الخميس ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧
أين نحن في العالم؟متى ينتهي الانحدار؟ أي دور للمثقف؟

أحلامنا الثورية والتقدمية أخفقت وعُدنا إلى العصور الوسطى

يعتبر جورج طرابيشي، السوري المولد الفرنسي الإقامة منذ عقدين وأكثر، واحداً من أبرز الباحثين العرب في مجالات النقد والفكر الثوري وعلم الجمال، ناهيك باشتغاله الطويل على فكرة الدولة، في تحولاتها من حلم الدولة القومية إلى واقع الدولة القطرية. وطرابيشي بعد أن ترجم معظم نصوص فرويد إلى العربية وثنى على ذلك بترجمة موسوعة علم الجمال لهيغل، ثم بإصدار أعمال موسوعية فلسفية وضع منذ ربع قرن ذخيرته المعرفية في خدمة توجه راح يتنامى لديه نحو الكتابة الفلسفية والعمل الابستمولوجي (المعرفي).

ولقد قاده هذا، لا سيما بعد انهيار زمن الايديولوجيات الكبرى (بعدما كان منتمياً إليه بعثياً ثم ماركسياً ووجودياً فليبرالياً) قاده إلى الاشتغال على التراث العربي، ولكن من خلال اشتغاله على مشروع نقدي لكتابات المفكر محمد عابد الجابري...
وهكذا، انطلاقاً من تعبيره عن خبية أمله، إزاء "خيانة الجابري لمراجعه ومصادره"، كما يقول، أصدر طرابيشي، حتى الآن، أربعة لجزاء من كتاب سيكتمل في خمسة عنوانه العام «نقد نقد العقل العربي»، ويعتبر واحداً من ابرز الكتب التي صدرت عن التراث العربي منذ سنوات.

"الحياة" التقت جورج طرابيشي في باريس، حيث يقيم متفرغاً للكتابة والتأليف، وحاورته ضمن إطار مشروع حواراتها مع الفكر العربي، وهو المشروع المهتم بالتساؤل حول الفكر العربي بصورة عامة وموقف المفكرين العرب مما يحدث ونظرتهم إلى الآفاق التي تبدو مسدودة – قليلاً أو كثيراً، بحسب وجهة النظر – والحال إن الحوار مع جورج طرابيشي، ضمن إطار هذا المشروع يفرض نفسه لكون صاحب «نقد نقد العقل العربي» من المتابعين منذ ما يزيد على نصف قرن لأوضاع الثقافة العربية وأفكار أصحابها، كتابة وسجالاً، وكذلك من خلال الكثير من المؤسسات التي كانت تقوم بين الحين والآخر حاملة هموم التغيير، ثم سرعان ما يخفت صوتها. ولقد وضع جورج طرابيشي أفكاره هذه وخبرته المعرفية في عشرات الدراسات التي كتبها، وفي الكثير من الكتب التي ترجمها، كما في كتاباته التي ذكرنا، إضافة إلى اشتغاله، خلال مرحلة من مساره العملي على بعض ابرز نتاجات الأدب العربي (أعمال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وتوفيق الحكيم بين آخرين) في منهج تراوح بين النزعة الاجتماعية ونزعة التحليل النفسي، ما أوصله قبل عقد ونصف عقد إلى إصدار واحد من أكثر الكتب سجالية حول عُصاب المثقفين العرب الجماعي وعنوانه "المثقفون العرب والتراث".

 جورج طرابيشي، من البعث إلى الوجودية، ومن الماركسية إلى الليبرالية... إلى نقد العقل العربي، رحلتك باتت طويلة. ربما تكون، في هذه المرحلة منها، واحداً من قلة من مفكرين عرب، لا يزال أفرادها يكتبون، بل يؤلفون كتباً... بل أكثر من هذا: انقضت السنوات الأخيرة من حياتك حتى الآن لوضع كتاب واحد في أجزاء عدة لم تنته فصولاً حتى الآن... لماذا؟ وكيف تضع رحلتك هذه في إطار الحديث عن وظيفة المثقف العربي في زمننا هذا؟ هل أنت الآن في مرحلة نقد الذات؟ نقد الرحلة؟ أم نقد الواقع العربي؟

 للإجابة عن سؤالك الطويل والمتشعب هذا، لا بد أولا من الاعتراف بأن الجيل الذي انتمي إليه، والذي أتى تالياً لجيلين نهضويين، فسميناه جيل الثورة، عاش وعشنا معه قطيعة كاملة مع التراث. لقد اتجه تفكيرنا واتجه بنياننا الذهني كله إلى الأيديولوجيات الغربية الحديثة التي، تحولت كلها على أيدينا إلى كتب مقدسة سواء كانت ماركسية أو قومية أو اشتراكية أو وحدوية. عشنا قطيعة تامة مع تراث كنا ننظر إليه على انه ليس أكثر من كتب صفراء. بعد ذلك أمام فشل مشروعنا "التحديثي" وخيبته، إزاء فشل «ثورتنا» التي لم تنجح إلا في إحراقنا وإحراق نفسها، ثم أمام السقوط المدوي للأيديولوجيات والذي تلى اكتشافنا حقيقة تلك الفضيحة التي طاولت الماركسية من طريق حكم باسمها دام ثلاثة أرباع القرن، حدث تبدل أساسي، خصوصاً أن ذلك كله تلى هزيمة العام 1967، ثم امتداد أفكار التطرف والعنف، باسم الإسلام.

إن هذا كله جعلنا، أو جعلني أنا شخصياً على الأقل أعيد النظر في موروثي الثقافي لأكتشف ما كان بيني وبين التراث من قطيعة. والحال إن هذه القطيعة بدت لعيني اكبر حين اضطرتني الحرب اللبنانية للرحيل إلى باريس هرباً وخصوصاً من الاقتتال الطائفي في لبنان الذي كنت أقيم فيه عند ذاك. إزاء هذا كله راحت تتفاعل لدي، وعلى غير توقع مني، علاقتي مع التراث، إذ اكتشفت فيه بديلاً عن الوطن الذي غادرت. ومن هنا جاء اهتمامي بمشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي كان أول من طرح فكرة نقد العقل العربي، راغباً لنفسه أن يكون ابستمولوجياً (معرفياً) في نقده، متكئاً على المناهج الحديثة. لقد وجدت في مشروعه، أول الأمر، نقيضاً للمشروع الذي كنت عشت عليه. غير أن رحلة إعجابي بالجابري لم تدم طويلاً... إذ شعرت بسرعة أن هذا المفكر أصاب العنوان لكنه أخطأ الهدف. أي انه لم يقم بعملية النقد التي اعتقدناها.
بل صادر عملية النقد في الوقت الذي كنا في أمس الحاجة إليها. وفي المقابل اكتشفت هنا في الغرب، أن هذا الغرب لم يبن نفسه إلا بقدر ما نقد نفسه. العقل الغربي صار متفوقاً وعالمي الحضارة حين مارس النقد الذاتي. أما نحن الذين لدينا موروث لا يقل أهمية أو حجماً عن الموروث الغربي، فإننا لن نستطيع أن نباشر مهمة التحديث والوصول إلى النهضة المرجوة ما لم نقم بالعملية النقدية نفسها التي اخضع الغرب نفسه لها. لن نستطيع أن نخوض معركة الحداثة ونحن عراة من النقد الحقيقي...

الحاجة إلى النقد

 ألم ترَ هذه الضرورة إلا عبر قراءتك للجابري دون كل ما كتب عربياً؟

 أجل... لم أره إلا انطلاقاً من الجابري. وبالأحرى ذكرتني قراءة الجابري بمحاولات سابقة بدت ذات زمن قادرة على النجاح، مثل محاولة طه حسين وعلي عبد الرازق. وصولاً إلى خالد محمد خالد... لكننا إذا استثنينا علي عبد الرازق الذي عرف كيف يصمد، نجد أن الآخرين تراجعوا، تحت ضغط المجتمع غالباً. أما بالنسبة إلى جيلنا، فالمضحك انه أحس انه ليس في حاجة إلى ذلك النقد. كان يكفي أن نقول إننا ثوار... فنقلب الأشياء... لاحقاً بدت لنا الحقيقة: ما من ثورة وما من تغيير يدخلاننا العصر من دون الارتباط بالتراث ونقده. وكان الجابري أول من أشعرني بهذا...
ولكن أولم يسبقه عبد الله العروي في كتابه الذي افتتح ما يمكن أن يسمى اليوم بالنهضة الثانية، أعني «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، في الحديث عن حتمية النقد؟

عبد الله العروي انتقد الأيديولوجيا المعاصرة بصدق. لقد تعاطى مع معطيات الحداثة... صحيح أن له دراسة مهمة عن ابن خلدون، لكن اهتمامه الأساس انصب على لحظة العقل العربي المعاصر، في حين أن الجابري اهتم أساسا بنقد العقل التراثي. المهم أن رحلتي مع الجابري لم تطل، إذ سرعان ما اكتشفت انه قبل أن يخون موضوعه، خان مصادره ومراجعه...
حسناً، لكن نستطرد في الحديث عن الجابري، وهو حديث يشغل جزءاً كبيراً من كتاباتك الآن، كما انك أشبعته تمحيصاً في حوارات ودراسات عدة، أسألك: ترى أفلا يمكننا اعتبار الجابري مرآة لجيلك كله بشكل أو بآخر؟
بالتأكيد... غير انه تميز بالالتفات إلى أمر لم نلتفت إليه (ضرورة نقد العقل العربي) لكنه تخلى بسرعة عن وظيفة كان على النهضويين والليبراليين الذين كانوا استكمالاً لهم أن يقوموا بها. لكنهم، ونحن من بعدهم وقعنا في مأزق أساسي: لقد نما مشروع النهضة العربية تحت وطأة وجود الاستعمار في بلادنا.
فإذا قارنا بين حالنا وحال اليابان سنجد الفارق أساسيا: هم لم يصطدموا، حين بدأوا نهضتهم بوجود الاستعمار في أراضيهم. اصطدموا بالتقدم الغربي وأرادوا أن يتقدموا ففعلوا... أما نحن فإننا اصطدمنا مباشرة بالاستعمار، وكان ذلك قبل اكتشاف التقدم.
وبالتالي كان على المثقف النهضوي أن يهدم ويبني في الوقت نفسه، كان عليه أن يحارب الاستعمار ويبني النهضة. فضاع بين الأمرين، فلا استطاع، هو أن ينتصر على الاستعمار لاحقاً، ولا استطاع أن يبني نهضة فكرية نقدية حقيقية. ونحن نعرف، من دون ذكر الأمثلة، أن عشرات من المفكرين العرب كتبوا تحت وطأة هذا المأزق في شقيه. ونعرف أن النقد لا يمكنه إلا أن يكون جذرياً... وأنا، بالنسبة الي اكتشفت لاحقاً حاجتنا العربية الماسة إلى النقد... لكنني اكتشفت أيضا أننا، في فكرنا العربي، كنا كلما ابتعدنا عن الاستعمار، تزداد لدينا عقدة الانطواء والدفاع عن النفس، مما ولّد لدينا عصاباً جماعياً، لعل سببه الأحدث بالأساس، هو رضة حزيران (يولو)... وأقول رضة لأن الرضة أقسى من الصدمة. صدمة الحملة الفرنسية أوائل القرن التاسع عشر أيقظتنا من السبات وكشفت لنا الحاجة إلى التقدم والنهضة.
أما رضة حزيران 1967 فكانت مخدرة، ذهبت بعقولنا، مما دفعنا إلى البحث عن حل وسط جملة استيهامات لا وجود لها في الواقع. بل أقول إن هذه الرضة لم توصل المثقف العربي (لئلا أقول الإنسان العربي) فقط إلى عصاب جماعي، بل إلى ذهان جماعي. من هنا نلاحظ كيف أن كثراً من أبناء جيل القوميين – بل الماركسيين حتى – انتهوا متطرفين غيبيين... رضة حزيران كانت أقوى منهم...
التقوا جماهيرهم
 هل تعتقد أنهم بهذا تمكنوا من الالتقاء بـ "الجماهير"، رداً على عقدة ثقافية قديمة كانت تشكو دائماً من انعزال النخبة عن المجتمع؟
 نعم... والدليل على ذلك الموجة التعبوية المتزمتة السائدة حالياً، والتي يشكل مثقفون رديفاً لها. إن هذه الموجة استندت إلى بلايين الدولارات والى تعبئة شعبية عامة طوال ثلاثين سنة، تحت شعار ثقافة القطيعة مع الآخر، والعداء لثقافة الآخر.

وهنا أود أن أوضح فارقاً أساسيا بين جيلنا على علاته، وجيل اليوم المتطرف. في سنوات الخمسين من القرن الماضي، كنا جميعاً نقاتل الاستعمار وكانت ثورة الجزائر قدوة لنا في ذلك.
كنا نقاتل ضد الاستعمار الغربي، لكننا كنا منفتحين كلياً على التقدم الغربي، وعلى الثقافة الغربية. اليوم انقلبت الآية، غُضَّ النظر تماماً عن الاستعمار والاستغلال الغربيين، لتنصّب الكراهية كلها على الثقافة الغربية... وفي رأيي إن هذا أخطر مقلب تعيشه أمتنا ومنطقتنا...

 هل تعتقد أن المثقف العربي مسؤول، ولو جزئياً، عن هذا الواقع الذي يحمل قدراً كبيراً من التناقض والازدواجية القاتلة؟
 نعم، هو مسؤول، وإن انطلاقاً من بعدين: بعد اللاوعي، حيث هزيمة حزيران دمرت قدرته على رؤية الواقع وقراءته في شكل صحيح، فكان أن التجأ إلى أواليات دفاع لاشعورية، وبعد ذلك البعد الواعي الذي ساهمت فيه إغراءات سلطة المال والامتيازات التي أغرقت الساحة واشترت النشر والإعلام والنشاط الجامعي، في شكل لا سابق له في تاريخ العرب أو الغرب. لقد انفق في العالم العربي عشرات بلايين الدولارات لخلق ثقافة مضادة للحداثة. وبالتالي فقد المثقف سيطرته على الواقع... في المقابل بحث عن خطاب يسيطر عبره، فوجد خطاب التراث... فأمسك به كما هو وأعاد إنتاجه، ولكن في شكل سيئ... يبدو أضأل الشأن كثيراً من الشكل الذي به اشتغل عليه تراثيون سابقون، بحيث لم نجد لدينا، مثلاً، من هو في مستوى السيوطي أو الشافعي عمقاً وفاعلية. رحنا نأكل على مائدة التراث، لكننا لم نأكل سوى الفتات. ولعلني أستطيع أن أتحدث هنا، للتوضيح، عن عقدة قتل الأب. فنحن، إذ قاطعنا التراث طويلاً أيام ازدهار «الثورة» أتت هزيمة حزيران لتولد لدينا مشاعر التأنيب فاكتشفنا أننا كمن قتل أباه... وبدا لنا أن مشروعنا السابق لإيجاد بديل له قد سقط بدوره. وأتحدث هنا، طبعاً، عن جمال عبد الناصر، الذي أردته إسرائيل أولاً، ثم أرداه حلفاؤه . عبد الناصر كان يمكن أن يشكل بديلاً حقيقياً... لكننا ساهمنا في قتله، لنعود إلى أب مثالي كان هذه المرة: التراث.

وقلنا إن إسرائيل ما هزمتنا إلا لأننا خنا الأب – التراث وقطعنا معه. وزاد من هذا الشعور أن إسرائيل هي، في الوعي واللاوعي العربيين، ربيبة الاستعمار، وقد تكون أماً خاصيةً ذات قضيب (تذكر كتاب «خنجر إسرائيل» للهندي كرانجيا وكم كان له رواج عندنا). إزاء «أم» كهذه تمتلك قضيباً تكنولوجياً مستعاراً، شعرنا بالحاجة الهائلة إلى أب يحمينا، وهكذا في ظل غياب الأب التاريخي عبد الناصر، ومشروعه، وفي ظل فشل عبد الناصر على أي حال، في أن يكون مصطفى كمال العرب، أوجدنا الأب المثالي.
أنا لا أقول هنا إن التراث ليس أبا. بل هو بالفعل أب بين الآباء، لكن المشكلة فينا لأننا اكتفينا بطلب حمايته لنا، فلم نؤد له خدمة ... بل ساهمنا في موته هو الآخر. كان – ولا يزال – المهم أن نحييه فعلاً، بوسائل حديثة، لا أن نهرب إليه من الحداثة في قطيعة معها. أننا محتاجون إلى التراث، ولكن أن نتقدم منه من خلال سلاح النقد وحفريات المعرفة ومناهج الحداثة... يجب أن نعيد إحياءه لا أن نبتعثه كما كان قبل ألف سنة، إذا أردنا حقاً إحياءه يجب أن نمكنه من أن يتعايش مع العصر... لا أن نكرره معيدين إنتاجه وكأن الزمن واقف من دون حراك...

الوحش الذي خلقناه

 ولكن أفلا تعتقد أن الأمور قد تحركت في فرز واضح وعلى أكثر من مستوى خلال السنوات العشر الأخيرة، بحيث تضاءل كثيراً إنفاق المال على ابتعاث التراث كما هو وكنقيض لكل حداثة وإصلاح؟
 بل اعتقد هذا فعلاً، ومنذ ما قبل الحادي عشر من أيلول 2001... ولكن حدث منذ حرب أفغانستان الأولى، حين سادت الحال الطالبانية. حيث بدا واضحاً أن الحال العربية صارت ذات صورة فرانكشتانية، صورة المخلوق المسخ الذي انقلب على مخترعه يريد قتله. إن هذه الصورة في الواقع هي الصورة التي يقدمها لنا اليوم أسامة بن لادن ورفاقه وحلفاؤه: صحيح انه وجه ضربته الكبرى إلى أميركا... لكننا نحن كنا الذين وقعنا ضحية لتلك الضربة. انقلب المخلوق علينا. وهذا هو المأزق الجديد الذي نعيش فيه الآن...

المأزق الذي تراكم فوق مأزق 67، ومأزق موت عبد الناصر، والردة والطغيان الاميركي. وانظر، إزاء هذا كله، إلى حال المثقفين العرب بين نزعتين: الذعر حتى الموت ازاء ذلك المخلوق، والإعجاب حتى التماهي معه. وما هذا إلا لأن المثقف العربي لا يزال – في شكل عام – فاقد الفعالية التاريخية، باحثاً عن آباء وهميين يحتمي بهم...

 طيب... لنفترض ان المثقف اراد الخروج من تلك الوضعية ولعب دور نهضوي نقدي حقيقي، لو وعى دوره، ما الذي سيمكنه ان يفعل وكيف، في وقت تبدو فيه الحياة الثقافية متراجعة والجامعات فرغت إلا من الحزبيين او من الراغبين في الحصول على التقنيات... وتبدو فيه المساجد ألاماكن الوحيدة للتجمع ونشر الفكر؟

 طبعاً انا لا افترض أن الاوضاع ستكون وردية حتى ولو غيّر كل المثقفين توجهاتهم نحو الافضل... لكنني اقول ان المثقف اذا اراد ان يقف على قدميه من جديد، يمكنه ان يستخدم حتى ساحة المسجد... لم لا؟ عليه ان يخاطب الناس الطيبين من هناك... ولا يترك الساحة للمتطرفين، الذين غالباً، يعملون بوعي او من دونه، ضد الايمان الديني الحقيقي. على المثقف العربي ان يجد لنفسه موطئ قدم حقيقياً وفاعلاً...

وهو قادر ان اراد ذلك، لكن المشكلة ان قلة فقط من المثقفين والمفكرين العرب تسعى الى ذلك، اذا استثنينا مفكرين مغاربة جلهم يكتب ما يريد، ويسعى الى التقدم، ولكن في معظم الاحيان بالفرنسية مخاطباً جمهوراً مكتسباً سلفاً. وأفتح هلالين هنا لأشير الى مثقفين لدينا مزدوجي اللغة، يكتبون شيئاً بالفرنسية او الانكليزية، ويكتبون نقضيه بالعربية... في الاحوال كافة اعتقد ان المهمة ليست سهلة... وهي تستغرق زمناً طويلاً جداً... ترى أفلم استغرق انا في عملي على نقد «ناقد العقل العربي» 18 سنة حتى الآن؟

دعنا نرسم صورة تخطيطية معينة: لدينا السلطات القامعة او الخائفة في غالبيتها، ولدينا المتطرفون الذين يسحبوننا بعيداً من العصر، ولدينا مجتمعات تبدو دائماً اكثر ميلاً الى التطرف والتعصب وعداء الآخر...
 دعني اقاطعك هنا وألفت نظرك، معترضاً على هذه العبارة الاخيرة: انظر على شاشة التلفزة الى جمهور حفلات أم كلثوم... ليست بينه امرأة واحدة محجبة... وليس ثمة أماكن للنساء وأخرى للرجال... وليس ثمة من يصخب... بل الكل هناك في بوتقة فن حضاري متقدم... أين نحن منهم الآن؟

 هذا بالضبط ما اعنيه: في زمننا هذا يميل المجتمع اكثر وأكثر الى التطرف والتزمت. وفي المقابل ثمة سلطان جعل لكل واحدة منها، بديلا متطرفا بات اشبه بفزاعة. وفي الوسط هناك المثقف الذي يفترض ان يكون ضمير الناس. انه واقع في الوسط بين مطرقة السلطة وسندان التطرف. فماذا يفعل، هل يتحالف مع هذا او ذاك... او يعزل نفسه؟ ماذا في امكانه؟ هل يمكنه، ان كان مستقلاً ونهضوياً، ان يكوّن اكثر من طائفة منغلقة على نفسها كما تفعلون أنتم...
انا لا اطالب المثقف بأن يكون بديلاً عن الحزب او النقابة... حسبه ان يكون عامل وعي...
ولكن... كيف يمكنه الوصول الى الوعي... لو تراكم عنده وكان نقدياً؟
هو بالنسبة الي عامل وعي اما كيف سيعم هذا الوعي في المجتمع، فسيرورة طويلة قد تحتاج الى اكثر من مئة سنة... انا لست متفائلاً قبل انقضاء قرن بكامله...
 قرن بكامله؟ هل تمزح؟
 أبداً... على الاطلاق. قرن على الاقل. تصور قبل عقود كنا نعتقد ان المسافة التي نفصلنا عن الحداثة، مجرد مسافة اقتصادية – تكنولوجية. اليوم، بتنا واثقين انها مسافة ثقافية – عقلية وهذه اخطر بكثير وأعمق بكثير من تلك التي كنا نتوهمها، ونتوهم اننا نستطيع ردمها بقفزة واحدة...
 وخلال قرن... يظل المجتمع على حاله؟
 طبعاً لا... ان الصورة التي اتصورها تتضمن صدامات ومذابح كالتي تحدث الآن في العراق، وكان سبق لها ان حدثت في لبنان والجزائر. كنا في الماضي نتحدث عن «القبرصة»... اليوم، الوضع اخطر ومرشح لمزيد من الخطر... اليوم نتحدث عن اللبننة... ثم عن العرقنة، التي هي اخطر من اللبننة... وأنا واثق من ان من سيدفع الضريبة ليس المثقف بل المجتمع ككل، سيدفعها من دمه ودم ضحاياه. مهما يكن فإن حال العراق ستنتج في نهاية الامر شيئاً...
 ايجابياً او سلبياً في رأيك؟
 قد يكون في البداية شديد السلبية... ففي العراق الآن حرب طائفية اكثر منها حرب تحرير او حرب تطوير انها حرب طائفية مكشوفة، لو تفاقمت ستدفع كل المجتمعات العربية الثمن غالياً جداً.
اما من حل هناك؟
 الحقيقة اننا، كخلاصة لهذا كله امام مأزق جوهري: ان المتطرفين باسم الاسلام، غزوا المجتمع كله من دون ان يطالبوا بالسلطة... اشتغلوا على المجتمع وهنا كمنت عبقريتهم، في الضد عنا نحن الذين، سواء كنا قوميين او ماركسيين وما الى ذلك، كان اول ما سعينا اليه هو السلطة مستبعدين حتى مطالب مثل فصل الدين عن الدولة، حتى – في رأينا – لا نصطدم بالمجتمع!! وكانت النتيجة ان قامت سلطات معظمها يمت الى افكارنا القديمة بصلة وثيقة. وهذه السلطات تضعنا في قلب المأزق: تشير الى المتطرفين قائلة: اما انا وإما هم. انا شخصياً ارفض هذا الخيار... ربما لأن لدي امتياز انني اعيش في الخارج. ولكن اذا استمر هذا المأزق سيكون هناك دمار كبير كما حدث في العراق... عندها سيدفع المجتمع كلفة عالية...
 في حديثك هذا كله ألاحظ غياب عاملين اساسيين يدهشني انك تسقطهما من حسابك: عنصر التدخل الخارجي...
 (مقاطعاً)... حتى الآن اثبت الغرب في تدخله انه غبي جداً... فهو ان أراد ان يتدخل في شكل جيد وفاعل، لا ينبغي عليه ان يفعل كما يفعل متدخلاً في العراق، والآن في لبنان او ازاء سورية... ان التدخل الغربي الوحيد الممكن والمفيد، هو تدخله في فلسطين وتحديداً في وجه اسرائيل. لو فعل الغرب هذا وأتى بحل جذري فرضه على الجميع، ولو بالقوة، سيكون قد وفر علينا دماء وضحايا كثيرة... مثل هذا التدخل الذي يضع حداً لغطرسة اسرائيل وعدوانيتها وليأس الفلسطينيين، هو الوحيد المرحب به والذي سيقربنا من الحلول الممكنة... اما كل تدخل غربي من نوع آخر – من نوع ما يحصل الآن – فإنه يزيد من حدة مآزقنا.
 ماذا عن العامل الثاني: المجتمع المدني وما يلحق به من اعلام وليد عولمة انسانية النزعة...؟
 انا أقف بكل حذر تجاه أي حديث عن مجتمع مدني.
للأسف ان ما يطالعنا في مصر او العراق او سورية، ليس مجتمعاً مدنياً، ان نحن استثنينا بعض الرجال والنساء الشجعان. المجتمع المدني مقولة لم تجد مكاناً لها، بعد، في عالمنا العربي، بصراحة نحن مجتمعات اهلية طائفية.
اما المجتمع المدني، في مثل هذه الاطر فوهم من الاوهام... ربما هنا يمكننا استثناء مجتمع متطور مثل المجتمع اللبناني او التونسي. لبنان، اساساً، منفتح على الثقافة الحديثة، وفيه – على رغم طائفيته – نواة مجتمع مدني نلاحظ كيف اعطاه استشهاد رفيق الحريري حيوية جديدة. اما في تونس فثمة ايضاً بدايات مجتمع على رغم الازدواجية بين الفرانكوفونية والـــنزعة العربية. في بقية البلدان ليس ثمة أي تأثير لأي مجتمع مدني.

فالمجتمع المدني يكون عادة ابناً للحداثة والديموقراطية. اما نحن فإننا نعود الى القرون الوسطى من جديد.
والقرون الوسطى الجديدة اخطر من القديمة، لأن القديمة لم يكن عليها ان تجابه حداثة مستشرية. وهنا يكمن، في اعتقادي، لب المأزق العربي المخيف. المجتمع المدني لا يمكنه ان ينمو خارج التعليم... وانظر الى معدلات الأمية في عالمنا العربي وستجد الجواب...

الحنين الى الأب ... وقتله
الديموقراطية بين الدولة والمجتمع المدني

ابراهيم العريس ... الحياة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى