السبت ٣ تموز (يوليو) ٢٠٢١
بقلم البشير البقالي

التشكيل الخيميائي في رواية «رباط المتنبي» لـِ: حسن أوريد

يأتي هذا المحورفي سياق إبراز ملامح الباطنية في رواية «رباط المتنبي»، وكنت قد أشرت في محور سابق(*) إلى أننا سنعود لمحاورة بعض شيفرات الباطنية في النص.

ولعل السمة المؤكدة والمربِكة في رواية "رباط المتنبي "هي أنها شديدة الإلغاز والتكثيف والرؤية الوجدانية للوجود والكائنات والأشياء والتاريخ والواقع، لدرجة يمكن القول، إننا أمام أحجية أشبه بمتاهة، حيث الدالات لا تستقر على مدلولات واضحة وثابتة، وحيث العناصر الروائية لا تتوقف عن التحول والدخول والخروج من معنى إلى آخر في حركة وحيوية توحي بالبحث المتوتر عن المطلق واللامحدود، فبدا الراوي في منزلة متأمل يفكك العلامات الوجودية بصنعة الخيميائي ونظرة صوفية موغلة في الترميز والغموض والتحول والإخفاء والسرية التي اشتهر بها المتصوفة، فقد لاحظ أحد الباحثين هذه الخاصية عند ابن عربي، مبرزا أن لا توجد حدود واضحة بين المفاهيم والدلالات، فالمرونة والسيولة والتحول وعدم الاستقرار هي الشيء الثابت عند ابن عربي(1). ووجود هذه السمة في في رواية «رباط المتنبي» خلخل استقرار المعنى وأودعه في سياق تفاعل وتحول دائم شبيه بالتحول الهرمسي للدلالة، مما جعل لغة النص هرمسية متسمة بطابع خيميائي، إذ «تميل إلى الترميز، أي إخفاء أسرار التصنيع».(2)

لقد عبر الراوي في «رباط المتنبي» في سياقات عديدة، عن قصد الترميز وإقحام القارئ في لعبة لا تنتهي من التلون الدلالي والغموض، من خلال أسئلة كثيفة ومتكررة ارتقت بحوارية الرواية من جهة، وأومأت من جهة أخرى، إلى الإلغاز والتعتيم الدلالي، وتركزت الأسئلة حول الجسد والروح، والذكرى والفكرة، والموت والبعث، والسبب والعَرَض، والعلة والمعلول، والحاضر والماضي والمصير، والحلم والجنون والتمرد، وأشياء أخرى من قبيل الدال والمدلول، إذ نقرأ قول الراوي في سياق تصوير حيرته الوجودية في ظل الخلط بين السبب والعَرَض في ما يعانيه: «بشرى وخولة هما امتزاج لحالة ما الأصل والصورة؟ ما الدال والمدلول؟».(3)

إن هذا المونولوج موجه إلى الداخل، لكن نبرته تتجاوز الذات إلى القارئ، إذ يشعر بأنه مقصود بالسؤال ومعني بفك شيفرة اللغز. ولا يخفى أن الصورة السردية محملة ببعض مفاهيم الخيمياء من قبيل، امتزاج، أصل، صورة...، مما يوحي بأن الراوي عبّر روائيا ولغويا، لكن بخلفية الخيميائي وتفكيره.

هذه الخلفية الخيميائية للراوي تتعزز في صورة أخرى وردت في سياق حواره مع الدكتورة خولة حول واقع العرب وحلول المتنبي وأمل الترميم إذ يقول:

«- من الصعب أن نجري حكما على ما يجري الآن. واقع الحال يبين عن تردي، لكن لا يمكن أن نجزم بأن لا شيء يمكن أن ينهض من هذا الخراب. تعلمنا الكيمياء أن الأشياء تتحلل لكي تنتظم في بنية جديدة.

الأمل ممكن إذن؟

الأمل يصاغ، الأمل ليس قدرا. كما أن ليس هناك لعنة أبدية أو مرحلية، ولا رسالة مهدوية، أو أمم لها وضع اعتباري، أو شعب مختار، أو خير أمة أخرجت للناس. من الضروري أن تضطلع الصفوة من أصحاب الفكر برسالة تربوية، بل أكثر من تربوية، لا بد من حصة استشفائية...».(4)

يبدو في هذه الصورة السردية، أن الراوي يقيم تناظرا مقصودا بين الواقع وإمكانية تغييره من جهة، وبين الكيمياء وتفاعلاتها من جهة أخرى، وهي تتضمن دلالات الفصل والوصل من خلال لفظتي، تتحلل/ تنتظم. وبينهما عنصر تحويل ممثلا في الرسالة التربوية والحصة الاستشفائية. وبذلك توحي الصورة بالخلفية الكيميائية التي نظمت تمفصلات الرواية وتشكيلاتها السردية، خصوصا وأن القسم الثاني من الرواية جاء في شكل حصة استشفائية موجهة لغرض تربوي، من خلال بوح البطل من خارج الوعي، بعد الحقن، بقصد تمرير عناصر التحويل، تحويل الواقع ومعضلاته. فهذه الصورة لم تكن عبثية ولا من قبيل الترف السردي، بل أسهمت في إضاءة الصنعة الروائية في النص، وهي صنعة ذات خلفية خيميائية.

هكذا تنمو في الرواية مماثلة باطنية، بين الواقع والخيمياء، وبين أحداث الرواية وتمفصلاتها السردية والدلالية والعمل الخيميائي، مما يبوح بملامح صوفية وتأمل عميق، يفسر ويفكك العلامات الوجودية بعقلية الخيميائي، لكن باختراق صوفي وتأملات روحية للأشياء. يقول يونغ «إن العمل الخيميائي أشبه بالطريق الروحي»(5).

ولعل هذا الامتزاج بين الخيمياء والرؤيا الصوفية هو الذي أكسب الرواية تماسكها الداخلي وأسند انسجام الصورة الكلية التي ترومها الرواية رغم الشتات الظاهر على مستوى منطق الحكاية.

وبالنظر إلى سياق الرواية نجد أنها استوعبت مؤشرات تدل على الخلفية الخيميائية للسرد والتصوير الروائيين، حيث تضمنت كل مقومات الخيمياء، من قبيل العناصر الأربعة، الماء والهواء والنار والتراب، تجلت من خلال أزواج الخواص المنبثقة عنها، السخونة/البرودة، الرطوبة/الجفاف، حيث ورد حديث كثير وإشارات عديدة إلى التدفئة والبرد والتطهر بالماء والحديث عن الصحراء، كما أن الجزيرة التي طار إليها المجانين في نهاية الرواية تستبطن خواص تلك العناصر، أي السخونة والبرودة، والرطوبة والجفاف. واتخذت دلالات روحية وليست مادية في معظم الأحيان، انسجاما مع الرؤية الصوفية التي نظمت الرواية، إذ بدا الراوي جسدا أثيريا مسافرا في الزمان والمكان، وهذا هو العنصر الخامس (الأثير). كما تضمنت الرواية المواد الثلاث الأساسية، الكبريت والزئبق والملح، من خلال مقابلاتها، المادة والروح والنفس التي تجلت كثالوث فكري يرومه الكاتب ويميل إليه، بدا ذلك من خلال الاحتفاء السردي بأفلوطين وأوغسطين وسبينوزا وغيرهم من رموز الباطنية والغنوصية الذين مزجوا بين الروح والنفس والعقل، وهي مفاهيم يختزلها اسم «فابيو أوسامي»، كذلك، كما سنرى في محور لاحق حول سمة الترميز.
هذا إضافة إلى أن النص تضمن الفصول الأربعة، حيث بدأت الحكاية في الشتاء وانتهت في الخريف، مما يرمز إلى دورة الحياة والاكتمال، وكذا بقاء المادة التي تجلت في النص من خلال الذكرى والفكرة، يقول الراوي: «الفكرة مادة الصمود أمام عوامل تعرية الزمن. الذكرى حدث محنط، والفكرة بذرة تحمل رواء الحياة. الذكرى مادة والفكرة روح».(6)

إن اشتمال الرواية على هذه العناصر والمواد والفصول، وكذا رموز دورة الحياة، وما تخللها من عناصر التحويل والتحول في الأسماء والأشياء والمشاعر والوعي، إضافة قوة التفاعلات وأجواء السيمياء والروحانيات واللامنطق...، كل ذلك جعل النص أشبه بـِ «ماندالا» فيزيائية(7) منجزة بواسطة اللغة والتصوير الذهني الهندسي الخفي.

