متنفَّس عبرَ القضبان (90)
بدأت مشواري التواصليّ مع أسرى أحرار يكتبون رغم عتمة السجون في شهر حزيران 2019 (مبادرة شخصيّة تطوعيّة، بعيداً عن أيّ أنجزة و/أو مؤسسّة)؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، ودوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة بعد كلّ زيارة؛
عقّب الصديق عبد الكريم زيادة: "يعطيك ألف عافية كل الشكر والتقدير ودمت داعما ومساندا ومنبع الفرح للأسيرات والأسرى والفرج قريب إن شاء الله أخي وعزيزي حسن".
وعقّب الصديق عباس شعبان من الشتات: "ما تفعله أستاذ حسن لا يقدر بثمن. الله يعطيك الصحة والعافية لتستمر بهذا العطاء العظيم لدعم الأسيرات والأسرى وأهاليهم وجمهورهم. فأنت كالمتنفس للجميع والأمل بالفرج. حبذا لو كان بالإمكان أن يتوفر من يساعدك في هذا العمل العظيم. جعله الله في ميزان حسناتك. ألف تحية لك من القلب على هذا الجهد المبارك. والحقيقة ان الكلمات تعجز في الثناء عليك. جزاك الله خيرا. أخوكم عباس شعبان".
"حنّونِتنا"
قرّرت تأجيل فكرة التقاعد قليلاً وزرت صباح الأربعاء 25 أكتوبر 2023 سجن الدامون في أعالي الكرمل السليب لألتقي بالأسيرة حنان صالح عبد الله البرغوثي، معتقلة إدارياً، وبعد التحيّة أخذت تصوّر لي دون مقدّمات قمعة الخميس 19 أكتوبر؛ انقضّ السجّانون على الغرف في التاسعة صباحاً، رشّوا الغاز بوحشيّة وضخّوا مياه الإطفائية دون رحمة، وأخرجوا كلّ ما فيها، ولم يتركوا سوى طقم ملابس وبطانيّة، وحتى الصور العائليّة التي تزيّن الحيطان أنزلوها بوحشيّة ساديّة مؤلمة، دون مبرّر ودون سابق إنذار، وانهالوا بالضرب على البعض، ولم يأخذوا بالحسبان أنها مصابة بالسكر وزيادة الكوليسترول وتعاني من مشكلة الضغط.
حدّثتني عن العزل الجماعي، حرمانهن من الفورة والكانتينة والتلفزيون، لا "بلاطات" ولا "قماقم"، ومصادرة كلّ مقتنياتهن وأغراضهن، وقالت بحرقة: "كلّ إنجازات مرح طارتْ"!
تم عزل عطاف ثلاثة أيام فبدّلتها بمرافقة الأسيرة فاطمة شاهين والعناية بها.
قلقة على أبنائها الثلاثة في الأسر؛ إسلام وعبد الله وعناد "شهادة شرف نعتزّ بها".
أوصلت لها سلامات رائدة وإيمان، حتلنتها أن (أبو عناد) خلص زيتون وعمل 10 تنكات، انفرجت أساريرها حين خبّرتها أنّ "أسيل وضعها منيح وفيها ولد"، وابتسمت ابتسامة عريضة، رافقتها دمعة فرِحَة، حين قرأت على مسامعها رسالة كنِّتها سماح: "المهم ديري بالك ع حالك وزي ما بنعرفك صابرة وشامخة كما عهدناك حنّونتنا، بنحبك كثير، والله الدار من بعدك ولا اشي".
"قلقانة على أحمد"
بعد لقائي بحنان، أطلّت الأسيرة فاطمة بكر موسى أبو شلّال (مواليد 1982، ومعتقلة منذ 28.08.2023)، معتقلة إدارياً، وبعد التحيّة صوّرت لي قمعة الخميس 19 أكتوبر؛ رشّوا الغاز 5 مرّات، ضخّوا مياه الإطفائية بغزارة ودخلوا الغرف بهمجيّة، وأخرجوا كلّ ما فيها، وشلّحونا الأبوات بالقوّة وأخذوها.
اعتقلت على حاجز حوارة (هذا الاعتقال الأول لها)، وبعدها مباشرة تم اعتقال ابنها أحمد على حاجز زعترة (مسجون في النقب)، وهي قلقة جداً عليه.
خبّرتني عن العزل الجماعي، قطعوا الميّة السخنة، وحمّام ثلث ساعة لكلّ غرفة بمياه باردة، الأكل زفت وكل مشتريات الكانتينا صادروها، وأبقوا لكلّ أسيرة غيار واحد + فرشة + بطّانيّة واحدة، وكلّ الأغراض في المكتبة... وسكّروها، حتّى القشّاطات والمكانس أخذوها، بعطوها لساعتين وبوخذوها.
رافقت الكلبشات يداها كلّ اللقاء، على غير عادة.
يؤلمها جداً الانقطاع عن العالم الخارجي وأخباره، ولكن عزيمتها عالية وتؤمن بحريّة قريبة.
"نسيتْ اسم القطرَة"
بعد لقائي بحنان وفاطمة، التقيت بالأسيرة سماح بلال حجاوي (مواليد 1999، ومعتقلة منذ 16.05.2023، الاعتقال الأوّل)، معتقلة إدارياً، وبعد التحيّة مباشرة حدّثتني عن قمعة الخميس 19 أكتوبر؛ "مُتنا من القمعةـ عندي أزمة وضغط والغاز ذبحني"، سحبوا الكتب والأكل وحرمونا من كلّ شيء.
تصوّر، حتى الدخان اعتقلوه، أخذوا الدباديب والألعاب والأشغال اليدويّة، وكلّ الصور أخذوها وصادروها.
وفجأة تقول بغصّة: جدّدوا لي الإداري كمان 4 أشهر، خبِط لصِق، من فوق تحت.
حدّثتني مطوّلاً عن العزل الجماعي، فش لا راديو ولا تلفزيون، الحكي بين الغرف عن بُعد، "زيّ باب الحارة".
قلقة جداً على أخيها عبد الرحمن المعتقل في جحيم النقب الصحراوي.
ما حدا سائل فينا، الوحيدة اللي زارتني المحامية منى من "أطباء بلا حدود".
بدها تطمئن على أهلها، ولو عن طريق الإذاعة، وهذا أضعف الإيمان.
رغم الوجع، ترافقها ابتسامة طفوليّة وفجأة تقول: "نسيت اسم قطرة العيون"!
لَكُنّ عزيزاتي حنان وفاطمة وسماح أحلى التحيّات، الحريّة لَكُنّ ولجميع الأحرار، وكلّي أمل بلقاء قريب في فضاء الوطن.