مشاهِدُ تاريخيَّة من انتحارنا الحضاريّ!
يذهب المفكِّر اللسانيّ المعاصر، وأحد وزراء التعليم العالي والبحث العلمي السابقين، (عبدالسلام المسدي)، إلى القول: «إن هناك تمويلات ضخمة لتشجيع اللهجات المختلفة، وإحياء المندثر منها، واللعب على وتر الخصوصيّات، كتكتيكٍ مرحليّ للقضاء على اللغة الأمّ أوّلًا، ثم تعميم اللغة الكونيّة الأقوى ثانيًا. لقد مثّلت اللغات الأجنبيّة في السابق عدوًّا أيديولوجيًّا، أمّا اليوم فقد أصبحت اللهجاتُ المحلِّيّة هي العدوّ الموضوعيّ. وأزعم أن اللغة العربيّة، كحامل للهويّة وضامنة لها، ما يتهدّدها هو صمت المثقّف على زحف اللهجات الذي يغزو الإبداع الثقافي. المثقف العربيّ اليوم بكلّ أسف ومرارة يتحوّل إلى متواطئ على اللغة، بقصدٍ وبدون قصد؛ وهو بالتالي متواطئ على الثقافة والهويّة الثقافيّة ومتواطئ على ذاته، ويبدأ بنفسه أوّل مشهدٍ على تراجيديَّةٍ انتحاريَّة! لقد سكتنا كمثقّفين على تلهيج الإعلام، فإيّانا أن نسكت على تلهيج الثقافة، كي لا نرى في ذلك نهايتنا المحتومة... ولا أكتمكم أن المثقّف العربيّ قد يعرف لغة أجنبيّة ويُتقنها كأهلها، ولا يعرف لغته العربيّة بالقدر نفسه. وهذا هو المطلوب تمامًا في ظلّ الكونيَّة الثقافيَّة المزعومة: أن نتحدَّث لغة واحدة، وننتمي إلى ثقافة واحدة، هي ثقافة الأقوى بالتأكيد.» [من مقالٍ له نُشر في صحيفة «الرياض»، قبل سنوات].
ومنذ توالي الانهيارات الحضاريّة، ونظرًا لعزلة بعض الشعوب الإسلاميَّة عن مراكز الإشعاع المعرفي- ولاسيما في الجزيرة العربية، التي بقي معظمها في ظلامه الدامس بعد عصره الجاهلي أربعة عشر قرنًا- وكذا لعزلة الحاكم عن الشعب، أو عُجمة السُّلطة أصلًا— إلى جانب نشوء ظروف سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة تستدعي التعبير عن هموم الناس اليوميّة، بلغةٍ حياتهم اليوميّة، وبما يُعرِّي الواقع المرفوض وينقد الحال الفاسد، ويحمل إلى المتلقِّين من الطرافة والسخرية والرمزية والغموض ما يتوخَّى به القائلون التنفيس عن مكبوتاتهم وأن يُفلت النص من عين الرقيب الرسمي ويستعصي على فهمه، [وهو ما تمثّل في زجل (ابن قزمان الأندلسي)، على سبيل المثال]— نقول إنه منذ ذلك التاريخ المريض قبل بضعة قرون، شرعتْ تلك الأوطان في تقبُّل أدبٍ ملحونٍ: كان (زجَلًا)، في الأندلس ومغرب العالم الإسلامي، ثم في مشرقه، و(مواليا)، و(قوما)، و(كان كان)، و(سِلسلة) في العراق، و(حماقيًّا)، و(حمينيًّا)، في اليمن، و(نبطيًّا) في بادية الجزيرة، و(ميجنة) في بلاد الشام، و(أصمعيّات)، في شمال أفريقيا، و(حسّانيًا) في نواحي موريتانيا، إلى غير تلك من الألوان العجيبة الغريبة، تعدَّدت مصطلحاتها والمؤدَّى واحد، شِعرٌ ملحونٌ هجينُ اللغة، يؤسِّس للُغيَّات بديلة عن العربيّة، ذات آداب لهجيّة.
ولا مراء، لدى من أراد الموضوعيّة، في أن خطورة العاميّات أنكى من خطورة اللغات الأجنبيّة؛ لأن أثر اللغات الأجنبيّة محصورٌ عادةً في شرائح معيّنة، فيما العاميّات داءٌ مستشرٍ في كلّ طبقات المجتمع، وهو داءٌ قديمٌ، ومستمرٌّ، ومتكاثف. ومعروف أن تأثير اللغات المختلفة، بعضها في بعض، بطيءٌ، وعسيرٌ، فيما تأثير اللهجات تأثيرٌ عضويٌّ، ومباشرٌ، وصميم. كما أن تأثير اللغات الأخرى قد يكون مفيدًا؛ ولطالما أفادت العربيّة من غيرها من اللغات وأَثْرَت. ولذا تظل خطورة اللغات الأجنبيّة ضعيفةً، ما لم تؤدِّ إلى تغيير الأبجديّة، أو خلخلة القانون اللغوي الخاص باللغة المقابلة. أمّا تأثير العاميَّة فمدمِّر للبنيات اللغويّة كلّها، نحوًا، وصرفًا، وكتابةً، وبلاغةً، وذوقًا. بل إن العاميَّات تمثِّل، في بعض نماذجها، أفضل الجسور لتغلغل اللغات الأجنبيَّة في حياة الناس؛ فتُمسي بذلك ذات دورٍ مزدوج التأثير على اللغة. برهان ذلك أن نشهد شغف بعض شعراء العاميَّة- عن مركَّب نقصٍ لا سبيل إلى نكرانه- باللغات الأجنبيَّة؛ حتى إن بعضهم ليُباهي الناس بنظمه الشِّعر في بعض تلك اللغات، فيما هو مُعْرِضٌ، إن لم يكن مُزْدَريًا، للغته العربية، التي كان أَولى به نظم الشِّعر بها، ما دام يمتلك تلك العبقريّة في سوق شياطين شِعره في معارج غير لغته من اللغات! وهي مفارقة دالّة على أن صاحبنا لا يحمل أدنى انتماءٍ لغويٍّ، أو وعيٍ ثقافيٍّ مبدئيٍّ، وإنما هو يغنِّي بأيّ لسان طاوعه الغناء به.
فإذا أضفنا إلى ما تقدَّمت الإشارة إليه من سلبيّات: بعضَ الحُمول الفكريّة، والمنطلقات القيميّة العطِنة، التي تنفثها اللهجات وآدابها في الدماء العربيّة اليوم، ازدادت الطينة بلَّة. بيد أنك واجدٌ من هواة التعامي عن هذا كلّه سوادًا عظيمًا، بل واجدٌ من الشعارات المرفوعة لتسويغ الاستمرار في اجترار هذا الشِّعر العاميّ وتأبيده إلى ما شاء الله، ما لا يصدِّقه عاقل. وذلك كالمحاجّة بأنه نبراس أصالتنا، وجسر الربط بين حاضرنا وماضينا، وهلمّ جرًّا من هذه الطلاءات التمويهيَّة عن حقيقة هذا الوباء المَرَضيّ، لازدراده بقضِّه وقضيضه، ولتذهب العربيّة وثقافتها إلى حيث ألقت أُمّ قشعم! تُرى مِن متى كانت: أصالتنا العربيّة كامنةً في ذلك التاريخ البائس المتخلِّف، العائد إلى عصور الانحطاط في القرون الوسطى؟! ثم مَن قال إن ماضينا، كلَّ ماضينا، ينبغي أن يكون محلّ اعتزازنا أصلًا، وأنه من الإيجابيّ ربط حاضرنا بمذود ذلك الماضي؟! إنما ربط الحاضر بماضٍ تعيسٍ كذاك انتحارٌ حضاريٌّ في حقيقة الأمر؛ من حيث هو تكبيلٌ للنفوس والعقول بتاريخٍ من الجهل والمرض والفساد، على كلّ المستويات؛ ليس الفساد اللغويّ فيه سوى المظهر اللساني لانحداره العام وتردّيه الشامل، الذي ما كُنّا لنُحسد عليه قط.
وهكذا نضلّ الطريق، نحن العرب، تحت شعاراتنا العمشاء، بين ما يَحْسُن بنا الأخذ به وما يجب أن ندعه بما حوى، وبين ما يَحْسُن أن نستحيي من ماضينا، وما يجب أن نتركه للفناء، ونُوْدِعَه التراب، بدل حمله على الهامات والظهور. نضلّ الطريق بين ما يمكن أن نَدْرُسَه أكاديميًّا، وميدانيًّا «إثنوغرافيًّا»، كحالاتٍ مَرَضيَّةٍ ماضويّةٍ، نستقي منها العِظَة، والعِبْرَة، والمعلومة الوقائيَّة، ونفيد من بعض سجلّاته التاريخيَّة والجغرافيَّة واللغويَّة، عن حقبٍ من سوء حالها لا سجلّات لها سواه، أو نستغلّه كميدانٍ حيويٍّ لإجراء حفريّاتنا اللغويَّة والأدبيَّة، مقارنةً مع تراثنا العربي، بما يضيء زوايا معتمة من ذلك التراث لغويًّا وبيئيًّا، وبين ما هو، بذاته، زادٌ صالحٌ للمستقبل، ينبغي أن نستلهمه، ونستثمره، ونبني عليه، ونحتفظ به لأجيالنا القادمة، وأن نربِّيهم على خير ما فيه، بوصفه نماذج تُحتذى من أدب أُمّتهم الرفيع. تلك معادلات طالما أخفق العرب في فكّ طلاسمها، فضاعوا، وضيّعوا تاريخهم في التناحر حولها! وذلك، للأسف، ما يحدث الآن، وبحذافيره، حتى لقد تحوَّلت النهضة العربيّة، التي كانت مرتقبةً في بدايات القرن العشرين، إلى نهضاتٍ أخرى، خلال ربع القرن الأخير تقريبًا: طائفيّة، وعاميّة، من قَبَلِيَّات جاهليّة، وبَسوسيّات قُطريّة.
ولقد أصبح المرء يلحظ، ولاسيما منذ حرب الخليج الثانية، انحدارات متوالية، وتداعيات متداعية، لا على المستوى السياسيّ فحسب، وإنما أيضًا- وتبعًا لذلك- على صعيد الثقافة والإعلام والتربية والتعليم. وحينما يتعلّق الأمر بالتعليم، سيبدو من العجب العجاب أن يكتب المتعلِّم شِعرًا عاميًّا، ويُعايش بعمقٍ هذا الازدواج الثقافيّ اللغويّ المَرَضيّ بين العامّي والفصيح! علام تعلّم إذن؟ تعلّم للوظيفة (فقط)، لا للرُّقيّ فكرًا، ولغة، وشخصيَّة، وأسلوبًا، وحضارة. وذلك ديدن تعليمنا العربيّ، أن يُخرِّج الموظَّفين، و«الشغيلة»، من الفنيِّين، فيما رؤوسهم لا صلة لها بنبض الأُمَّة، ولا بالثقافة العربيّة، ولا بهمومها الصميمة. اللهم إلّا إذا تعلّق الأمر بالمعاش، وحاجات البطون والفروج والأجساد، فعندئذٍ: أَبْشِرْ بهم؛ ستجدهم الثوريّين الأبطال في هذا المضمار. وما الأسطوانة الدارجة حول ظاهرة (أدب المتعلِّمين بالعامّية)، وأنها إنما تتمخّض عن الرسالة العظمى التي يتوخّونها لمخاطبة الشعب العامّي، إلّا أكذوبة قديمة من الأكاذيب، ما زال يجترّها المجترّون. ذلك أن الشعب العربي اليوم لم يعد ذلك المعزول، ولا الأُمِّيّ في صحرائه أو ريفه، كي يُدْلِيَ المُدلون بمثل تلك الحُجَّة البالية! بيد أنها «بلاغيّات» خطابنا التمهيديّ لانتحارنا الحضاري، كما يُدبِّجها هؤلاء!