وقد لامست الرواية، كذلك، كل أهداف الخيمياء. فالهدف الأول هو تمييز المعادن الشريفة والخسيسة، على غرار التمييز بين الرغبات والأهواء والفضائل والأخلاق(8)، تجلى ذلك من خلال علاقة المتنبي والراوي وتفاعلاتهما السردية ومعتركات التمييز بينهما.

والهدف الثاني هو تحضير إكسير الحياة، أي دواء يراد منه العلاج، وقد تبلور ذلك، سرديا، من خلال الحديث عن الداء والدواء والعلاج بشكل مكثف في النص، من ذلك قول الراوي في أحد سياقات بوجه: «أريد أن أبرأ من علل تاريخية»(9)، إلى جانب تساؤلاته المتكررة عن العلة والمعول وعن الدواء والبلسم والترياق...

أما الهدف الثالث فهو إعادة خلق الحياة، تجلى في الرواية من خلال أسئلة البعث التي وردت بكثافة في سياقات عديدة، حيث تحدث الراوي عن بعث الذكرى وبعث ليلي، وبعث الأموات، من ذلك قوله: «ذكرى الأموات تثقل علي.. تكلمني وتلح علي أن أبعث فيها الحياة».(10)
لقد تجلت معالم الصنعة الخيميائية في الرواية منذ بداياتها، حين قال الراوي في سياق إحدى جلساته مع المتنبي «جلسنا متقابلين في صوفا الصالون وقد سرى فينا الدفء بفضل التدفئة. سألني ما الذي تغير منذ رحيله».(11)

واضح أن الصورة تتحرك على إيقاع القطبية، هي قطبية مرآتية كأنها مواجهة، بالنظر إلى ما توحي به كلمة «متقابلين»، وهي تستبطن دلالتي التداخل والانفصال في آنٍ، غير أن العنصر الأساسي في الصورة هو كلمة «التدفئة». بما تحيل عليه من دلالة النار بوصفها عنصر صهر وتحويل وتفاعل متدرج كما التفاعلات الخيميائية. وكأننا، في هذه الصورة، أمام إجراءات تحضيرية لتمييز الفلزات وتنقيتها بتحفير من عامل النار.

هكذا انطلق التفاعل بين الراوي والمتنبي من المطابقة في الصفات والخصائص والسمات، والتشابه في الوقائع ومتاهات الحياة والاسترشاد بالعقل والبصيرة وغير ذلك. بل إنه كان يتحدث بلسانه كمثل الصوت والصدى، ويمرر نواياه الخطابية عبر شعره ويمدح عبقريته في سياقات عديدة من الرواية، ثم شرع ينتقص من سماته وصفاته وأفعاله وأخلاقه في صور كثيرة وممتدة، مونولوجية أو حوارية مع الدكتورة خولة ثم الدكتورة فنيش، من قبيل اعتداده بنفسه وعنصريته وقوله الفخم دون فكر، وخيانته إذ أخذ منه حليلته، واستحالة التحاقه بعالم نيتشه، وغير ذلك من السمات التي ربطها الراوي ومزجها، عن طريق الإسقاط، بسمات قوم المتنبي، بني يعرب، من قبيل ارتباطهم بالأساطير وسوء فهمهم للدين، وانسياقهم مع المتع والمؤامرات، وخذلان الأنصار، وانعدام الفهم والوعي لديهم، وعدم إعمالهم العقل والتحليل، وميلهم إلى سؤال «كيف؟» بدل سؤال «لماذا؟» وإيمانهم بالأشباح، والحكم بالهوى والظن، وسقوط الذوق العام، وغير ذلك كثير مما يصعب حصره. ومن ذلك قول الراوي: «ولكنه لم يبرأ من أدواء بني جلدته: القول الفخم والغزو والسبي... وأنا أشمئز من كل ذلك وأنفر. أنكر خطابا بلا عمل وقولا بلا فعل...».(12)

واضح في هذه الصورة، وغيرها كثير، أن الراوي ينتقص من المكانة التي صور فيها المتنبي في البداية، وجعله معبِّرا عن طبيعة الإنسان العربي كما قال في سياق آخر، ويصفه بجرثومة العرب، ويؤكد في سياقات مفارقة أنه كان عربيا جدا. وفي المقابل، يرتقي الراوي بذاته، إذ يشمئز من أدواء المتنبي وقومه، ويروم إعمال العقل والفكر والانخراط في الفعل، إضافة إلى سمات أخرى من قبيل حسن الضيافة، والرغبة في التعايش، والإصلاح والوعي والاهتداء بالعقل والأنوار وتمحيص المفاهيم والتميز، وغيرها من السمات، إلى أن يربط ذلك بعرقه الأمازيغي، إذ يقول في سياق حديثه عن عالم الحاشيات الذي سكنه الطيف: «ودخلت ذلك العالم ولم أكن مقترنا بطيف يملي علي ما أصنعه.. كان ينبغي أن أنغمر في قالب يسكنه طيف. وأدَعَ الطيف يأخذ بيدي كما يشاء.. وعلة ذلك عمقي الأمازيغي الذي ما برح يسكنني، وهذا الذي حزته من ثقافة غربية لم تبدد هذا العمق أو تأتي عليه».(13)

هكذا تحركت دينامية العلاقة بين الراوي والمتنبي على إيقاع الوصل والفصل الخيميائيين، في إطار تفاعل ممتد أشبه بتمحيص المعادن وتمييزها، وفصل الذهب عن الرغام، إلى أن تحقق التصادم في نهاية القسم الأول، بعد أن تجلت الصورة في ذهن البطل إن يقول في سياق بوحه للطبية: «انقدحت ذبالة من ذهني أرى بها في عتمة الطقوس وظلمة الطريق»(14).
تكشف الصورة عن حس صوفي ورؤية وجدانية وخيميائية تعبر عن تحول، وانخرط الراوي بعد ذلك في كشفٍ من خارج الوعي، من «الشامبر نوار»، على حد تعبيره، يبوح فيه بخلاصات التجربة الموضوعية والتاريخية ممثلة في تجربته مع بشرى، والرؤيا الروحية للعالم والأشياء والكائنات والأحداث، إضافة إلى خلاصات التجربة الذاتية جدا من خلال شخصية ليلي التي بدت أكثر حميمية ونالت اهتماما زائدا من قِبَل البطل.

وتميزت الرواية بسمة السرد بالصدى، حيث إن ظاهر الحكاية ذاتي، لكن الارتداد الباطني كان تاريخيا فيه كثير من الإسقاط التاريخي المبطن، إذ يحكي الراوي عن ذاتين، لكنه ينفتح على منظومتين وتاريخين وحالتين، وكان الذاتي مرآة للتاريخي، في صورة عميقة متسمة بالسرية والإخفاء بوصفهما من خصائص الخيمياء، وبإزاء الذاتي/التاريخي، كانت هناك موضوعتان، موضوعة بشرى وموضوعة ليلي، وكأنهما موضوع واحد، غير أن الأمر ليس كذلك، إذ هناك تمايز سنكشف عنه في محور آخر.

وفي كل مكوناتها وديناميتها، جسدت الرواية تحولا، ومعلوم أن التحول يعد من الموضوعات الرئيسية للخيمياء، وتجلى التحول في الصفات والمواقف والوعي، سواء لدى المتنبي الذي لم يستطع، في سيرورة السرد، أن يحقق الإنسان الأسمى وانحدر في قيمته ومكانته وعبقريته، أو لدى البطل الذي تسامت صورته وتفتق وعيه بأن يتخلص من الشوائب ويسترجع ذاته وهويته، إذ يقول في سياق البوح تحت تأثير الحقن: «هل تفهمين يا دكتورة لمَ أصبحت بربريا؟ أو لمَ استرددت بربريتي؟ والصواب أمازيغيتي.. لأن المتنبي سلبني أعز ما لدي..»(15). كما اختار التمترس مع روبيرتو والانجذاب إلى ثقافة وقيم أجداد فابيو، وبالتالي الانسلاخ عن كل ما يتصل بالمتنبي وقومه، حيث نقرأ في حوار مع المتنبي:

«- وهل تريدون أن تنسلخوا عن العرب ولسان العرب؟

 «ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا». لم نقيد بالإحسان دوما في مسار تاريخنا».(16)

وقد خضعت مسارات التحول لعمليتي الإذابة والتخثير، أو تفكيك تمفصلات البنية كما قال الراوي على لسان ابن جني في إحدى كرنفاليات المجانين(17)، مما يؤكد أن التحول كان سرديا، لكن بخلفية وصنعة خيميائية.

ولم يقتصر التحول على المتنبي والبطل فقط، بل شمل عناصر كثيرة في مقابل ثوابت أخرى، حيث تحولت بشرى إلى ليلي في إشارة إلى تحول الحالة من مجال إلى آخر، وتحولت خولة عواد إلى منى فنيش انسجاما مع تحول الإديولوجيا وكذا رمزية كل منهما، وتحول مستشفى الرازي إلى مصحة بوسيجور مواكبة للتحول من منظومة إلى أخرى، وكلها تحولات غير مبررة سياقيا ومنطقيا على مستوى الظاهر، إلا أنها منسجمة على مستوى الباطن بالنظر إلى الرؤيا الوجدانية والروحية والرمزية التي اختارها سياق الإبداع وخاضتها الحكاية، عبر خلالها الراوي بلغة الحلم، وهي لغة مكثفة، رمزية ومقَنَّعة. ومثلما أن الحلم لا يخضع للمنطق والمألوف ويقفز فوق القيود السائدة(18)، فإن النص بدوره يقفز فوق العادة والمألوف، وينجز تحويلات في الأسماء والأماكن والكائنات والرؤى، في شكل سيميائي وبخلفية خيميائية شديدة التكثيف والترميز.

إلا أن التحول من الذكرى إلى الفكرة، رغم أنه محاط بسرية وإخفاء لجوهر كل من الذكرى والفكرة، فإنه مبرر، سياقيا، وخاضع لعنصر التحويل أو ما يعرف بحجر الفلاسفة، وهو الحلم أو الجنون، إذ نقرأ قول الراوي في أحد سياقات البوح تحت تأثير الحقن: «ألا يجوز أن أحن لشيء مضى، وأشرئب لشيء يأتي؟ وكيف سيأتي إن لم أبعث الذاكرة ولم يسعفني في ذلك الجنون كي أصوغ منه فكرة؟»(19)، وكذلك قوله: «وكيف تصاغ الأحلام بمعزل عن الذكرى؟ وكيف تقوم الأفكار إن لم تنسلخ عن الأحلام؟ وكيف تنسلخ عنها من غير جنون...»(20).

واضح أن اللغة تتحدث بلغة الخيمياء «وكيف تصاغ...»، وتطرح سؤال الوصل بعد الفصل، وهي عملية خيميائية تمثلت في وصل الفكرة بالذكرى أو تحويل الذكرى إلى فكرة بعنصري تحويل هما الحلم والجنون، مع تلميح في سياق سابق إلى عنصر آخر هو التمرد، حيث نقرأ في سياق حديث الراوي عن ثقل التراث: «ويدرك عقلي ثقل هذا الأدب وهذا التراث عليّ... كلما تحللت منه كلما استطعت المشي خفيفا... التمرد حلقة مهمة غير الحلم. هو الجسر إلى الفكرة. بل جسر أوثق من الحلم»(21).

إن التحول من الذكرى إلى الفكرة، ومن المادة إلى الروح، لم يكن حدثا معزولا، بل جسّد روح الرواية ومربطها الأساس، وكل المكونات الأخرى هي عناصر تمثيل وتفعيل، وقد أحاطه الكاتب بعناية سردية فائقة من خلال تنويع السياقات وكثرة الأسئلة والإلغاز والمحاجاة وكذا كثرة الإشارات، كما أنه كان مبررا، على مستوى سياق التخييل، بفلسفة خيميائية، بحيث جعل له الراوي أصلا وتقليدا أوليا تمثل في الأندلس، إذ نقرأ قول الراوي في سياق حديثه مع الدكتورة خولة عواد عن معاناته الذاتية جرّاء التحامل عليه واتهامه بالخيانة قبل ربع قرن:

«إلى أن حدث التحول في رحاب الأندلس (...) كانت الأندلس هي البلسم... أو على الأصح سعيت أن أبنيها في رفق كي أجعلها البلسم أو الترياق.. كان القدح قد انكسر وأخذت أجمع بقاياه أرممها، في تؤدة بلحام الأندلس».(22)

هذه الصورة السردية توضح أصل الذكرى والفكرة، وهي، كما نلاحظ، تتداول بعض مقومات ومفاهيم الخيمياء، من قبيل، التحول، البلسم، القدح، أرممها، لحام...، كما تضمنت دلالات تخليق الباناكيا، أو أكسير الحياة الذي عبر عنه الراوي بالبلسم والترياق. إضافة إلى ذلك، استبطنت الصورة دلالات البعث من خلال الترميم بعد الانكسار، وهي دلالات مشفوعة بحس أسطوري ضامر، يحيل على أسطورة إيزيس وأوزيريس. وعللت تفاعل قطبي الذكرى والفكرة بوصفهما نابعتين من أصل سابق احتضنته الأندلس، على أن المرور من الذكرى إلى الفكرة لن يتم إلا عبر الحلم والجنون والتمرد، كما رأينا في صورة سابقة. هذه المعابر شكلت الثيمات الأساسية للرواية، وتجلت بوصفها عناصر تحويل، واتخذت أبعادا رمزية تعبر عن رؤيا ذاتية للوجود، ذات تمظهرات سرية وصوفية.

وقد تعزز التحول الخيميائي من الذكرى إلى الفكرة، سياقيا، من خلال بذرة أودعها الشيخ العربي الخلوفي في حشاشة البطل الراوي، إذ نقرأ في سياق سرده عن ذكرى اعتزاله في زاوية الشيخ: «الخلوفي هو من غرس البذرة ووضعها في حشاشتي».(23)

إن البذرة تحمل إيحاء بالتحول، إذ تتحلل لتنتظم في بنية جديدة، وقد خضعت في سيرورة السرد لدورة الحياة والاكتمال، بالنظر إلى الفصول الأربعة التي تحركت الحكاية في مدارها، كما أنها ترتبط بالمفتاح الخيميائي الثامن، وهو مشهد بعث يُرمَز إليه بالبذرة(24)، وقد وردت في سياق آخر من النص متصلة بالفكرة، يقول الراوي: «الذكرى حدث محنط، والفكرة بذرة تحمل رواء الحياة».(25)

ومعلوم أن إعداد رواء الحياة أو ماء الحياة، أو ما يُعرَف بـِ «أكوافايتا»، تجربة خيميائية، وهي في هذا النص منظومة برؤية فلسفية روحية وليست مادية، وفي التعبير الخيميائي تكون «المواد العضوية وغير العضوية والهيآت المادية وعمليات المواد الجزئية، مجرد استعارات للحديث عن المدخلات والهيآت الروحية التي تؤدي إلى التحولات». (26)

وطالما أن التشكيل والتعبير في رواية «رباط المتنبي» خيميائيان، فإن الهيآت المادية، سواء ما تعلق بالشخصيات أو الأماكن أو المواد، أو غيرها مما يشكل العالم الروائي، تعبر عن دلالات استعارية رمزية، تؤطرها فلسفة روحية. وقد تحولت البذرة وأثمرت، إذ تحولت الذكرى إلى فكرة، وتحول الفصل إلى وصل، وبدا الوصل مطلبا ملحاحا وغاية تم التعبير عنها في أكثر من سياق في النص، وتغنى به المجانين في كرنفالياتهم، حيث نقرأ في إحدى ملاحم جنونهم على لسان ابن جني: «يا زمان الوصل، يا زمان الوصل، يا زمان الوصل...».(27)

إن نقط الحذف التي ختم بها الراوي هذه الجملة، ليس المقصود بها أن يملأ القارئ الفراغ بما ورد في موشحة «جادك الغيث» لابن الخطيب، أي بكلمة «الأندلس»، بل هي موضوعة بقصد التلويح بمكان آخر، هو المقصود بالفكرة، أما الأندلس فمجرد ذكرى. وهذا في حد ذاته يعزز الطبيعة الخيميائية للتشكيل الروائي، بما تضمنته من إخفاء وترميز، لتنغلق الرواية كما بدأت بنفس الغموض والتعمية، في نهاية مسيَّجة على مستوى الدلالة والمقصدية، بعد هروب المجانين وإرسالهم عشر صور وسبع رسائل تضمر أكثر مما تقول. غير أن المشهد العام يمكن اختراقه برؤية عمودية تسائل حجب المستور.

هكذا كتب الكاتب رواية ظاهرها حكاية تتعلق بعودة المتنبي أو العودة إليه، في صيغة روائية احتفالية وحوارية وبارودية(28)، ينظمها حلم وخيال، واستثمر مفاهيم التفاعل والتحلل والتحول في تمرير الرؤيا وإخفاء المقصدية. وفي ثنايا حكاية المتنبي كان يمرر رؤى أخرى أشبه بشيفرات، في شكل معادلات قائمة على جوهر التحول كذلك، منها تحولات فجائية سيميائية غير مبررة بمنطق السرد، ومنها تحولات ترتبت عن انبثاق سياقي يسوغها منطق يستمد مبرراته من عوالم الجنون والحلم والبوح من خارج الوعي والرؤية الوجدانية.

غير أن باطن الحكاية يجنح نحو معادلات دقيقة ومحسوبة وإيحاءات عميقة بلورتها مسارات التحول، كل ذلك في إطار رؤيا روحية اختلط فيها السحر والروحانيات والغنوص... ولم يكن ممكنا تقبّل الحكاية، نظرا لحدة اللامنطق فيها، إلا من باب الفلسفة الخيميائية، بما يكتنفه النص من سرية وإخفاء أسرار التصنيع والإيحاء بشكل رمزي يحتاج إلى تفكيك جبري أحيانا وهندسي في معظم الأحيان...

الهوامش:

(*)- المحور السابق بعنوان: رباط المتنبي بين سمات الروائية وملامح الباطنية، نشر بديوان العرب بتاريخ 19 مايو 2021.
محمد البوغالي، من نظام المماثلة إلى فوضى المطابقة: مأزق التأويل العرفاني، مؤمنون بلا حدود، ص:21.
محمد البوغالي، الباطنية بين الفلسفة والتصوف، دار النشر فضاء آدم، المطبعة والوراقة الوطنية، 2016، ص:34.
حسن أوريد، رباط المتنبي(رواية)، المركز الثقافي العربي، ط1- 2019، ص:165.
نفسه، ص:110.
خيمياء، موسوعة ويكيبيديا.
رباط المتنبي، ص:335.
الماندالا لوحة تتضمن رموزا ترمز إلى العناصر الأربعة(الماء والهواء والنار والتراب) والعنصر الخامس(الأثير) والمواد الثلاث (الزئبق والكبريت والملح)، إضافة إلى حجر الفلاسفة، أي عنصر التحويل. تجسد تمثيلات لتأمل الكون، تعود أصولها إلى الهندوسية، وهي فعل رمزي يعبر عن إثراء حياة الفرد بالفكر والتأمل...(عن: آرثر جرينبرج، فن الكيمياء، ترجمة: سارة عادل وزينب عاطف)
الباطنية بين الفلسفة والتصوف،سابق، ص:39.
رباط المتنبي، ص:225.
نفسه، ص:327.
نفسه، ص:25.
نفسه، ص:221.
نفسه، ص:233-234.
نفسه، ص:235.
نفسه، ص:274.
نفسه، ص:41.
نفسه، ص245.
على زيعور، الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم (القطاع اللاواعي في الذات العربية)، دار الأندلس- بيروت، ط2- 1984، ص:70.
رباط المتنبي، ص:336.
نفسه، ص:267.
نفسه، ص:181.
نفسه، ص:114-115.
نفسه، ص:63.
آرثر جرينبرج، فن الكيمياء- ما بين الخرافات والعلاجات والمواد، ترجمة سارة عادل وزينب عاطف، مراجعة شيماء طه الريدي، مؤسسة هنداوي، ص:25،(نسخة إلكترونية).
رباط المتنبي، ص:335.
أ.د. نصر الله محمد دراز، الخيمياء والنانو تكنولوجي، موقع: نقطة (nok6a.net)، 18يناير 2020.
رباط المتنبي، ص:330.
هذه السمات الروائية سبق أن أبرزناها معللة في المحور السابق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى