التمثلات السوسيو ثقافية المقاربة للأيدولوجيا
ليست الأيديولوجيا هي التمثل الذهني الوحيد الذي يشكل إطارا فكريا عاما للحركة الاجتماعية والسياسية، فهناك بنى فكرية أخرى تتداخل مع مفهوم الأيديولوجيا، لكنها لا تجبه أو تزيحه، مثل الأفكار، النظريات، الفلسفات، والمذاهب السياسية، علاوة
على الطوباوية والتجليات الاجتماعية للأديان. ويفرض هذا الوضع ضرورة التمييز بين هذه التمثلات، ذات الطابع السوسيوثقافي والسياسي في آن واحد، والأيديولوجيا بما يجلي مفهومها ويحدد العلاقة بينها وبين مفاهيم تلك التمثلات جميعا.
الفكرة السياسية هي تصور عقلي أو ذهني لظاهرة أو مسألة سياسية. أما الفلسفة السياسية فذات مرتبة أعلى من سابقتها، وهي تعني المعالجة الممنهجة من قبل الفيلسوف للنظرات والأفكار السياسية، التي تدور حول مسميات تعني بها الفلسفة بوجه عام، بوصفها الرؤية المتعمقة أو النظرات الشاملة، التي تتصدى لتفسير العالم والإنسان والمجتمع والطبيعة. والفلسفة السياسية قد تنسب لموضوعها أو للطبع الغالب عليها، فيقال مثلا: فلسفة سياسية مثالية أو مادية أو توفيقية أو ليبرالية أو اشتراكية. كما قد تنسب لاسم صاحبها أو للمفاهيم والمبادئ التي يعالجها، كما نجد ذلك في مبدأ “الخير العام” عند أرسطو، ومفهوم “العصبية” لدى ابن خلدون، و”السيادة” الذي حدده جان بودان، وقيمة “الحرية” عند جون لوك. والنظرية السياسية هي قضية تثبت ببرهان، وتعد تركيبا عقليا مؤلفا من تصورات منسقة، تهدف إلى ربط ! النتائج بالمبادئ، وهي تتميز عن الفلسفة السياسية في احتوائها على قدر أعلى من الحجية. أما المذهب السياسي فهو يتبدى حين يتخذ أي إنسان من نظرية أو فلسفة سياسية ما “عقيدة” له، يؤمن بها، ولا يرضى بمناقشتها أو دحضها عقليا، أو وفق منهج علمي. ففي هذه الحالة تصبح هذه الفلسفة أو تلك النظرية مذهبا بالنسبة له، يسعى إلى إقناع الآخرين به. والمذهب عامة هو مجموعة من الحقائق المنظمة والمتماسكة والمتصلة غالبا بالسلوك، لذا فهو أقرب إلى الأيديولوجيا منه إلى الفلسفة أو النظرية. والمذهب السياسي والأيديولوجيا ينزعان إلى الكلية النظرية والعملية التي لا تتوافر بالضرورة بالنسبة للفلسفة والنظرية السياسية. ويقدم بول شوماخر، بشكل غير مباشر، توصيفا للفرق بين الأيديولوجيا وكل من الأفكار والنظريات السياسية، من خلال شرحه لكيفية بنائها لدى الأفراد، فيقول: “تكون في البداية انطباعات لديهم عن الحكومة، ثم يحددون مواقفهم حيالها، وحين يصلون إلى توصيفات وتفسيرات عامة حول طريقة حياة الناس في المجتمع، وطريقة حكم ذلك المجتمع، يكونون قد لمسوا منطقة التنظير السياسي. وحين ينتقلون من ذلك إلى بناء رؤية نقدية للواقع والتفكير في ما ! يجب أن تكون عليه معيشة الناس في المجتمع، وسلوك الحكومات إزاءهم، يتحولون إلى منظرين سياسيين. ولأن أغلب البشر لديهم الأفكار عن الحياة السياسية والاجتماعية، فكل واحد منهم يعد منظرا سياسيا بدرجة ما. من بين هؤلاء هناك أناس معنيون بالبحث في جذور أو أصول ومصداقية وشمولية وتماسك أفكارهم السياسية. هؤلاء يكونون الأيديولوجيا”. وهذا التصور يقدم الأيديولوجيا كمرحلة لاحقة على الأفكار والنظريات السياسية، أكثر عمقا وإيجابية، حيث انها تحرض دائما على التغيير.
لكن الجدل الأساسي دار حول علاقة الأيديولوجيا باليوتوبيا من ناحية، والتجليات الاجتماعية/ السياسية للأديان، من جهة ثانية، إذ ان كليهما كان، ولا يزال، محل تفاعل وتشابك مع التصور الأيديولوجي عبر محكات عديدة. واليوتوبيا صيغة تطلق على جميع الأفكار والأوضاع
والملابسات التي لا يمكن تطبيقها في الواقع المعيش، نظرا لبعدها عنه، ولذا تبقى نوعا من المسرحية السياسية والاجتماعية الخلاقة التي تطرح في إطار خيالي، وهي تختار منذ اللحظة الأولى التي نحت فيها توماس مور طريق الغموض والخيال، فتصبح اليوتوبيا Utopia بمعنى المكان غير الموجود في أي جهة، أو الأيديوتوبيا Udetopia، أي المكان غير الموجود في أ! ي زمن، أو الأوتوبيا Eutopia، بمعنى مكان السعادة، حيث كل جديد، وهي في كل الأحوال “مجتمع مثالي” نسجه مور في شكل روائي جيد عبر رحلة خيالية.
وبذلك اكتسبت كلمة “يوتوبيا” منذ الأصل أو المنشأ معنى المستحيل إنجازه، سواء لدى العامة في استخدامهم اليومي لها كمصطلح، أو لدى الكثير من المفكرين الاجتماعيين، حين أرادوا أن يصفوا تلك المشروعية المجتمعية التي نراها مستحيلة التنفيذ أصلا. إنها تعني هنا اللااتصال بالواقع أو نوعا من الخيال الجامح، ولذا أصبح البعض، إن لم تكن الأغلبية الكاسحة، ينظر إلى الشخص الذي يؤمن بها، على نطاق واسع، بأنه مختل عقليا.
من هنا نجد أن مقابلة الأيديولوجيا اصطلاحا وواقعا باليوتوبيا تشي باتساع الشقة بينهما، وهو ما لمسه كارل مانهايم في تمييزه بين الاثنتين، فلديه تعني الأولى منظومة من الأفكار والقيم والمعتقدات التي تسعى للحفاظ على الوضع القائم، أما الثانية فتعني الأحلام التي تلهم العمل الجمعي لفئات تعارض رغبة في تغيير المجتمع جذريا. والأولى، وعلى الرغم من أنها تستطيع ممارسة دور فعال في تحفيز الإنسان على العمل، فوظيفتها الأساسية تبرير أنظمة النظام الاجتماعي والسياسي، بينما الثانية تمتلك قوة التغيير، نظرا لأن الأيديولوجيا تعبر عن ذهنية الطبقات حال اندحارها، أما اليوتوبيا فترتبط بحضور الطبقات، وتقوم بدور ثوري يقلب النظام الاجتماعي.
لكن التمييز الصارم بين مفهومي الأيديولوجيا واليوتوبيا الذي يقطع أي صلة بينهما أو يضعهما في خطين متوازيين لا يلتقيان أو يقابل أحدهما الآخر، يبدو أمرا غير صائب، حال تمحيص جدل المفهومين مع الواقع عبر التاريخ. فالرموز، في نظر عالمي السياسة الأمريكيين ابراهام كابلان وهارولد لازويل، تعمل في بعض الأوقات مثل اليوتوبيا، وربما في وقت آخر تعمل كأيديولوجيا، ولذا فمن الممكن أن تكون يوتوبيا اليوم أيديولوجيا الغد. وقد حدا ذلك بالمفكر المصري المعروف سمير أمين على أن يضع مفهوم اليوتوبيا في صيرورة دائمة، حين تحدث عن عدم ثبات القواعد التي تحكم المجتمع، فما كان يبدو طوباويا في عصر ما ومتناقضا تماما مع قواعد سير المجتمع بما يجعل من المستحيل تحققه، يصبح ممكنا في عصر لاحق.
وبعد أن كان اعتناق اليوتوبيات نوعا من الخلل العقلي أخذ كثيرون ينظرون إلى المفهوم بمعنى أكثر رحابة من منطلق الإيمان بأن المستقبل يمكن أن يتجاوز الحاضر بصورة أساسية، وأن نسيج الحياة والعمل وحتى الحب في المستقبل لا يحمل سوى تشابه ضئيل بما هو مألوف لدينا اليوم. كما أنه لا يوجد مجتمع بشري من دون رؤية أو مشروع خاص به، الأمر الذي يجعل البشر في حاجة دائمة إلى التصورات الطوباوية التي تمثل المحرك الضروري للعمل، الذي يؤدي إلى إحراز تقدم في الحياة.
وهذا التقريب بين اليوتوبيا والواقع زاد من مساحة تماسها مع الأيديولوجيا، خاصة بعد أن تعامل كثيرون مع اليوتوبيا على أنها “برنامج سياسي” و”نموذج اجتماعي”. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، حجز السوفييت مكانا لتوماس مور في مدفن عظماء الثورة البلشفية، وتم تسجيل اسمه على نصب تذكاري في الساحة الحمراء في موسكو، في حين قام الكاثوليك بتطويب مور عام ،1886 ونصبوه قديسا عام ،1935 ليفتح الطرفان الباب واسعا أمام تصور إمكانية تحقق لليوتوبيا، أو بعض جوانبها، في الواقع المعيش على الأرض، بدلا من أن تظل أملا يحلق بعيدا خارج نطاق ما يمكن أن يراه البشر أو يلمسوه.