم ونماذجها الساقطة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى