الأحد ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٧
الحلقة الرابعة
بقلم كريم مرزة الأسدي

ابن زيدون بتمامه

هذا ابن زيدون أخيراً:أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا

تكلمنا عن حياة ابن زيدون ونشأته، وعن ولّادته وعشقه، وما دار بينهما من شعر غزلي، وبوح وجداني، وكيف تعثر بعتبته حتى أوقعه الزمان بداجير سجنه، لعام ونصف، هاج وماج فيه، مرّة ينتقض، وطوراً يتوسل، وأخرى يتفلسف، ونقلنا من أروع أشعاره، ما يكفي للإشارة عن عبقريته وأثاره،، ولم يفتنا نثره لماماً، وتطرقنا إلى رسالتيه الهزلية والجدّية، ونقلنا ما تيسر عند تعرّضنا لأسباب سجنه، وموقفه من خصمه، وهزله كي يبرز أدبه وعلمه، وجدّه حين جدّ الجد للعودة إلى حكمته وعقله، وقد كان نثره أشبه بشعره، لأن الرجل خلق والموسيقى تجري في دمائه، والصور تتزاحم على خياله، والأدب ينسكب من لسانه، والقلم طوع بنانه.

ولشاعرنا كتاب ( التبيين) في تاريخ بني أمية، وقد يكون ألّفه تقرّبا لهم، وما وصل إلينا، سوى أنّ المقري التلمساني ينقل منه مقطوعتين في كتابه القيم (نفح الطيبه من غصن الأندلس الرطيب)، وقد حققه الدكتور إحسان عباس.

لا أريد أن أطيل المشوار مع السيد ابن زيدون وولّادته أكثر مما كتبت عنه،وقدمت له، وهذه الحلقة الثامنة، وإن زدت، ربّما سأصل إلى الحلقة النائمة، لأن الإنسان بطبعه يحب التغيير، فالحركة بركة، والسكون جمود، لذا في هذه الحلقة لا تجد الإيجاز المقصّر، ولا الإطناب المكثر، فالأمر بين بين...!!

مهما يكن من أمر، بعد قيل وقال، وتوسل وعناد بين الشاعر المنكود، وأميره أبي الحزم بن الجهور، ظفر الزيدون بعفوه، فتحرر من ضنكه، ولمّا مات أبو حزمه،وتوّلى ابنه أبو الوليد زمام حكمه في قرطبة، وكان بين الرجلين مودة ورحمة، قرّبه إليه، لمعرفته بما لديه، فعينه على رأس ديوان أهل الذمة حتى ضاق الأمير الجديد به ذرعا، وعفا عنه ترفّعا، فجعله سفيراً له لدى عدد من ملوك الطوائف، فوجد شاعرنا هذه فرصه السانحة لتوثيق علاقاته معهم ومع وزرائهم، والرجل لا تعوزه الفصاحة والبلاغة والشاعرية والأدب والعلم.

بعد التجوال، والتأمل بالمآل، ولكي يبعد نفسه عن القيل والقال، ويرتاح البال، قرر الانتقال من حالٍ إلى حال،، فتوجّه إلى أشبيلية سنة (441 هـ ـ 1049م) حيث المعتضد وبلاطه الباذخ الشهير بأدبه، وإن الطيور على أشكالها تقعُ، وجزما ما كان المعتضد بجاهل لابن زيدون ومقامه السامي الرفيع في دنيا الشعر والأدب والسياسة والدبلوماسية، ولا بغافل عنه، فتمسك به، وقرّبه إليه، وأعلى مقامه حتى رتبة الوزارة ومقاليدها!! وتشعب نفوذه،وتغلغل في مجالات المجتمع الإشبيلي كافة، فهو الأول إلا الملك، فأصبح (ذو الوزارتين)، وبقى في حضرة هذا المعتضد عشرين سنة، أنيساً، جليساً، أديباً، مادحاً، باراً،وقضى المعتضد حياته بين (407 هـ - 461هـ / 1016 م - 1069 م )، وكان الرجل شجاعاً فاتكاً داهيةً، أراد التشبّه بأبي جعفر المنصور، وأن يوّحد الأندلس تحت لوائه من بين أيدي ملوك الطوائف، ويذكر الصفدي في (وافي وفياته) (ج5 ص 331): وسُئِل وزيره ابن زيدون عن كيفية نجاته من فتك المعتضد طوال حياته، فقال: (كنت كمن يمسك بأذني الأسد، ينقي سطوته تركه أو أمسكه)،وقال عنه بعد موته:

لقد سرنـــــــا أن الجـــحيم موكــــلٌ
بطاغيـــةٍ قد حمّ منه حمامُ
تجانفَ صوب المزن عن ذلك الصدى
ومر عليه الغيث وهو جهامُ

مضى المعتضد بن عبّاد ثاني ملوك بني عبّاد وأشهرهم إلى رحمة ربّه، وقام ابنه المعتمد، وسار الرجل على سرّ أبيه في إكرام ابن زيدون، ورفع شأنه، ومجالسته ومعارضته في قصائد الشعر، ولكن الحسد والحقد قد جبل عليه الإنسان، ولاسيما في مجالس السلطان، وكما ذكرنا في الحلقات السابقة، أشار بعض خصومه على المعتمد على إرساله لتهدئة ثورة العامة على اليهود في إشبيلية، وهكذا كان الأمر، فسار الرجل على رأس الحملة حتى أصابته الأمراض، فغلبته حتى أن قضى أمره، ولفظ أنفاسه ( 463 هـ / 1070م)

ترك لنا ديوانه الكبير بما يتضمن من قصائد معظمها في المدح والغزل والاستعطاف، ومن النثر رسالتيه الهزلية والجدية، وكتابه (التبيين) في تاريخ بني أمية كما أسلفنا.

وما هو بالسرٍّ المكتوم، ولا بالأمر الخافي، حين أقول لولا الولادة ما كان ابن زيدون، ولولا ابن زيدون لما كانت الولادة، وما كلّ (كان) بـ (كان)، وعلى الله التكلان...!! هذا الارتباط ما هو حاصل جمع فردين، وإنما حاصل ضرب جنسين، من يوم تعشّقا حتى يومنا هذا، وإلى يوم يبعثان، فبأيِّ آلاء ربّكما تكذبان.

قال في الولادة بنت المستكفي ما قال من غزلٍ وهيام، وشعرٍ وأنغام، وتوسّلٍ وعتاب وملام، كل هذا مررنا به والسلام!!، وبقى لدينا القصيدة الخالدة، وهي المرام، فلما خرج من سجنه، كما يخرج الأنام،إذ يسترجعون ما تعلق بذهنهم من سالف الأيام، فراجع ذكرياته مع ولادته والإلهام، فلملم كل خوالج نفسه، وما يدور في الوجدان، من رجاء وعاطفة وشكوى وحنان، فإليك هذا الإلمام بقصيدته التي تناقلتها العصور والأعوام:

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا
وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا
حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم
حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا
أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا
وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم
رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد
بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه
وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا
شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا
يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ
سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا
وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية
قطوفُها فجنينا منه ما شِينا
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا
8أن طالما غيَّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً
منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به
من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا
إلفًا، تذكره أمسى يُعنِّينا
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً
منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا
ربيب ملك كأن الله أنشـــــأه
مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه
مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَـــــــــة
تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه
بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته
زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا
وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا
وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها
مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته
في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَــة
وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ
فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها
والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا
والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا
حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ
عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا
مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهلـــــــه
شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبـــــه
سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارًا تجنبناه عـــــــن كَثَبٍ
لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعـــــةً
فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا
سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً
فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا
ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه
بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً
فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به
بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِـــيَتْ
صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا

قصيدة ملئت الدنيا، وشغلت الناس، من غرر الشعر العربي شجواً وغناءً وغزلاً وعتاباً، وحداثة وعذوبة وتجدداً، تناقلها الرواة، وغنّها المغنون، وأشاد بها كتاب الأدب العربي والأجنبي ونقادهم، تذكر د. سهى محمود بعيون في بحثها عن ( ابن زيدون: قال عنها المستشرق الإسباني إميليو غراسيا كومس: " إنّها أجمل قصيدة حب نظمها الأندلسيون المسلمون، وغرة من أبدع غرر الأدب العربي كله عارضها شعراء كثيرون وما زالوا يعارضونها إلى اليوم "..

نعم.. نعم... يبثّ خوالج وجدانه بأشجى العبارات، وأدمى العبرات، يكاد يجرفنا معه ويبلينا، وهذا طبع الدهر كما أضحكنا، قد عاد يبكينا!!

مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِهـم
حُزنًا مـع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا
أن الزمان الـذي مـا زال يُضحكنـا
نسًـا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا
بـأن نَغُـصَّ فقال الدهـر آمينـا

اللهم آمين!!

قد نكمل الحديث عن ابن زيدون وحديثه الحديث، ورحم الله عبقرينا ابن الرومي، وقوله:

ولقد سئمت مآربي
فكأن طيبها خبيث
إلا الحديث فأنه
مثل اسمه أبداً حديث

ويذكر المعافى بن زكريا في (جليس صالحه وأنيس ناصحه) بحديث مسنود: بعث عبد الملك بن مروان إلى الشعبي، فقال: يا شعبي! عهدي بك وأنك الغلام في الكتاب فحدثني، فما بقي شيءٌ الآن إلا وقد مللته سوى الحديث الحسن، وأنشد:

ومللت إلا من لقاء محدثٍ
حسن الحديث يزيدني تعليما

يا الله، ربّما نكمل، وقد نعكف، فالزمن هذا الزمن، والدنيا قلبت، والحياة صورٌ وعبر....!!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى