الخميس ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم سناء أبو شرار

أنا قاضٍ ولكني إنسان...

هل القاضي يحمل عبء إنسانيته؟

أم هل الإنسانية تحمل عبء القضاء؟

الإنسانية والقضاء يلتقيان عند خط الرحمة ويفترقان عند خطوط الحقوق، لأن بعض الحقوق تتطلب نظرة قانونية مجردة بعيدة عن أي اعتبار إنساني، وبعض الحقوق لا علاقة لها بالإنسانية بل بما فرضه القانون من واجبات والتزامات، فأهم أهداف القضاء هو تطبيق القانون حتى ولو تبللت قاعات المحاكم بالدموع أو ضجت بالصراخ.
القضاء ينفذ القانون لأنه وسيلته الأهم، والإنسانية قانونها يقبع صامتاً في القلوب. القاضي يُصدر أحكامه وفقاً للنصوص القانونية التي درسها والتي تفرضها عليه سلطة الدولة، ولكن القاضي أيضاً ورغم أنه اليد العليا لتطبيق القانون ورغم كل الصلاحيات الممنوحة له يتحول وبلحظة إلى انسان بكل ما تحمله صفة الإنسانية من ضعف ببعض المواقف الصعبة.

نحن لا نرى في القضاة سوى وجوة جافة وسلطات مطلقة ولكن يقبع خلف ذلك الجفاف وتلك السلطات إنسان يشعر ويتألم، يريد ولا يريد، يتحمل وقد لا يتحمل، وهنا تصبح إنسانية القاضي عبء عليه، لأنه يريد أن يعيش كباقي البشر، يريد أن تكون له حياة اجتماعية وعالم خاص يعيشه كما يرغب ومظهر خاص به لا ينتقده لأجله أحد، يريد أن يتكلم كما يشاء أن يغضب أو يحب كما يشاء أن يخرج إلى الأماكن العامة كما يشاء، أن يكون له أصدقاء غير خاضعين لتقييم المجتمع، أصدقاء ربما قليلي الثقافة ربما بسطاء بل وربما أغبياء ولا وزن اجتماعي لهم ولكنهم أصدقاء؛ أي أن القاضي يرغب أن يعيش مثل باقي البشر، ولكنه لا يستطيع.

القضاء هي المهنة الوحيدة التي لا يمكن أن تسمح للقاضي أن يعيش كما يريد، ربما يتم التجاوز لرجل السياسة، بل إن رجل السياسة يمتلك حرية أكبر بكثير مما يمتلكه القاضي، فالقاضي مُراقب في ملبسه، في علاقاته، في مشاعره، في توجهاته السياسية والاجتماعية، يتم رصد تحركاته وتصرفاته وكلماته، هناك العشرات ممن يراقبونه وليس فقط الموظفين في المحاكم. القاضي خارج قاعة المحكمة شخص وحين يدخل إلى المحكمة يتحول إلى مجرد قاضٍ، على باب المحكمة، يُلقي بثوب إنسانيته كي يلبس ثوب القانون فقط، وبحالات نادرة ويتحفظ عليها كثيراً قد يمارس بعضاً من إنسانيته وربما تتم معاقبته لهذه الإنسانية التي صدرت رُغماً عنه.

ولكن تكمن خطورة مهنة القضاء حين يعود القاضي ورُغماً عنه إلى إنسانيته، حين يمارس الغضب والحقد، حين يتم ابتزازه، حين يفقد قدرة التحمل لما يمكن أن يتحمله حتى ولو لم يستطع ذلك كل الناس، أن يفقد وفجأة السيطرة الكاملة على الذات، أن ينسى وبلحظة أنه قاضي وانه يمثل ويطبق القانون وأنه النموذج والقدوة وأنه الملجأ أيضاً، في هذه اللحظات أو الدقائق من نسيان الذات والشهادات وسنوات الدراسة وجوائز التكريم، يعود وبشكل غريزي إلى انسانيته الغاضبة الحاقدة، ليخرج كل ذلك الغضب إلى السطح وليصبح فجأة ذلك المجرم الذي يقتل لسببٍ ما من الأسباب.

الخطورة ليس أن قاضٍ ما قتل بصورة متعمدة أو بدافع الغضب، الخطورة هي هذا الزلزال الخطير الذي يحدث بنظرة المجتمع ككل إلى القضاء، وهذا الذهول الذي يشعر به الأشخاص العاديون حين يقفون أمام القضاء ليستمعوا إلى الحكم بالإعدام أو السجن؛ تلك الهيبة تختفي فجأة وينظر المجرم إلى القاضي على أنه يمكن أن يكون مثله تماماً. وهذا شعور خطير يهدد أمن المجتمع بأكمله؛ فإذا لم يدرك القاضي خطورة دوره في الحياة وأنه ليس ممثل فقط للقانون بل للمنظومة الأخلاقية والنفسية للمجتمع فلابد أن يحصل خلل عميق في البينة الفكرية للمجتمع. فالقضاء هو الساحة الوحيدة حيث تتلاقى بها السلطة العليا للدولة مع الأفراد العاديين، وأي شائبة تشوه هذه السلطة لابد أن تُحدث خلل نفسي لدى العامة وارتباك فكري.

لذلك اختار الإسلام للقضاء الأفضل علماً وورعاً وإخلاصاً وصدقاً وأمانةً وتقوى وعالماً بالكتاب والسنة. لا أحد يمكن أن يتصور الدافع لقاضٍ قدير على أن يرتكب جريمة ما، لابد أن يكون شيء أكبر من قدرته الإنسانية على التحمل فهو رغم كونه قاضي إلا أن أحد عيوبه هو أنه إنسان، لذلك ربما يجب تدريس مادة في كليات الحقوق وهي كيفية السيطرة على الذات والتحكم بالانفعالات وأن يكون لدى رجال القانون قدرة تحمل تفوق القدرة البشرية وذلك عبر تقوى الله وعبر الإدراك الكامل أن القاضي ليس كباقي البشر بل هو خليفة الله في الأرض وأنه يجب أن يؤدي هذه الأمانة رغم صعوبتها لأنها ثقيلة في الدنيا وأثقل في الآخرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى