وفاء عبد الرزاق في براحِ نصّين شعبيين..
عرفت وفاء عبد الرزاق كشاعرة غنائية شعبية منذ زمن بعيد ولديها ألبوم كامل غناه المطرب العراقي الراحل (جعفر حسن). لكني هنا أراها في نص (دعاء الفقرة) إنداحت الى المعدمين مستلهمة كلماتها الخفيفة العذبة من أمكنة المضايف والمجالس الشعبية والبيوتات العراقية التي تحوي أنواع وضروب عديدة من العامية وعروضها المختلفة، وقد لامست هنا الوجدانيات الإنسانية بكل معانيها ومعاناتها وحالاتها العاطفية والنفسية ومايخالج الضمير من الهم والسرور والكآبة والفراق وضغوط الضنك في العيش ومرارة الحياة. النص بكافة تراكيبه الفنية والمعنوية وإسلوبية البناء الأفقي والعمودي للقصيد كان في غاية الأناقة ببراحها المنفتح على سموت الكلمات الريفية المنتقاة من قبل الشاعرة وفاء، كما أن المفاهيم الغائية للنص لم تبتعد عن المألوف المتداول بين العراقيين.
صرّيت الرُبع
حدر المخدة بليل
رُبع دمعة
ورُبع ضحكة
ورُبع غصبن اسكّت بيه
ظل بشيليتي منكّع
ثيمة الإقتباس من الواقع الأخضر والماضي الذي ذبل ولم يعد عن أمهاتنا وجداتنا وكيف يخبئن النقود بطريقة ايام زمان في صرّة قماش ضئيلة أو في (الصندقجة) وأحيانا في طارف الشيلة أو حتى في الزيق عند الإستعجال. هنا وفاء تستدل على انها تتجذر في البيئة المعاشة طالما انها تريد البقاء في إطار الإبداع الملتزم والقيم الأرقى التي ضاعت بين شآبيب الزمن الأغبر. وفاء شاعرة الفصيح لكنها تحن الى عصارة اللغة المحكية والذاكرة الجمعية والمفاهيم الدارجة فتعطينا هكذا نصا شعبيا أكثر من متجاوز في تقييمه فنيا وفيما يتعلّق بمفاهيم شرح القصيد ومغزاه ووسيلته وغاياته.
عشك لاتظنه شيب اسنين
عشك الهم سجد
من شافني اتوجع
هنا الشاعرة تهرب من الإستقرار، كل شئ لديها متحرك دائما وأبدا، لاتنهل من ماء النهر مرتين، وحينما نقرؤها نرى القيم والأبعاد الرومانتيكية الحزينة النازفة والذارفة حتى الوشل، بسبب عشق هموم الفقراء أو عشق غير مألوف تسامى وترامى في ربوع الألم. ولذلك نراها ونتذكر آلام فارتر لدى غوتة الألماني، فارتر ذلك الشاب الذي أعطى تلك الأمة في ذلك الزمان الكلاسيكي العذب وحتى اليوم درسا في التضحية، درسا في الحزن الساحب لكل دمعةٍ بقيتْ في المآقي، ذلك الشاب في تلك الرواية التي ظلّت أصداءها تتناولها الأجيال لما فيها من ندمٍ وحرقةٍ على فراق حبيبٍ قد ذهب وخلّف وراءه إستحالة الرجوع.
وأدناه نص (دعاء الفقرة):
عِندچ رُبُعْ يُمَّه؟
ماعندي ييمه!
ودِرهِمَكْ هَمْ ضاع
وابنك رزق حِفَّاي
يمَّه وْجِدمه يتضرَّعْ
يتوسَّل ابْحرّْ الگيظ
بَسْ اهْجَعْ
ترفة اجدامنا والرمل مَبْضَعْ
بقميصه الشَمِسْ تتوجَّعْ
جرح الهِدِمْ ما يسمع
تَگلّي شلون يِترَگَّعْ
صَرَّيَتْ الرُبُعْ
حدرالمْخدَّة بليل
رُبع دمعة
ورُبع ضحكة
ورُبع غصبنْ اسكّتْ بيه
ظلّْ بشَيلتي مْنَگَّعْ
دمع الليل يا يُمَّه
شَرِخْ بالروح
الِحْمَه وشَرْخه يتوسَّع
قْماشَة شَيب واتْلحْفَتْ عَلَى الهامات
شَمْعْ بهامتي تولَّعْ
عِشِگْ لا تظنَّه شيب سْنينْ
عِشْگْ الهَمْ سِجَدْ
مِن شافني اتوَجَّعْ
گال ادعي،
وفتحي زيج الحيل
دعا الأم دِرِعْ،
وسْمانه صَفْ بيبان
صْرَخِتْ ربّي... ر..بّ..ي
وخِدَعني الصَوتْ
خويَطْ بصرخِتي تگطَّعْ
أحَلْفَكْ بالظُما ربّي
تراهو لحافنا المحراثْ
چَيَّمنا والجمر مَضْجَعْ
دُعاء الفقرة طَلِعْ نَخْواتْ
بَسْ شْوَي ضُوَه ويقنَعْ
ما رايد ذهب وقْصُورْ
دُعاء برحمتك يِطْمَع
نص.. كَلب فانوس
أشِدْ ضِلعْ بضِلعْ
والحَمْ بالكسورْ
مثل حايط گُوي
وابّيتْ مهجورْ
اضحك للنوايب
والقهر مستورْ
انا العنبرْ يفوحْ
بْمايْ مَفيورْ
وانا العطرْ التِجَادَحْ
عودْ وابخورْ
رِدْ غادي البَخَتْ
لَهلَكْ يَمَطيورْ
ودنّگْ مِنْ تِمُرْ
يَمْ بابي والسُّورْ
انا الگاصودْ يشكيلي
الزمَن مديورْ
أدُورْ بدِنيته
واصير چْتافْ وظهورْ
أنا چتافي گناطرْ
وعيوني اجسورْ
طَبعْهنْ مَرحبا
وفانوسهنْ نورْ
يَلمايكْ خُبَطْ يا ريج ساطور
يَلـﮔاعك ملِحْ
وبْكفُرْ ناعورْ
باسْ الشوكْ جِدْميني
لا حاذِرْ ولا محذورْ
نتحزَّمْ بالمنايا المالهنْ بابْ
ونِصيرْ البابْ
والعِتباتْ والدّورْ
من موسومية القصيد تذكرنا وفاء بالمناضل التركي (ناظم حكمت) وقوله الشهير (إذا أنت لم تحترق وأنا لم احترق /فمن ينير الدرب لللآخرين) فهنا القلب بإحتراقه كما الفانوس المحترق فيعطينا السطوع والسنا. أو مثل مصباح (ديوجين) الذي يحمله صاحبه نهارا ليعطي الإنطباع أن النهار مظلم لكثرة مافيه من جشع وأسىً وحلكة وها أنا أمشي حاملا مصباحي لأنير هذا النهار.
أنا العنبر
يفوح بماي مفيور
أنا العطر التجادح
عود وبخور
هنا نجد الشاعرة تعتد بنفسها كما حال محمد مهدي الجواهري حين يقول (كلّما حدثت عن نجم بدا/ حدثتني النفس أن ذاك أنا). الإعتداد بالنفس من شيم المعطائين البعيدين عن النرجسية وحب الذات. لذلك راحت وفاء تصف النفس المبدعة والمناضلة في سبيل الشعر والأوطان بالنعوت العراقية الصميمية التي لاتخفى عن بال أي شخص، فمن منا لايعرف الرز العنبر الذي لايزرع الاّ في العراق بنوعيته الخاصة وكيفية طبخه بيد المرأة العراقية الذواقة التي تجعل منا حين نضع أنوفنا لشميم (بخار الفوح) ترانا ننذهل ونعبر عن مدى ذائقتنا التي لايمكن أن تخيب.
انا الكَاصود يشكيلي
الزمن مديور
أدور بدنيتة
واصير جتاف وجسور
وكإن وفاء تقول (وعلى الباغي تدور الدوائر) لكنها المضحية المعطاءة كما الجسر لكل من يريد العبور الى الضفة الأخرى من الخلاص او اللحاق بالحلم الواقعي أو بحلمٍ طيفي ذات ليل هاديء. حروف القصيد تروق وتؤنس ولاتحمل الثقيل والغث. نظم يطير بنا الى الألباب وفيه النسيج والصياغة والإنبهار ولانجد أي وحشة في أغلب الشذرات ولانستطيع سوى القول أنه أكثر من متجاوز وجميل بل هو صوت صهيلٍ بارقٍ وسريع في الإنغلال الى الروح التواقة للمعرفة والشغف في ذات الأوان.
وفاء لديّها القدرة على إظهار الجمالات التي في الأشياء بكل ما تملكه من سحر فيّاض ولما لديها من فردوس بوحي بتفاحه الطازج سواء إنْ كان على شجرة القصيد أو ذلك المعفر الأرضي، أو تفاحة آدم العصية على المنال.
تبقى وفاء شاعرة من خلال هذا النص تبحث عن التوق والشوق، متحسرة، فاضحة لتلال الخديعة، تنبش ما في المجاهيل والأسرار في سبيل الحفاظ على رشاقة الوطن والحب من الأمراض والعلل التي قد تصيبهما.
وأخيرا أقول من خلال النصيين من أن النجاح الهائل للشاعرة وفاء يعزى لكونها تمتلك القدرة على صهر المعرفيات في القصيدة التي تتشكل بين ماهو خاص وعام، كما وأنها قادرة على إستخراج الصرخة التي نادى بها (برجستون)، ألا وهي صرخة (إله الحق) التي جاءت كحلٍ وسط بين الوثنية والمسيحية لنصرة المضطهدين والمعدمين وبناء عالم حر يعيش به المعدمين وعشّاق الروح والرغبة والكلمة.