
مقاهي العراق الثقافية تحولت الى مرتع لـلعاطلين
المقاهي الثقافية اماكن برزت خصوصيتها من خلال قاطنيها وروادها، فقد كانت دوماً بؤرة جاذبة للأدباء والمثقفين.
واستطاع ذلك الحيز المكاني والمؤسسة الاجتماعية الحرة والمفتوحة ان توفر الاتصال الثقافي الشفهي، الذي لا يضع ضوابط على نوعية الزبائن.
والمقاهي التي كانت حاضنة للنخب سواء على الصعيد السياسي او الاجتماعي استطاعت ان تكون منبراً بارزاً في حياة المثقف العراقي
فقد ادت المقاهي دوماً دوراً ثقافياً في العراق. فقبل دخول الراديو والتلفاز كانت المقاهي مركزاً لاقامة الحفلات الغنائيه وقراءة المقام العراقي كما كان اصحاب المقاهي حريصين على توفير الصحف اليومية والاسبوعية التي يمكن للزبون قراءتها مقابل مبلغ صغير واصبحت المقاهي مكانا لتجمع الاشخاص القادرين على التحاور والسجال في شؤون المجتمع والسياسة والثقافة.
ومنذ اوائل القرن الماضي شاعت المقاهي في بغداد والمحافظات لكنها تحولت بمرور الزمن الى مقاه متخصصة ترتاد كل واحد منها شريحة اجتماعية او ثقافية معروفة بزبائنها وانشغالاتها ومن اشهر تلك المقاهي هي مقهى التجار ومقهى البرلمان والمقهى البرازيلي، ومقهى حسن عجمي، ومقهى الشابندر والزهاوي والتي توزعت بين الرصافة والكرخ. كما شكلت مجاميع من الادباء والكتاب تجمعات ثقافية ومذاهب فنية انطلاقاً من المقاهي التي ارتادوها فمثلاً جماعة الوقت الضائع وهي جماعة فنيه ادبية تشكلت في اربعينيات القرن الماضي وكانت تضم اسماء لامعة مثل نزار سليم وبلندر الحيدري اطلقت على المقهى الذي ترتاده اسم (الواق واق) واصدرت بيانات ومجاميع شعرية وقصصية من ذلك المقهى.
وكان ارتباط المقاهي في العراق بأبرز الاسماء الادبية المعروفة حيث كانت المقاهي البغدادية تجمعات ثقافية عامرة مثلاً مقهى الزهاوي الذي كان يحمل اسم مقهى (امين) قبل ان يسمى بالزهاوي تيمنا بشاعر العراق الزهاوي الذي كان يكتب فيه سلسلة مقالاته في نقد الشعر العربي التي احدثت ضجة في الثلاثينيات من القرن الماضي وفي هذا المقهى جرت المناقشات الحادة بين الزهاوي والرصافي وهو ايضاً من عمالقة شعراء العراق.
ولم يقتصر تأثير المقاهي الثقافية على حياة الثقافة العراقية ونشأتها فحسب بل كانت المقاهي مرتعاً للادب والفن ورواده في اغلب البلدان العربية وكذلك الاجنبية. فلم ينفك ماركيز عن التحدث عن الاهمية المكانية التي كمنت وراء وعيه الثقافي والابداعي والتي تمثلت في مقهى (القطط الثلاث) في العاصمة الارجنتينية بونس ايرس.
لكن بعودتنا الى الواقع العراقي اليوم الذي يعج بالمفارقات يجد المثقف العراقي نفسه الان منعزلاً عن الحياة الثقافية.
فبعد قتل مقهى الشابندر وشارع المتنبي ومقهى حسن عجمي تلاشى بشكل تدريجي الحضور في مقهى الجماهير واغلاق شارع ابو نواس بدأت عزلة المثقفين العراقيين بقرار ليس منهم وانما تجاوب مع اكراهات الوضع العراقي الحالي
(فالاديب والمثقف العراقي يعيش مستوحداً مع نفسه فمن مكان عمله الى البيت وربما يستطيع استعادة اشباح الصخب الاجتماعي عن طريق الهاتف النقال ليس الا.ولكنه بالتأكيد لا يشعر بانه في مكانه الطبيعي فهو ضحية الدائرة المقفلة التي تدعو للاستجابة الى معطيات التدجين الاجتماعي. وان لم يستجب فيجب ان يكون متكيفا مع العزلة والتصوف الاجباري.) هذا ما قاله الفنان والمثقف العراقي فاضل محسن عن الوضع الحالي للمثقف العراقي داخل العراق ضمن الوضع المأساوي الذي يلف جميع شرائح العراق الاجتماعية ولم يكن الفنان التشكيلي المعروف قاسم السبتي بعيداً عن رأي محسن عندما حدثنا عن الوضع الثقافي الحالي في العراق ودور المثقف فيه بقوله مستهلاً بأن بغداد اصلاً عبارة عن مقهى كبير. فكانت تمتد على ضفاف نهر دجلة والفرات مئات المقاهي حيث الشعر والادب والمداولة السياسية كما كان شارع الرشيد في الستينيات يعج بالمقاهي الثقافية مثل مقهى البرازيلية ومقهى الجماهير وحسن عجمي حيث كانت تعوض المقاهي عن المؤسسة الحكومية التي كانت تغيب الانشطة الثقافية.
ويكمل السبتي حديثه عن شارع الرشيد وكيف برز من مقاهيه افضل مثقفي العراق وفنانيه بقوله: لقد كان شارع الرشيد ملتقى ثقافيا حيويا حيث كان لقاء المثقفين في مقاهي هذا الشارع التأريخي واجبا يوميا يفرغون فيه طاقاتهم الابداعية. لكن بعد الاحتلال المقيت خسر العراقيون وطنهم ثم ما تلاه من خسارة شارع ابو نواس الذي كان يعج بالقاعات الفنية مثل قاعة الاورفلي وقاعة دجله والاناء وغيرها.
اما الاديب الدكتور جواد الزيدي استاذ الفن التشكيلي في اكاديمية الفنون الجميلة جامعة بغداد فقد قال هو الاخر عن الوضع المتردي لمقاهي العراق الثقافية وهجرتها من قبل روادها بأن جميع المقاهي الثقافية التي كانت منتشرة في بغداد وكانت مرتعا للفنانين والادباء والمثقفين تحولت الى اماكن مهجورة والمثقفين لا يستطيعون دخولها لانها محرمة عليهم بسبب الخراب الامني الذي يعيشه العراق والذي يستهدف الفنانين والمثقفين العراقيين وجميع الكفاءات العراقية.
وقد تحولت المقاهي الثقافية العراقية الى محطات للعاطلين عن العمل وبعضها تحول الى محلات تجارية هذا ما اشار اليه فاضل محسن في حديثه عن المقاهي كما تحدث عن بعض المقاهي المعروفة وما آل اليها الحال الان من هجر وتردي الوضع بقوله: لقد تقسم مقهى الكسره فجزء منه اصبح محلا لتصليح السيارات وجزء تحول الى مطعم اما مقهى البيروتي الذي كان من اشهر المقاهي الثقافية فقد اغلق ابوابه منذ فترة ليست بالقصيره في حين لا يتجاوز العمل ودخول الزوار في مقهى الزهاوي ومقهى ام كلثوم سوى ساعات قليلة لا تمتد لاكثر من منتصف النهار ويضيف محسن اما مقهى الشابندر فقد اغلق بعد زرع عبوة ناسفة داخله. وبشكل عام ان المثقفين العراقيين هاجر منهم الكثير ومن بقي منهم فضل الاعتكاف في بيته بسبب تردي الوضع الحالي.