الجمعة ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٢٥
رأيٌ في اللغة ..«8»
بقلم أيمن فضل عودة

يا شاعرَ النّيل، كم ذا ظُلمتَ!؟

في نهج التصعُب والتضييق اللّغوي لا ترحم سهام التغليط والتخطئ أبدا! فإن هي نالت من كبار الأدباء واللغويين والشعراء، أتُراها سترحم أحدا!؟ فقد نالت هذه السهام عميدَ الأدب العربيّ طه حسين، ونالت من عباس محمود العقاد وغيرهم من كبار الأدباء.

وها هو شاعر النيل حافظ إبراهيم، شاعر الوطنية وشاعر الشعب وشاعر السياسة والاجتماع وشاعر المراثي؛ ومن رثاه أمير الشعراء شوقي بقوله:

يا حافِظَ الفُصحى وَحارِسَ مَجدِها
وَإِمامَ مَن نَجَلَت مِنَ البُلَغاءِ

هو ذاته، مع ما له في البلاغة والفصاحة من مجد مؤثَّل، لم يسلم من طعن النقاد ذوي النظرة اللّغوية الضيقة ومن أصحاب الـ «قل ولا تقل»؛ فيخطئونه في أمور:

أوّلها ابتكاره لفظة «البُؤَساء» عنوانا معرّبا وضعه لرواية الكاتب «فيكتور هوغو» عنوانها بالفرنسية: « Les Misérabls»، وهذه الكلمة (البؤساء)، بالمعنى الذي أراده حافظ، هي مما يُشيح أصحاب التّزمت اللّغوي وجوههم عنها، قائلين أنها جمع تكسير خاطئ لكلمة (بائس)، فهي في هذا المعنى لم تُسمع عن العرب ولا تجوز في القياس؛ لأن صيغة (فاعِل) لا تُجمع على (فُعَلاء) – عندهم- إلا شذوذا وسَماعا. وعندهم جمع (بائس) هو (بُؤْس) أو (بُؤَّس) أو (بائسون) لا غير، أما (بؤساء) فهو جمع كلمة (بَئيس) والتي تعني: الشجاع والقوي والشديد؛ لأن صيغة (فَعِيل) بمعنى (فاعِل) عندما تأتي صفة لمذكر عاقل تجمع على (فُعَلاء) قياسا.

فهذا ما يصرح به محمد العدناني، ويضمّنه قراره التالي: «وقد أخطأ حافظ إبراهيم عندما ترجم كتاب فيكتور هوغو ووضع البؤساء عنوانا له» [معجم الأخطاء اللغوية الشائعة، (ص33) ]. ولم يكن العدناني بِدعا في هذا، فقد سبقه إليه من سبق، ولم يكن كذا الأخير فيه، فقد نقل عنه من نقل؛ ولا يزال المتشددون ينقلون هذا التصحّر والجمود اللغوي عنه وعن غيره إلى يومنا هذا، وهو ما يصنّفه البعض أنه نقل بلا روية وبلا تثبت.

استدراك أول:

قلت: لم يقدّر هؤلاء شاعرنا الجليل- في هذا السياق- حقّ قدره، وهو العالم بسَعة العربية وغزارة ألفاظها ومعانيها، مُصدِّقا قول من قال: إن اللّسان العربيّ بحرٌ لا شاطئ له. حيث يعترف حافظ على لسان هذا اللسان بهذه الحقيقة، في بيته القائل:

وسِعتُ كتابَ اللهِ لفظًا وغايةً
وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

ويزيد في ذلك تأكيدا:

أنا البحرُ في أحشائِه الدّرُ كامِنٌ
فهل سألوا الغواصَ عن صَدَفاتي

وهو العالم بمرونة اللغة ورحابة صدرها، فيقول في عَجُز بيت آخر: «فيا ليتكم تأتون بالكلمات»!

حقا، إنّ من يطفُ على سطح اللغة، ومن يأخذ بقول فريق من النحاة كأنه قرآن مُنْزَل يُتعبّد به، ويترك أقوالا غيرها، فلا يمكنُ له أن يستسيغ كلمة (البؤساء) بمعناها الذي أراده حافظ إبراهيم. أما الذي يغوص في أعماق بحر اللغة الذي لا شاطئ له، ليعمل على استخلاص درره، ويجيل النظر في أقوال النحاة على اختلاف فرقهم ومذاهبهم وآرائهم، فليس من الغريب أن يأتي بصَدَفة ولؤلؤة ثمينة كهذه، وقد كان حافظ أوّل الغوّاصين.

وقد تبعَ حافظًا أمثالُه من مَهَرَة الغواصين في محيط اللغة وعُبابها الزاخر، وهم علماء مجمع اللغة العربية المصري، ليوجّهوا ويخرّجوا هذه اللّفظة على أصول اللغة العربية ونحوها، لا لتُحسبَ في عداد الصحيح من اللغة فحسب، بل ومن فصيحها أيضا، ولتضمها معاجم اللغة الحديثة، كما يلي:

أ: «بؤساء: مف (مفرد) بائس، معدِمون أشقياء».[ المعجم العربي الأساسي، (ص 127 )]

ب: «بائِس [مفرد]: ج بائِسون وبؤَساءُ، مؤ بائسة، ج مؤ بائسات وبؤَساءُ». [معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 153)]

ت: «الصواب والرتبة: -إِنَّهم بُؤَساء [فصيحة]- إِنَّهم بائسون [فصيحة]

التعليق: يجوز جمع (فاعِل) على (فُعَلاء) قياسًا إذا دلَّ على غريزة أو سجيّة مثل: عاقل وعقلاء، أو دلَّ على ما يشبه الغريزة أو السجيّة في الدوام وطول البقاء: مثل بائس وبؤساء التي أقرَّها مجمع اللغة المصري في دورته الثامنة عشرة، وقد جاء هذا الجمع في المعاجم الحديثة كالأساسي والمنجد، كما يجوز أن يكون جمعًا لـ (بئيس) بمعنى (بائس).» [معجم الصواب اللغوي (1/ 169)]

وها هو ذا الدكتور إميل يعقوب لا يستنكف عن تصحيح كلمة (البؤساء) والذّود عنها وعن قائلها بقوله:

«وزن (فُعَلاء) يطّرد في جمع (فاعل) الدال على سجية مدح أو ذم، نحو: عاقل عقلاء ...لذلك قُل في جمع بائس: بائسون، وبؤساء.» [ معجم الخطأ والصواب، (ص 81 )]

وعليه، فقد جاء توجيه لفظة (البؤساء) على التوجيهات التالية:

1: قياسية جمع (فاعل) على (فُعَلاء) إذا دلّ على ما يشبه الغريزة والسجية في الدوام وطول والبقاء. وصفة (البائس) دلّت على ما يشبه السّجية في طول بقائها، فجاز وفقا لهذا جمعها على (البؤساء).

2: اعتبار (بئيس) بمعنى (بائس)، لمجيء (فعيل) بمعنى (فاعل) في اللغة، فتكون بؤساء جمعا لـ (بئيس) على هذا المعنى أيضا وليس على معنى الشجاع فقط؛ وذلك وفق القاعدة المطّردة بجمع (فعيل) التي بمعنى (فاعل) وصفا لمذكر عاقل على (فُعَلاء).

وأما المتشددون فلا يجوز عندهم جمع (فاعِل) على (فُعَلاء) إلا شذوذا وسماعا.

وعليه نستدرك على هؤلاء ونقول: قل في جمع (البائس): (البائسون) أو (البُؤْس) أو (البُؤَّس)، وقل: (البُؤَساء)، ولا حرج!

وأما المسألة الثانية التي خطّأ بها المتشدّدون حافظًا، فهي استعماله (ذا) بعد (كم)، في قوله:

كم ذا يكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرة العشاق

وتقول جماعة التغليط إن التركيب (كم ذا) لم يرد به سماع عن العرب ولا يسوّغه قياس؛ فهو خطأ محض!
استدراك ثانٍ:

إلا أن مجمع اللغة المصري صحّح هذا التركيب ووجهه على كون (ذا) فيه زائدة، كعادة العرب في زيادتها؛ فجاء في نصّ قرار المجمع ما يلي:

«ترى اللجنة أنه تعبير صحيح يوجه على أن (ذا) زائدة فيه، استنادا إلى ما جاء في اللسان عن ابن الأعرابي، من أن العرب تصل كلامها بذي وذا، فتكون حشوا لا يُعتَدُّ به» [ في أصول اللغة ج1، (ص 38)]

وقد ورد هذا التركيب في شعر اسماعيل منصور التميمي الضرير المتوفي سنة 306 ه، حيث قال:

يا مُعرضا بهواه
لما رآني ضريرا
كم ذا رأيتُ بصيرا
أعمى وأعمى بصيرا

واستنادا إلى هذه الحقائق صنّف الأستاذ أحمد مختار هذا التركيب (كم ذا) من فصيح الكلام. (يُنظر: معجم الصواب اللغوي، ص624)

ولذا، نستدرك عليهم من جديد، لنعود إلى ما افتتحنا به الكلام ونُعيد: «قل: كم ذا ظُلمتَ!؟ ولا حرج، وقل: كم ظُلمتَ!؟».
فيتضح من كل هذا خطأ المخطِّئين وسلامة ما ذهب إليه شاعر النيل، وليصدق فيه قول أمير الشعراء حيث رثاه بقوله:

ما زِلتَ تَهتِفُ بِالقَديمِ وَفَضلِهِ
حَتّى حَمَيتَ أَمانَةَ القُدَماءِ
جَدَّدتَ أُسلوبَ الوَليدِ وَلَفظِهِ
وَأَتَيتَ لِلدُنيا بِسِحرِ الطاءِ
وَجَرَيتَ في طَلَبِ الجَديدِ إِلى المَدى
حَتّى اقتَرَنتَ بِصاحِبِ البُؤَساءِ

وليتأكّد بعد هذا التفصيل أن حافظا ما حاد عن الصواب وما كاد، وما وقع في أبي جاد*، ولم يكن ابتكاره في اللغة كلمة (البؤساء) أو قوله (كم ذا) غفلةً من الغفلات ولا خزعبيلًا من الخزعبيلات، بل هي ألفاظ وتراكيب من نُقاخ العربية وخالصها. وليتضحَ معه سلامة نهج أهل التيسير والتوسيع اللغوي، فحريٌ بنا أن نَسْمِت (أو نَسْمُت. وكلاهما صحيح) سمتَهم ونحذو حذوهم، ليكونَ شعارنا كما كان دائما وأبدا: وسّعوا ولا تضيقّوا، يسِّروا ولا تعسّروا، بشّروا ولا تنفِّروا، ففوقَ كلِّ ذي علمٍ عليم!

* وقعَ في أبي جاد: أي وقع في باطل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى