

من أزمة .. تنشأ أزمة
كلما أشتدت الأزمات على العرب، بفعل خارجي أو بينيّ، تكشفت خلجاتهم أكثر خصوصاً في ما تبطنه تلك الخلجات من مفردات تظهر في الأساليب والطرائق التي يناقشون بها أمراً من أمورهم. كل أزمة، تتفتق عنها أزمة أخرى تختلف عن الأولى كونها قد تكون على ريش من نعام، بينما الأولى وسط النار فيها قاتل وقتيل، أو جارح وجريح.
المضحك، وقد يكون الضحك من بلية، أن المغبوطين من انهيار أنظمة ديكتاتورية واستبدادية، لدرجة قد يوهمون المرء أنهم وراء انهيارها، إنما يمارسون ديكتاتوريات خلال جدالهم حول مسألة الانهيار مع آخرين لهم قراءات ورؤى مختلفة، أو خلال نقاشاتهم، مثلاً لا حصراً، مسألة تغطية الإعلام للحدث.لذلك يظهر الانفصام السلوكي والفكري جلياً ومن دون أعراض، فكأن الديكتاتورية جزء من جبلّة الكثير من العرب وفي جيناتهم، تنمو وتتعاظم بنمو المصاب بها.
خلال أحداث تونس ومصر، والتي كانت فاتحة سنة 2011، أطلق الكثير العنان لشهية إبداء الآراء حول ما يحدث، وليس في الأمر ضرر ولا ضرار، لأن الإدلاء بالرأي من سمات المجتمعات المتمدنة والمتحضرة والحرة، لكن الشائن يكمن في الطريقة التي يدلي بها المرء العربي برأيه، ومن دون تعميم بالبطع. فالرأي عند العرب لا يواجه بالرأي، إنما بالسب والشتائم والاتهامات غير القابلة للتبرير. تلكم هي الحقيقة حتى لو لسعتنا، والحقيقة هذه ليست مغلفة برأي شخصي لأن لا أحد أصلاً له الحق في الإدعاء بامتلاك الحقيقة، بيد أن ثمة حقائق تنزع عنها صفة الرأي الشخصي فتصبح كقرص الشمس لا يغطيه غربال، وحتى لو أغمض المرء عينيه كي لا يراه، فإنها يصيب المغمض بشيء من توهجه.
من الطبيعي أن ينقسم الناس في رؤاهم فآرائهم حول مسألة ما، لكن من غير الطبيعي أبداً أن يصبح اختلاف الرؤى نوعاً من معارك البسوس، أو داحس والغبراء، وبعيدأ عن "بالتي هي أحسن"، وتصبح الألسن والأقلام منجنيقات تتقاذف أسوأ المفردات ضد بعضها بعضاً، إذ يدعي كل لسان أنه الصواب وعلى حق ويقين، أما غيره فكتلةٌ من الأخطاء والهرطقة ويستحق رأيه حكم الإعدام. وهذا ما تجلى جلي النهار في الجدل القائم حو الكيفية التي يغطي بها الإعلام أحداث تونس ومصر وقبلها أحداث فلسطين ولبنان والعراق..وغيرها.
إن أحد أسباب تفجر الجدل البسوسي،ولعله السبب الرئيس، هو أن العرب بغالبيتهم ما انفكوا معتادين إعلاما على قاعدة ما يطلبه المشاهدون أو المستمعون، إنهم لا يختلفون عن أمرىء يلعن إذاعة لأنها لم تبث له أغنية تروق له فيتهمها بالخيانة العظمى، ولو فعلتْ ما شاء، لصارت في نظره أم الثائرين. تلكم هي حالة الكثير من العرب مع الإعلام وطريقة عمله، فينظرون إليه على أنه إما منزّلٌ منزّه ٌ لا يخطىء، ومن مسه يصبح في ضلالة،وكل ضلالة في النار، وإما متخاذل خائن مدسوس، ومقاطعته من ضروب الجهاد. فغابت الموضوعية والعقلانية عن المجادلين أو المتجادلين، وهذا هو أصل المعركة المستعرة دوماً بين العقل والعاطفة.