أبو الحسن والمتعقّبون في ليلة مثلج
بعد أن انقضت الأيام الثلاثة لبيت العزاء، حضرتْ جارتي (رحمة الأيوب) إلى بيتي، وسلمتني عددا من الأوراق، كانت هي آخر ما كتبَهُ زوجها الشهيد (مصطفى أبو الحسن)، قالت:
– "الله يرحمه، خذ اقرأ شو كتب، يا حسرتي عليه... الحمد لله". أخذتُ الأوراق، وقرأت:
لم يتركوا لي شيئا، حتى قلم الحبر الأسود ومخطوط الكتابات الخاصة بي أخذوه، سأكتب رغم علمي المسبق بأنهم سيعودون ليفتشوا، ويختطفوا ما تبقى لديّ من أشياء تزعجهم. رغم كل شيء سأكتب، ولن أخاف على عيني ورجلي المتبقيتين.
هاأنذا أعود إلى البيت وإلى الحياة بعد فترة غيابٍ قسريّ دامت أحد عشر يوما، تسعة منها لم أعِشْها، ربما كنت ميّتا... اعتقلوني أو اختطفوني الأمران سواء لا فرق بينهما.
(صمود) ابنتي الصغيرة ذات العشرة أعوام، صرختْ عليهم وبصقت في وجوههم، صَفَعَها الضابط بيده على وجهها فأرداها على الأرض، كان غاضبا متوترا ومرتبكا، وكنتُ أنا مصابا في رجلي اليمنى بعيار ناري، لم أتوقع للحظة أن تكون النتيجة بتر الساق. أصابوني عندما كنت عائدا إلى البيت بعد عملية تسلّل مُضنية إلى بقالة رفيق دربي (عبد الناصر) في الحارة المجاورة، كي أجلب خبزا وطعاما للعائلة، هو الوحيد الذي يمكنه فتح بقّالته دون أن ينكشف لهم؛ لأنها ملتصقة بجدار بيته، ولها باب داخلي يفضي إلى مطبخ البيت، فلا يحتاج إلى فتح الباب المواجِه للشارع.
تحامَلتُ على نفسي كثيرا كي أصلَ إلى البيت، كان الشارع معتما وخاليا تماما من أي إنسان، بسبب منع التجول المفروض على البلدة. طرحْتُ جسمي المتثاقل على أرضية البيت عند الباب مباشرة، ويدي اليسرى تتشبث بكيس الخبز وعلب الحمّص واللبن وقليلٍ مما تبقى في البقالة من حبّات البندورة والخيار، وأضغط بيدي اليمنى على موضع الإصابة كي أمنعَ تدفق الدم. ولوَلتْ (رحمة) زوجتي، وأسرعتْ تبحث عن بقايا الإسعافات الأولية في البيت، تنحنح أبي وحوقل، انهمرتْ ابنتي (دلال) بالدموع والنشيج، و (صمود) كانت تجلب القماش والماء والمقصّ.
تبِعوني إلى البيت، إنهم يفضّلون تعقّبَ الناس في الظلام والعتمة؛ لأنهم يرَوا فيها بشكل جيد. اقتحموا البيت بسرعة، ركلني أحدهم على موضع الإصابة، ونزع جندي آخر قطع القماش الملفوفة على الجرح. فتّشوا كل شيء في البيت، عبثوا وخرّبوا، ولولوا وصرخوا... بادَلَتْهُم (رحمة) الصراخ أيضا. كان أبي العجوز جالسا على الكرسي، متكئا على عكازته المصنوعة من خشب السنديان، سمعتُ لغَطَا خرج من فمه العاجز، وأظنّهُ قال لـ(رحمة):
– "اسكتي بَلا صراخ، صياح النسوان عيب قدام الأجانب". أمسكوا بي وشحطوني إلى الخارج.
اقتادوني شحطا إلى المركبة العسكرية، وخلفي جلبة من الصراخ وفوضى القلق والخوف. لا أضواء في أعمدة الكهرباء، والليل معتم والبرد شديد، والرياح تعوي في الشوارع، وتعبث بكل شيءـ شجرة السرو القريبة تكاد تُقتَلع من جذورها، وألواح الزينكو تُصَفّر وتئنّ على السطوح، وكلّ شيء تحوّلَ إلى ثلج باللون الأسود. البلدة ليست هي البلدة كما أعرفها في ليالي الشتاء، فالكهرباء مقطوعة منذ يومين، لا أسمع نباح كلب جارِنا عدنان العلي بالمطلق، بالتأكيد فضّل الابتعاد عن المكان عندما حضر الجيش إلى ذات المكان، حتى القطط لم يكن لها أي نشاط يذكر في تلك الليلة الشباطية. والمركبات العسكرية تهدر في أماكن بعيدة، تنبعث منها أضواء خافتة ثم تختفي.
على حافة الطريق عند الجيب العسكريّ قيّدوا يَدَيّ بمرابط بلاستيكية، وربطوا حول عينيّ رباطا قماشيا، وأصعدوني إلى الجيب وانطلقوا مسرعين وهدير المحرّك يُدوّي في أذنيّ. كلما حركتُ يَدَيّ قليلا ضغطتِ المرابط عليهما أكثر. وأنا أكتب الآن أشْعُرُ بأنّ قلمي مقيّدٌ هو الآخر، يعجز عن تحويل المشهد إلى كلمات... .
لغَط وصياح، وبرد شديد، ولكمات خفيفة، وألم يسري في رجلي، ولم أكن أسمع إلا هدير الجيب ورطانة عبرية، والتخابر في اللاسلكي. دَوّى في أذني هدير مزعج صدر من إحدى الدبابات المتحركة، ويبدو أنها كانت بعيدة وتتحرك باتجاه ما، لا أرى شيئا ولا أستطيع تحديد المكان ولا الوجهة التي يتجهون فيها، كنت أحِسّ بالدماء تسيل من رجلي، ومع ازدياد تكاثف الدم المتخثر على بنطالي شعرتُ بنوع من الدفء والحرارة في رجلي المصابة. رائحة النفط المنبعثة من عادِم الجيب كانت تخترق أنفي، لم يكن لديّ الوقت لأشْتُمَ جِمالَ عبد المطلب المنتشرة في شعاب مكةَ، ولا منظمة أوبك. أحدهم أزاح رجلي المصابة ورفعها بقدمه على رجلي الأخرى، تألمتُ كثيرا، فأدركتُ أن الإصابة خطيرة، عظام مهشّمة ولحم متمزق. والزمن يمرّ ببطء ثقيل.
انطلق من بعيد صوت حادّ، تبعته صرخات عدّة ترددت في أماكن متناثرة، و(الله أكبر) تمزّق عتمة الليل من مسافات سحيقة، ورشقات مختلطة غاضبة من الرصاص، وما لبث أن خيّم السكون في المكان. لم أكن قادرا على فهم ما يدور حولي، وما هو مصيري، فقط كنت أنتظر لحظة إطلاق الرصاصة الوحيدة (رصاصة الإعدام أو الرحمة) من أحدهم. في عَينيّ المعصوبتين كنت أرى (رحمة ودلال وصمود) وخفتُ على مصيرهم الذي بات مجهولا أيضا.
أدركتُ أنّهم يصعدون في منطقة جبلية من تقفّزات عجلات الجيب، ثم دخلوا في طريق ترابي موحِل، عرفتُ ذلك من دوران العجلات على الوحْل، كان محرك السيارة يُصدر جعيرا مقيتًا، ورائحة السولار اخترقت أنفي. قرأتُ ما استطعت تذكّره من آيات قرآنية، كي تكون آخر ما ينطقه لساني، ليس خوفا من الموت، أو بنادق الجنود، أو أملا بالنجاة، فأنا لم أضع أي احتمال للنجاة بتاتا، كل ما كان يهمّني في الأمر أن أعرف أين أنا، أين سأموت، وكيف أموت. قلت لهم:
If you want to kill me, I ask you to kill me with dumdum
أستطيع أن أكلمهم بالعبرية ولكنني في لحظات الشعور بالموت حقدتُ على كلّ شيء يمتّ لهم بأيّة صلة. لم يُجِبْني أحد منهم، ولم ينطقوا بكلمة واحدة، واكتفوا بركلة قام بها أحدهم على موضع الجرح، صرخْتُ:
– "ولا يا حيوااان".
لم يردّ عليّ أحد منهم بقولٍ أو فِعل. أحسسْتُ أنني في عالم غيبيّ، مصيره مجهول، حتى الموت صار مجهول المعالم، رائحة الموت كانت تنبعث من رائحة عادم الجيب... كم مرة يموت الكائن الحي؟ في تلك الليلة أدركتُ أن الإنسان يمكن أن يموت ألف مرة. والزمن يمرّ ببطء ثقيل...
توقف الجيب، أنزلوني منه وجرّوني على الحجارة والأشواك والتراب الموحل، لم يزيلوا الرباط عن عينيّ، ولم يفكّوا المرابط عن يديّ. انهالوا عليّ ضربا وَلَكْما بأرجلهم، قفز أحدهم بكل ثِقلِهِ على بطني، فرَكَ أحدهم رقبتي ووجهي ببسطاره الثقيل، جندي آخر متمرس بالجَلد لسعَ ظهري وأدمى وجهي بخرطوم بلاستيكي رفيع ومرِن. هم ليسوا أقوياء، بل معدّاتهم هي القوية، ضربوني بالبساطير وسياط البلاستك والهراوات، وأعقاب البنادق. صرختُ:
– " اضربوا يا وسخ مثل ما بدكم، وحوش خنازير". ألسنتهم لا تفقهُ من العربية إلا ألفاظ الشتائم، ما أبرعهم في شتائم الجنس بالعامية العربية!. بدأتُ أردّ عليهم بالمثل:
– " انتا الهومو، ابن زوناه ، ولا يا ابن الشّــــ...".
أبناء الزنى يشتمون أمّي وينعتونها بالزنى. هل هم واثقون من أمهاتهم وأخواتهم؟. تسيفي وشولا وسيندي وغيرهن اشتغلن عاهرات خدمةً للأم إسرائيل؟. إنه هاجس القلق من خيانة الزوجة في غيابهم، وزور النَسَب يلاحقهم يوميا.
كانت أمي تقصّ علينا حكاية إنجابها لي، فقد عادت مساء من حقل الزيتون، تحمل أختي التي تكبرني بعام واحد بين يديها، وتحمل على رأسها طستا فيه أوعية الطعام، وأبي يسوق الحمارة أمامه محملة بكيس الخيش (أبو خط أحمر) معبّأ بحبّ الزيتون ومُخيّطا بالمسلة. وفي تلك الليلة حضرت الحجة خديجة العيسى (الداية)، وأشرفتْ على ولادتي وقدومي إلى هذه الحياة. وكثيرا ما كانت أمي تقول لي:
– "طول هذاك اليوم وأنا مبلوشة بالزيتون، والله ما حسّيت بالتعب، إلا لما صرت أقاسي بيك بالليل، أجى راسَك كبير يَمّا ".
كم كانت لديّ رغبة جامحة للنهوض وقتلهم واحدا واحدا، لا أعرف عددهم، إلا أنهم لم يكونوا أقل من خمسة. هل كانوا كلهم يهودا؟ أم فيهم عرب دروز؟ لم يكن يعنيني هذا الأمر، إنهم مجرد كلاب مسعورة أفلتت من أطواقها. بدا على أحدهم التعب، أحسَسْتُ ذلك من تراخي لكماته، بصَقَ على وجهي بصقتين، زال إحساسي بالألم مع تتابع الضربات على الظهر والرأس والرجلين، وازداد غضبي وحقدي بسبب الشتائم البذيئة، لا يعرفون من اللغة العربية إلا ألفاظ الشتائم، شتموني وشتموا أمّي... أخواتهم وزوجاتهم وأمهاتهم يعملن عاهرات لخدمة شعب الله المختار.
لم أستنجد بأحدهم ولم أسترحمهم، لم يكن لديّ سوى الشتيمة والصراخ والبصق في وجوههم. الصراخ في وجه القاتل هو السلاح الأخير في جُعبة المقتول... استخدمتُ هذا الشكل من المقاومة بكل جدارة، كلما ضربني أحدهم كنتُ أوجّهُ له شتيمة في العمق، ومن أحلى طراز، بَصَقتُ على وجوههم وزيّهم العسكري، كنت أنفث عليهم دما وقيئا... القيء ونفث الفم كان أقوى من عتادهم، شعرتُ في تلك اللحظات بقوتي وعجزهم، فازداد صراخي وبُصاقي وشتائمي. لم أكن أدرك ما أقول وأفعل، المهم أن أقاوم بتلك الوسيلة الأخيرة.
كنت طريحا على الأرض، لا أقوى على الحركة واتّقاء الضربات، فرفشَ أحدهم ببسطاره على رأسي ووجهي، وفرَكَ فَمي بشدة حتى يسكتني، وتعبّأ فمي بالوحل، واستحال جسمي وملابسي إلى قطعة مصبوغة بالطين، وصارت الأرض دافئة، وشعرت أنها تزفر وتصرخ معي... فاجأتني ضربةُ هراوةٍ من أحدِهم على فمي، فتهشمت بعض أسناني، وتدفّقَ الدم بارتياح، لم أشعر بأيّ ألم، بل أحسستُ بدفءٍ ما يجتاحُ كياني...
هل كنتُ أنا أحدَ الذين تساءلتَ عنهم يا أمل دنقل؟
عن الفَمِ المَحْشوّ بالرمال والدماء
أسألُ يا زرقاء..
انتهى الضرب، وابتعدوا عني، بينما استمر أحدهم بإطلاق الشتائم الملوّنة، ربما كان مبتدئا في الخدمة العسكرية في مناطق الضفة الغربية، ورغبَ أن يحفظ تلك الألفاظ من زملائه المتمرسين في هذا المجال. انبعثت رائحة سجائرهم فاقتحمت أنفي كرائحة النفط. لم أتوقع أنّ أحدهم سيطفئ عقب سيجارته بين فخذيّ، اخترقت بنطالي واستقرت هناك، ثم فرَكَها برِجْلِهِ كما لو أنه يفرُكُ عقربا على قطعة إسفنج، صرختُ من أعماق أعماقي، ثم قلت:
– "يا أخو المنـــ... في ( ... ) أختك بدي أطفي السيجارة". وازداد الضرب والركل واستمر صراخي، وسمعتُ أنا نفسي صراخي بكل وضوح. لعل الكلاب الضالة والخنازير والثعالب في منطقتنا وقفتْ معي عندما سمِعتْ صراخي، لماذا أطفأها هناك؟ هاجس زور النسب الذي يلاحقهم، والخوف من تاسع أطفالنا يقتلهم يوميا. والزمن يمرّ ببطء ثقيل...
لم يتبقّ لي شيء من جسمي، لم أعُدْ أشعر برجليّ، ويداي مشلولتان من التكبيل، عيناي لا تريان شيئا، ليس لأنهما معصوبتان بالقماش، فقد سقطت قطعة القماش نتيجة الضرب العشوائي، والدحرجة على الحجارة والتراب والشوك، فعيناي لا تَرَيان شيئا؛ لأنهما ممتلئتان دما وطينا. رائحة الطين المجبول بالدم اخترقت كياني، وشعرت بنشوة الموت الدافئ على التراب... الآن أدركُ السبب الذي جعل جدّي يخضّب أصابعي بالتراب عندما جرحها المنجل في الحقل، وكنت صغيرا ألهو حوله، والآن فهمتُ معنى ما قاله لي يومها:
– "لا يحفظ دمَك إلا تراب أرضك".
ربما شعروا بالتعب فتركوني ريثما يرتاحون قليلا، هكذا اعتقدتُ، وشعرتُ أنا بالارتياح بعض الوقت. بدا لي مؤكدا أنّ طلقة ستخرج من بندقية أحدهم نحو رأسي. والزمن كان بطيئا جدا....
تحوّل لساني إلى قول: "لا إله إلا الله" ربما كان ذلك هو المعروف الوحيد الذي قدموه لي، جعلوني أتقرب إلى الله أكثر من أي وقت مضى في حياتي.
سمعتُ رشقات من الرصاص تنطلقُ من مكان ما، اضطربَ الجنود وتحركوا باتجاهات مختلفة، لم يطلقوا رصاصة واحدة، تقدمَ أحدهم نحوي، وآخر ما أتذكر أنه ركَلني على نفس الموضع الذي أطفؤوا به السيجارة، لم أصرخ هذه المرة، ولم يتبق لديّ شيء من آلام الجسد.
أفَقْتُ من غيبوبتي في حجرة سفلية في بيت (أبو الزعيم) أحد المناضلين القدامى في المخيم المجاور لبلدتنا، استيقظتُ ولم أجدْ رجلي اليمنى، أخبرني أبو الزعيم أن مجموعة من المسلحين المطارَدين في الجبال سمعوا صراخا في الأحراش، فأطلقوا زخّات من رصاصهم باتجاه الصراخ، وبحثوا في المكان عن مصدر الصوت، حتى عثروا عَلَيّ طريحا مجبولا بالطين، فنقلوني إلى بيته فاقد الوعي، وأني أفقت اليوم بعد غيبوبة استمرت تسعة أيام، وأنه خَصّصَ غرفا سرية في بيته لإيواء المطلوبين، ومعالجة الجرحى ذوي الإصابات البالغة.
حضر طبيب هذا المشفى السّريّ، وقال لي:
– "جابوك هنا وكنت في حالة إغماء شديدة، وإصابات بالغة الخطورة، أعطيناك مُنوّم، غَيَّبْناك عن الحياة تسعة أيام. عينك اليمنى عالجناها، والآن رح أزيل العصبة عنها وإن شاء الله تكون سليمة وترى بها. بَتَرْنا رجلك اليمنى؛ لأنه ما ظل فيها أي أمل، الرصاصة هشّمت العظم ومزقت اللحم. الحمد لله على سلامتك".