

التنجيم
التنجيم علم قديم قدم الإنسان، يرصد الكواكب وتطور مواقعها، وقد ولع به البشر مند القدم بغية معرفة الحوادث المستقبلية عن الكون والإنسان، وسلكوا في سبيل نيل هذه المعرفة طرقا شتى كالاستعانة بالجن، وممارسة نوع من الرياضات الذهنية و البدنية، وملاحظة حركة الطير، وحركة الأفلاك في السماء اقتراناً وافتراقاً ، والربط بينها وبين أحوال الإنسان، واستعملوا حساب الجمل، وضرب الخط، كل ذلك لنيل المعرفة بالغيب، خوفا من نوائب الدهر، ومصائب الحياة و فواحعها، لكن لم يكن في كل ما فعلوه من سبيل لمعرفة ما ستره الله عن البشر من غيبه سبحانه، قال تعالى: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (الجـن:27)، فقطع الله عز وجل كل طريق سوى الوحي لمعرفة غيبه سبحانه. ورغم أن الشرع بين فوائد النجوم بالنسبة للإنسان، ودأب المنجمين في الكذب والدجل، وبطلان ادعاءاتهم وأنها لا تؤدي إلى ما يزعمونه من معرفة الغيب، فقد انتشر في عصرنا هذا واتخذ أشكالا جديدة وخصصت له الصحف والمجلات والقنوات أوقاتا ومساحات، وامتهنه أشخاص كثيرون يدعون علم الغيب والإطلاع على حوادث الدهر وتوقعاته وقراءات حسن أو سوء الطالع مستدلين على ذلك بحركة النجوم والكواكب، واختلاف المواليد والمطالع. وروج المشعوذون والدجالون والسحرة لسوقه الذي يرتاح له البسطاء من معاناة واقعهم ، ويجعلهم يعيشون أحلاما وردية هلامية، حتى أخذت الخوارق والظواهر غير الطبيعية المنافية للدين والأخلاق حيزا كبيرا من حياتهم واستغرقت كل تفكيرهم، واستنفدت كل طاقاتهم في أمور لا جدوى من ورائها ولا طائل، وبذل الناس في سبيل معرفة قول منجم في مستقبلهم الأموال والأوقات، وكانت من بين أهم أسباب التخلف الذي تعيشه بعض الأمم.
ليس عجيبا بعد هذا أن نسمع أن رئيسا من الرؤساء أو قائداً من القادة، قد اتخذ منجماً أو كاهنا، يتخذ قراراته، ويبني سياساته، بناء على ما يخبره به المنجم والكاهن، فتحكم المنجمون والكهنة في زمننا بمصائر الأمم والشعوب، وقضايا السلم والحرب.
حدثني أحد جلساء المقهى الظرفاء، المطلعين العارفين المتخصصين في خبايا أمور الناس، المسكونين بالتلصص على أسراهم والمهووسين بكل ما تخبئه رؤوسهم وتضيق به صدورهم، حدثني عن إدمان الكثير ممن يتبوءون مختلف المناصب والمراكز الحساسة في البلاد الصغيرة منها والكبيرة، على زيارة (الفقهاء) الدجالين و(الشوافة) المشعوذين، معتقدين أنهم بذلك يقوون من نفوذهم في التحكم في نواصي العباد ويعززون من ملكاتهم في الاستحواذ على خيرات البلاد؛ وإن كنت أميل إلى رفض مثل تلك الأخبار المغرضة الكاذبة، حتى ولو استندت على بعض الوقائع والمشاهدات الواقعية الملموسة. استرسل جليسي متسائلا: ألم تلاحظ أنه مع اقتراب موعد كل استحقاق انتخابي، يكثر تردد العديد من منتهزي الفرص صيادي المنافع من المرشحين، على أوكار(الفقهاء، ودور الشوافات، وكل أولئك الذين يدعون علم الغيب، أصحاب الكرامات والقدرات الخارقة الذين (كيديروا الطريق فلبحر) و(يجبوا الجنة على ظهور الجمال) بكتاباتهم المطلسمة، وتمائمهم الملغمة؟؟؟؟. وأضاف جليسي بحماسة أن أحدهم رغم شواهده العليا، ومراكزه المرموقة في صفوف أحد الأحزاب الوطنية المعروفة، تعاقد مع أحد سحرة المدينة (الواعرين) على أن يُنجحه في الانتخابات دون حاجة منه إلى دعاية ولا هم يحزنون، مقابل مقدار مالي ظخم، يتسلم نصفه مسبقا على أن يحصل على الباقي مباشرة بعد الفوز بالمقعد البرلماني المريح .
ظاهرة غريبة، وسلوكات شائنة يمكن أن يُلتمس العذر لمرتكبيها لو كانوا من عامة الناس وبسطائهم، أما وأن فاعلوها من المرموقين أصحاب العلاقات العامة والذين يطمحون إلى احتراف سلطة التشريع والرقابة، فلا يمكن أن تقبل منهم أبدا.
أجبت محدثي المسألة ياأخي إذن مسألة تربية وتكوين سيكولوجي معتمد في أولويته الفطرية على القيم والعادات المبنية على الذاتية والتسلطية والتحكم والوجاهة الاجتماعية، المستقاة من البيئة المليئة بالغموض والعقد والقلق الاجتماع ، التي ينشأ ويترعرع فيها وعليها ذاك المرموق الذي يأتي بمثل هذه التصرفات ليحتل منصبا مرموقا في المجتمع ... فهل مرشح يورط نفسه في مثل هذه الممارسات المحرمة شرعا والمرفوضة أخلاقا والمنبوذة منطقا، مؤهل و مهيأ وجدير بأن يقود أمةن ويكافح ما حل بها من فساد تحت قبة البرلمان بغرفتيه ؟؟؟ قال محدتي: ليست الأمة العربية وحدها في هذا الهم، بل إن الشعوذة تحكمت من الأمة العربية قاطبة، وزاد من حدة انتشار هذه الظاهرة الممقوتة عبر العالم، تلك الفضائيات ذات المستوى الرخيص المبثوتة كالفطر في كل مكان. ومن أغرب ما قرأت مؤخرا أن الشعب البلغاري هو الآخر، حسب ما نشرت بعض وسائل الإعلام في تقارير تحدثت عن تغلغل السحرة في الحياة العامة للبلغاريين.
حيث أنه قبل التغيرات التي شهدها العالم والمتمثلة في انهيار الكتلة الشرقية، لم يكن للسحر والشعوذة سوق يذكر في دول مثل بلغاريا ورومانيا وعموم أوروبا الشرقية. أما الآن فإن صنوف النصب والشعوذة والدجل الفلكي تنتشر بمعدلات صاروخية.
وقد أشارت إحصائيات نشرت مؤخرا أن نصف البلغاريين يؤمنون بالسحر وقراءة الخواطر والقدرة على التكهن بما سيجري ويحدث، وأن الأرواح الشريرة تعيش بين الناس من دون أن يحسوا بها. وترى النسبة نفسها أن القطط السوداء تجلب النحس، وأن الناس معذورون إذ يتشاءمون منها. وترى نسبة مشابهة أن بالإمكان التواصل مع الموتى عن طريق أنواع معينة من السحر. وقد نشرت بعض وسائل الإعلام مؤخرا تقارير عن تغلغل السحرة في الحياة العامة ببلغاريا..