إلى متى يموت المثقفون ؟
الحريق الذي شب في مسرح بني سويف التهم مع المقاعد والستائر حياة عدد من أفضل الشباب المثقفين أبناء الحركة المسرحية بكل روافد اختصاصاتها من كتابة وموسيقى وتمثيل وإخراج وديكور . منهم: نزار سمك - محمد بهاء الميرغني – شادي منير الوسيمي – مدحت أبو بكر - حسن عبده- أحمد عبد الحميد – محسن المصيلحي – محمد شوقي – مازن قرني – أحمد الفيومي – أيمن الجندي – أحمد عزت – حازم شحاته – سعد صالح – خالد محمد ( 16 عاما ) –محمد صلاح حامد ( 17 عاما ) ووالده صلاح حامد – أميرة حسين الفيومي – محمد حافظ – أشرف سعيد – سناء عطوة – ربيع محمد – سيد سعيد – محمد منصور – أحمد سليمان – عبد الله عبد الرازق – حسين حسن – سامية محمد – ياسر ياسين – أيمن الجندي- مؤمن عبده - حسن عبده - وغيرهم ممن يرقدون في المستشفيات ! في حال خطرة بين الحياة والموت . شب الحريق خلال عرض مسرحية " هاملت " وصيحته الشهيرة " أن تكون .. أو لا تكون ، تلك هي القضية " . ثم سقطت شمعة وامتدت منها النار إلي كل ناحية، ووجد الجميع أنفسهم محاصرين باللهب والدخان ، فأخذوا يتدافعون بيأس نحو الباب الوحيد في القاعة ، لكنه كان مغلقا من الخارج بإحكام كما قيل . من المسئول عن تصميم مسرح وقاعات بهذه الشكل ؟ . الأبواب المغلقة سياسة كوارث قديمة ، تتجدد . فقد كانت الأبواب مغلقة أيضا في حادثة قطار الصعيد التي احترق في عرباتها السبع نحو ألف مواطن في فبراير عام 2000 ، وفي حينه تبرأت الحكومة من المسئولية وألقت بعبئها على الركاب ، ولم يحاسب مسئول واحد، ودمغت الضحايا بختم المهمل الذي أدى لوقوع الكارثة ! سياسة الأبواب المغلقة سياسة عامة في القطارات ، والمسارح ، ومجال التعبير ، وحقوق التظاهر ، والاجتماع ، والاحتجاج ، والتنظيم . أبواب مغلقة بإحكام ، حتى لو قاد ذلك إلي اندلاع الحرائق وتفحم البشر .
المثقفون عندنا يقتلون أيضا في حوادث السيارات ، كما وقع في ديسمبر 1979 مع المناضل زكي مراد ، وكما جرى في أبريل 1981 للكاتب المبدع يحيي الطاهر عبد الله . وفي نوفمبر 1999 صدمت سيارة الصحفى محمد همام ، وبعدها بيومين توفي الإعلامي المعروف صلاح زكي في حادثة مشابهة . هل كانت تلك الحوادث مصادفة ومجرد سوء حظ ؟ أم أن ذلك وقع في إطار أن مصر تشهد ثلاثين ألف حادثة مرور سنويا؟ . في كل تلك الحوادث لم يحاسب أحد من المسئولين عن أوضاع الطرق أو حالة المرور في مصر ، وهي حالة تفضي فقط لكل احتمالات للموت، ولم يحاكم وزير واحد .
المثقفون عندنا يختفون ، ويتبخرون فجأة ، وهم ملء السمع والبصر، في عز النهار ، كما حدث مع الصحفي رضا هلال الذي اختفى في 11 أغسطس عام 2003، ولم يستدل على أثر له منذ ذلك الحين . هل توفي ؟ هل فقد الذاكرة ؟ هل قتل ؟ . لم تعبأ أجهزة الأمن المسئولة عن أمان المواطنين بالإجابة ، واكتفت بالإعراب عن عجزها أمام الحالة السحرية التي ابتلعت رضا هلال على مرأى من الجميع . وفي كل تلك الحوادث لم تدفع الدولة تعويضا لأحد، ولم تعتبر أنها مسئولة عن شئ .
المثقفون عندنا يختطفون ، كما اختطف عبد الحليم قنديل في مطلع نوفمبر العام الماضي ، دون أن تتمكن الأجهزة إلي الآن من الوصول إلي الفاعل .
المثقفون عندنا يضربون في الشوارع ، نساء ورجالا إذا خرجوا في مظاهرة أو تجمعوا للتعبير عن احتجاجهم على وضع أو آخر .
المثقفون عندنا يموتون من العزلة والتجاهل والمرارة ، كما حدث مع جمال حمدان.
المثقفون عندنا يموتون بلا علاج ، كما حدث مع الزميل الراحل فتحي عامر المسئول عن صفحة الثقافة في العربي ، وقد ظل فتحي عامين يشكو من الكبد ، فلما توفي لعجزه عن جمع المال اللازم ، صرح المسئولون عن الثقافة بأن الفقيد " باغتنا بموته " ! المثقفون عندنا يمرضون ، فيجري أصدقاؤهم في كل ناحية بحثا عن مخرج ، كما حدث حين مرض الشاعر طاهر البرنبالي ، والزميل العزيز خليل كلفت، وحين مرض أديب وكاتب معروف مثل علاء الديب حاصل على جائزة الدولة التقديرية ، قدمته المستشفى للنيابة ، لأنه لم يسدد مصاريف العلاج ! أما الفقيد الشاعر حسن بيومي فقد رقد مؤخرا في معهد ناصر ، بينما كانت زوجته الفاضلة الدكتورة سناء تلهث في أروقة كل وزارة ، بحثا عن تمديد لطلب العلاج المجاني ، فيردونها ، ويماطلونها ، إلي رحل حسن بيومي عن عالمنا منذ أسبوع .
المثقفون الذين يفوتهم الحريق ، والحوادث ، والمرض ، لا تفوتهم سجون الدولة وأقسام الشرطة .
مساء 8 سبتمبر ، أقيم عزاء عام بمسجد الشاذلية في منطقة المهندسين، شارك فيه صحفيون وكتاب وفنانون وممثلون ومثقفون من شتى المجالات، وساده وجوم غريب ، ونحيب متقطع يصدر من هنا وهناك . ووقف أهالي الراحلين وأصدقاؤهم على الرصيف المقابل للمسجد رافعين يافطات الاحتجاج ، بوجوه اشتعل فيها الغضب بين الدموع . وكانت الدولة قد أعلنت أنها ستصرف 15 ألف جنيه لأسرة كل فقيد ، و 3 آلاف جنيه لأسرة كل مصاب . وكان يكفي للمرء أن ينظر إلي وجوه الأهالي ، لكي يدرك حجم الإهانة التي أحسوا بها حين اعتبرت الدولة أنها بتلك الملاليم قد عوضتهم عن أبنائهم ، من دون أن تقدم مسئولا واحدا للحساب .
ما الذي ارتكبه المثقفون – ويرتكبونه - لكي يلقوا مثل هذه المعاملة من الدولة البليدة الشعور والثقافة والعلم والنخوة؟
في أكتوبر 2002 ، اقتحمت مسرح " دوبروفكا " في موسكو مجموعة من المسلحين ، وسيطرت على المبنى ، واشتبكت معهم قوات الأمن الروسية، فقتل نحو ألف شخص ، وأصبح ذلك العرض الوحيد في تاريخ المسرح الذي قتل فيه المتفرجون ! بعد وقوع الحادثة بيومين صرح ستانيسلاف بيلوكوفسكي رئيس مجلس الاستراتيجية القومية بقوله : " إن ما جرى في مسرح دوبروفكا قد يؤدي إلي تغييرات هامة في النظام السياسي لروسيا " . أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فقدم اعتذارا رسميا إلي الشعب في أول خطاب له بعد كارثة المسرح قائلا : " نحن لم نستطع إنقاذ الجميع .. فسامحونا " . أما عندنا ، فلا اعتذار ، ولا محاسبة ، ولا تغيير ، ولا تعويض لأهالي الضحايا ، ولا شئ . عندنا يموت المثقفون بشتى الطرق ، فلا يعبأ أحد . إن الإصرار على محاكمة المسئولين ، ودفع تعويضات تليق بالبشر ، هي قضية كل الكتاب ال! شرفاء ، وعلى أكاديمية الفنون بدورها أن تسعى في ذلك بعد أن فقدت ما فقدته من أبنائها الذين علمتهم ، وبذلت من أجلهم الوقت والجهد والمال ، فلم تستطع الدولة الاستفادة منهم إلا باعتبارهم ضحايا ، عاشوا آخر لحظات حياتهم يتخبطون بين الدخان واللهب مندفعين نحو الباب المغلق .