الاثنين ٥ شباط (فبراير) ٢٠١٨
بقلم نسرين مغربي

لاعب النرد

"فما هو الانسان؟ أعجوبة من الضعف، تلف اللحظة، حجر لعب بيد الحظ،

إنعكاس للتغيير، توازن دقيق بين سخط الآلهة والكارثة"

أرسطو

يُروى أن الفيلسوف ديوجين كان يسخر بشدة من افلاطون وتلاميذه لولعهم بالتعريفات. فبلغه ذات يوم أن أفلاطون يعرّف الانسان على أنه "مخلوق بلا ريش يمشي على قدمين"، فنتف ريش دجاجة وعرضها على الملأ قائلا: هذا هو انسان أفلاطون! (بعدها أضاف أفلاطون عبارة "له أظافر مسطحة"). قياسا عليه يمكن القول بعد قراءة قصيدة "لاعب النرد" للشاعر محمود درويش: هذا هو إنسان محمود درويش "منتوف" الإرادة، تتحكم به المصادفة والحظ والأقدار. فالشاعر الذي "ملأ الدنيا وشغل الناس" يعلن في بداية القصيدة أنه إنسان بسيط ("غلبان" بالعامية المصرية)، بل ربما أقل من ذلك:

من أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
انا لاعب النرد
أربح حينا وأخسر حينا
أنا مثلكم
أو أقل قليلا...

وفي هذا مفارقة لا تخفى فمن يكتب قصيدة بادئ ذي بدء تنتفي عنه صفة البساطة، وليس هناك أفضل من نيتشه كخبير للفصل في هذه القضية، حيث يقول:

"إنها لموهبة تستحق الثناء أن تكون قادرا على تأمل نفسك بعين فنان. حتى في الآلام والأوجاع التي تلم بنا. أي ( في حالات التعب وما شابه) أن تكون لك نظرة الغورغونة، التي تحوّل كل شيء بلمح البصر إلى عمل فني: هذه النظرة من المملكة التي لا يدنو منها الألم".

فنيتشة صاحب النظرة للفن كعامل إيجابي في حياة الإنسان يعلن أن القدرة الفنية تدل على موهبة تستحق الثناء، وطبعا الإنسان العادي ليس كالموهوب.

يستهل الشاعر القصيدة بـ :

من أنا لأقول لكم
ما أقول لكم؟
وأنا لم أكن حجرا صقلته المياه
فأصبح وجها
ولا قصبا ثقبته الرياح
فأصبح نايا...

فهو يصوّر نفسه كـ "outsider" (خارج السرب)، وهذه الأبيات تحيلنا الى نيتشة (مرة أخرى) وإلى كتابه "ولادة التراجيديا" حيث يتحدث أساسا عن الإلهين أبولو وديونيسيس وهما إلها الفن. فأبولو إله النحت (الفن الأبولوني)، وديونيسيس إله الموسيقى (الفن الديونيسي). فالشاعر ليس صنيعة فن النحت (لم أكن حجرا صقلته المياه/ فأصبح وجها) ولا صنيعة فن الموسيقى (ولا قصبا ثقبته الرياح/ فأصبح نايا). كل من النحت والموسيقى يعبّران عن النفس لكن هناك فارق بينهما يشرحه امبرتو ايكو في كتابه "تاريخ الجمال":

"على الرغم من الإعتراف بقدرة الموسيقى على التعبير عن النفس, إلا أن تعريف الجمال أي "ما يُعجب وما يجذب" مقتصر على الأشكال الظاهرة للعيان. فالفوضى والموسيقى أشبه ما يكونان بالجانب المعتم للجمال الأبولوني المتجانس والظاهر للعيان، لذلك فإنهما ينتميان إلى مجال نشاط ديونيسيس. ولفهم هذه الفروقات علينا أن نتذكر أن المنحوتة من المفروض بها أن تمثل "فكرة" (وبالتالي تجعل المتفرج يدخل في عملية تأمل عميق)، بينما الموسيقى تثير العواطف الجياشة".

وبالعودة الى القصيدة فعبر نفي حالة "الصحو" العقلي الأبولوني وحالة "السكر" الديونيسي يجد الشاعر نفسه منبتّا, فهو لا يعرّف نفسه عما هو عليه إنما عما ليس هو. وهذه النقطة تتيح له تقديم نفسه كـ "لا بطل" نافيا عن نفسه تميّز الشاعر صاحب البصيرة. هذا الشدّ والجذب ما بين صورة الشاعر المتعارفة وصورة الانسان البسيط التي يعلنها جعله يموضع نفسه فيما يعرف بـ "البطل الجيد كفاية" (The good enough hero): "أربح حينا وأخسر حينا".
والامثلة كثيرة في طيات القصيدة على هذا التجاذب بين التميّز والعادية:

ولدت إلى جانب البئر
والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات
ولدت بلا زفة وبلا قابلة
وسميت باسمي مصادفة
وانتميت إلى عائلة
مصادفة
وورثت ملامحها والصفات
وأمراضها
ليس لي دور بما كنت
كانت مصادفة أن أكون
ذكرا..
كان يمكن أن لا أكون
كان يمكن أن لا يكون ابي
قد تزوج أمي مصادفة
او أكون
مثل أختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
الى أنها ولدت ساعة واحدة
ولم تعرف الوالدة..

يكثر الشاعر من ترديد مفردتي المصادفة والحظ لذا لا بأس من التعريج على لاكان لأخذ فكرة منه عن مفهوم المصادفة في علم النفس. ونجده في نظريته يعتمد على أرسطو الذي تحدث عن السببية وعلى دور المصادفة والحظ فيها. فارسطو ميّز بين نوعين من أحداث المصادفة: الأوتوماتون (automaton) والتي تدل على الاحداث التي تقع مصادفة في العالم بشكل عام، والطيخا (tyche) والتي تشير إلى المصادفة عندما تؤثر على مخلوقات قادرة على القيام بأعمال أخلاقية.

ويوظّف لاكان هذين النوعين من المصادفة للتمييز بين المصادفات العشوائية والتي تقع في منظومة الحقيقي, ويسميها الطيخا (كالنقرة على الباب التي تقطع الحلم), والأوتوماتون أي المصادفات التي تحدث نتيجة عمليات لاواعية في منظومة الرمزي (اللاوعي إجمالا). وفي القصيدة أمثلة على هذين النوعين من المصادفات:

من أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسة
ولست سوى رمية نرد
ما بين مفترس وفريسة
نجوت مصادفة: كنت أصغر من هدف عسكري
وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج

منظومة الحقيقي تفرض هذه الطيخا أي المصادفات العشوائية. اما الأوتوماتون فيمكن أن نقتفي أثره في الأبيات التالية:

كان يمكن أن لا يحالفني الوحي
والوحي حظ الوحيدين
إن القصيدة رمية نرد
على رقعة من ظلام
تشع، وقد لا تشع
فيهوي الكلام
كريش على الرمل/
لا دور لي في القصيدة
غير امتثالي لايقاعها:
حركات الأحاسيس حسّا يعدّل حسّا
وحدسا ينزّل معنى
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أناي إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسي
وحنيني الى النبع/
لا دور لي في القصيدة إلا
اذا انقطع الوحي
والوحي حظ المهارة اذ تجتهد

في هذه الأبيات يختفي الإنسان العادي ليحل محله الشاعر المميز في مختبره الشعري, فرغم أنه يعلن "لا دور لي في القصيدة" الا أنه بلاوعيه له كل الدور. والعديد من المفردات تحيل إلى هذا اللاالوعي من العتمة إلى الحدس والغيبوبة والوحي.

يفكك دريدا عبارات وردت في مسرحية هاملت أجد لها صدى في القصيدة، وبالذات الأبيات:

لا دور لي في حياتي
سوى أنني،
عندما علمتني تراتيلها،
قلت هل من مزيد؟
وأوقدت قنديلها
ثم حاولت تعديلها...
فهذه الـ "حاولت تعديلها" وراءها ما وراءها.

يتطرق دريدا الى مسرحية هاملت، وتحديدا الحوار التالي من المشهد الخامس في الفصل الأول، في الفصل الأول من كتابه "أشباح ماركس":

هاملت: أقسما!
الطيف (من الأسفل): أقسما!
هاملت: إسترح، إسترح، أيها الروح الجزع. وهكذا يا سيديّ
أحييكما مع خالص ودي
أما ما سيفعله هاملت المسكين
ليعبّر عن وده وصداقته لكما
فلن يعوزه فعله بإذن الله. لندخل سويا،
ولتبق أصابعكما على شفاهكما.
فالزمان مضطرب. يا للكيد اللعين
أن أكون أنا قد ولدت لأصلح منه اضطرابه.

هيا لنذهب معا (يخرجون)

[ترجمة جبرا إبراهيم جبرا]

ويورد دريدا النص الإنجليزي لهذا الحوار في مستهل الفصل الآنف:

Hamlet […]. Swear
Ghost [Beneath], Swear [They swear]
Hamlet. Rest, rest, perturbed Spirit! So Gentelmen,
With all my loue I doe commend me to you;
And what so poor a man as Hamlet is,
Doe t’expresse his lou and friendhip to you,
God willing shall not lacke: Let us goe in together,
Ans still your fingers on your lippes I pray,
The time is out of ioynt: Oh cursed spight,
That ever I was borne to set it right.
Nay, come lets goe together. [Exteunt]

يتوقف دريدا عند عبارة " The time is out of joint"، حيث يقول: " time هو أحيانا الزمن نفسه، بُعد الزمن للزمن، وأحيانا ما يتيحه الزمن (الزمن كالتاريخ، الظروف، الفترة الزمنية التي نعايشها، زماننا, العصر)، وأحيانا، بموجب ذلك، العالم الذي يسير بشكل طبيعي، عالمنا اليوم، يومنا هذا، أمور الساعة: المكان الذي تسير فيه الأمور على ما يرام، والمكان الذي لا تسير فيه الأمور على ما يرام، المكان الذي ذبل وتعفن.. Time: انه الزمان، لكنه أيضا التاريخ والعالم".
ويتطرق إلى الترجمات الفرنسية لهذه العبارة:

أ‌. "Le temps est hors ses gonds" [ الزمن خرج عن محوره/ خرج عن طوقه]. ويعلق على هذه الترجمة بقوله أنها ترجمة "تقنية أكثر منها ترجمة عضوية, أخلاقية او سياسية".
ب‌. " Le monde est a L’envers" [ لقد انقلب العالم]. ويقول إن انقلب قريب جدا من "ملتوي/ اعوج" والذي يبدو بدوره قريبا جدا من الأصل.

ج."le temps est detraque" [ لقد اضطرب الزمن]، ويقول أنها ترجمة جريئة.

د. "cette époque est deshonoree" [ العصر الذي أُفسد]، وهي ترجمة لأندريه جيد، ويقول إن قراءة جيد لها تتماشى مع تقليد من الإصطلاحات الذي يعطي دلالة أخلاقية بقدر أكبر لهذه العبارة.

ويضيف لاحقا أن قاموس أكسفورد الإنجليزي يقدم هذه العبارة كمثال لتصريف أخلاقي – سياسي.

(جبرا إبراهيم جبرا يترجمها على أنها "زمان مضطرب")

بعدها يسترسل دريدا في تفكيك موقف هاملت من كون الزمان "out of joint":

" هاملت يقابل بوضوح ما بين كون الزمان "out of joint" وبين كونه مستقيما سواء كان ذلك بموجب القانون أو من ناحية الاستقامة الخلقية. بل ويلعن قدره الذي جعله يولد لإصلاح (تعديل) الزمان الأعوج. فهو يلعن المهمة التي أوكلت طبعا له، هو هاملت، لتحقيق العدالة، لإعادة الأمور إلى نصابها، لوضع التاريخ، العالم، العصر، الزمان في وضعه الصحيح.. هاملت لا يلعن فساد الزمان حصرا، بالعكس، انه يلعن بادئ ذي بدء النتيجة غير العادلة لهذا الإضطراب، أي القدر الذي فرض عليه، هو هاملت، إرجاع الزمان المنخلع إلى محوره – إعادته الى الطريق المستقيمة، وضعه بين يدي القانون.. فهو يلعن معترضا على المهمة التي تجعله يعاقِب على خطيئة، خطيئة الزمان والأزمنة، أن يكون شيئا يقوّم اعوجاجا: فهو يحوّل الإستقامة والقانون (to set it right) لحركة اصلاح، تعويض، إعادة تأهيل، إنتقام، ثأر، معاقبة. إنه يلعن معترضا على هذه التعاسة، هذه التعاسة التي لا حد لها لأنها ليست إلا هو نفسه، هاملت. هاملت هو "out of joint" لأنه يلعن مهمته، يلعن العقاب المترتب على واجب إنزال العقاب، الأخذ بالثأر، إرساء العدالة وفرض القانون على شكل جزاء؛ ما يلعنه في مهمته.. بادئ ذي بدء كونها مولودة داخله، معطاة من خلال ولادته كما أنها معطاة مع ولادته. أي أنها موكلة إليه من قبل من (ما) وقع قبله، "The time is out of joint: O cursed spite, That ever I was born to set it right".

بعد هذه الإقتباسات الطويلة يمكن تتبع الخيط الذي يربط عبارة "حاولت تعديلها" بواجب هاملت إصلاح اضطراب الزمان (على حد تعبير جبرا إبراهيم جبرا): " to set it right": أي تعديل ما اعوجّ/ خرج عن محوره. فما هو هذا الإضطراب في حياة الشاعر والذي أوجب عليه محاولة "تعديلها"؟ الإجابة في طيات القصيدة، فالشاعر يفرد مساحة لا بأس بها لرضة النكبة الفلسطينية، فهي الزمان الذي خرج عن محوره واضطرب بالنسبة للشعب الفلسطني، وهو ككل فلسطيني يصعب عليه الوقوف مكتوف اليدين، موكل بأن يحاول تعديل/ تقويم هذا الإعوجاج وإعادة الأمور إلى نصابها، إنها مهمته بوصفه فقد وطنا بين عشية وضحاها ووجد نفسه مشردا في المنافي. وهذه هي برأيي الفكرة من وراء عبارة "حاولت تعديلها". فالشاعر يسهب في توصيف هذا الزمن المضطرب/ الخارج عن محوره عبر العديد من الأبيات:

كان يمكن ألا أكون مصابا
بجن المعلسقة الجاهلية
لو أن بوابة الدار كانت شمالية
لا تطل على البحر
لو أن دورية الجيش لم تر نار القرى
تخبز الليل
لو أن خمسة عشر شهيدا
أعادوا بناء المتاريس
لو أن ذلك المكان الزراعي لم ينكسر
من أنا لاقول لكم ما أقول لكم
عند باب الكنيسة
ولست سوى رمية نرد
ما بين مفترس وفريسة
ربحت مزيدا من الصحو
لا لأكون سعيدا بليلتي المقمرة
بل لكي أشهد المجزرة
نجوت مصادفة: كنت أصغر من هدف عسكري
وأكبر من نحلة تتنقل بين زهور السياج
وخفت كثيرا على اخوتي وابي
وخفت على زمن من زجاج
وخفت على قطتي وارنبي
ومشى الخوف بي ومشيت به
حافيا، ناسيا ذكرياتي الصغيرة عما أريد
من الغد – لا وقت للغد –
شمألت، شرّقت، غرّبت
أما الجنوب فكان قصيّا عصيّا عليّ
لأن الجنوب بلادي
فصرت مجاز سنونوة لاحلّق فوق حطامي
ربيعا خريفا..
أعمّد ريشي بغيم البحيرة
ثم أطيل سلامي
على الناصري الذي لا يموت
لأن به نَفَس الله
والله حظ النبي..
ومن حسن حظي أني جار الالوهة..
ومن سوء حظي أن الصليب
هو السلم الأزلي إلى غدنا

بموازاة إشارة هاملت إلى الزمان الذي خرج عن محوره، والذي رجّح دريدا كونه يحيل أيضا إلى "المكان الذي تسير فيه الأمور على ما يرام، والمكان الذي لا تسير فيه الأمور على ما يرام، المكان الذي ذبل وتعفن"، نجد الشاعر يتحدث عن "المكان الزراعي الذي انكسر"، حيث يرى لهذا الإنكسار – بين أمور أخرى – أثرا في تكوينه كشاعر، فالظروف الضاغطة تحفّز وتشحذ القريحة. كما يصف الزمان بأنه زجاجي مما يوحي بأنه قابل للكسر أيضا ("وخفت على زمن من زجاج")، بل وأكثر من ذلك فهذه اللحظة المفصلية لذبول الزمان وانكساره أجّلت الزمان نفسه: "ناسيا ذكرياتي الصغيرة عما أريد من الغد – لا وقت للغد-".

يسهب دريدا في تحليل موقف هاملت من مهمة إصلاح الزمان الذي اضطرب وخرج عن محوره ويستشهد بكلمات هاملت نفسه أنه لعن "قدره الذي جعله يولد لتعديل الزمان الأعوج". فهاملت "لا يلعن فساد الزمان حصرا، بالعكس، إنه يلعن بادئ ذي بدء النتيجة غير العادلة لهذا الفساد، أي القدر الذي أوكل اليه، هو هاملت، مهمة إعادة الزمن المنخلع إلى محوره – إعادته إلى الطريق المستقيمة، ووضعه بين يدي العدالة". فهو في موقف تراجيدي جعله تعيسا يلعن مهمة تحقيق العدالة، الاخذ بالثأر، إنزال العقوبة، وما يلعنه في مهمته حصرا "كونها مولودة داخله، معطاة عبر ولادته، معطاة مع ولادته". ولو عدنا الى الشاعر محمود درويش لوجدناه يفترق عن هاملت في هذا الأمر، اذ لا نجد لديه أي تأفف من مهمة تعديل حياته، بالعكس موقفه من الحياة إيجابي رغم كل شيء: "لا دور لي في حياتي سوى أنني،/ عندما علمتني تراتيلها،/ قلت هل من مزيد؟/ وأوقدت قنديلها/ ثم حاولت تعديلها..". في الحقيقة موقف هاملت يذكّر قليلا بموقف امرئ القيس بمقولته الشهيرة "ضيعني صغيرا، وحملني همه كبيرا"، اذ نلمس لديه هو الآخر تذمرا لكن ليس تجاه قدره المترتب على اضطراب الزمان، بل تجاه الأب نفسه بعلاقته الملتبسة به، ومع ذلك سار في مهمته حتى النهاية. أما بالنسبة للشاعر محمود درويش فنجد لديه ما يسميه نيتشة amor fati أي محبة القدر الشخصي. فرغم كل شيء فإنه لا يعلن كهاملت "الزمان مضطرب. يا للكيد اللعين/ أن أكون أنا قد ولدت لأصلح منه اضطرابه"، بل نجده متمسكا بهذه الحياة (كما أعلن : "قلت هل من مزيد؟"):

للحياة أقول: على مهلك، انتظريني
الى أن تجف الثمالة في قدحي...
في الحديقة ورد مشاع، ولا يستطيع الهواء
الفكاك من الوردة/
انتظريني لئلا تفرّ العنادل مني
فأخطئ في اللحن/
في الساحة المنشدون يشدّون أوتار آلاتهم
لنشيد الوداع. على مهلك اختصريني
لئلا يطول النشيد، فينقطع النبر بين المطالع،
وهي ثنائية والختام الأحادي:
تحيا الحياة!
اما محبة القدر الشخصي فنجد صداه في عبارة:
ربما قال: لو كنت غيري
لصرت أنا، مرة ثانية

لكن هذا لا يلغي الحس التراجيدي في القصيدة فهو "هدهد فوق فوّهة الهاوية":

كان يمكن ان لا أكون
وأن تقع القافلة
في كمين، وأن تنقص العائلة
ولدا،
هو هذا الذي يكتب هذه القصيدة
حرفا فحرفا، ونزفا فنزفا
على هذه الكنبة
بدم أسود اللون، لا هو حبر الغراب
ولا صوته،
بل هو الليل معتصرا كله
قطرة قطرة، بيد الحظ والموهبة
كان يمكن أن يربح الشعر أكثر لو
لم يكن هو، لا غيره، هدهدا
فوق فوّهة الهاوية

هذه المراوحة بين السلبي والايجابي متسقة مع اعلان الشاعر في بداية القصيدة "أربح حينا، وأخسر حينا".
إستطرادا أتوقف عند الأبيات التالية:

كان يمكن أن لا أكون مصابا
بجن المعلقة الجاهلية
لو أن بوابة الدار كانت شمالية
لا تطل على البحر

فاستكمالا للمشروع الخيميائي الذي ضمّنه الشاعر دواوينه الخمسة: "لماذا تركت الحصان وحيدا"، "سرير الغريبة"، "جدارية"، "حالة حصار"، "لا تعتذر عما فعلت" يمكن اقتفاء أثره في هذه القصيدة حيث يشير الشاعر إلى الإله هرمس/ مرقوريوس بقوله:

هو الحظ، والحظ لا اسم له
قد نسميه حدّاد اقدارنا
أو نسميه ساعي بريد السماء

فالإله هرمس رسول الآلهة كما أنه مسئول عن الحظ وتقسيم الثروات، ونسخته العربية "امرؤ القيس" (والذي إسمه تصحيف لاسم الإله مرقوريوس) كان لاعب نرد، من هنا هناك "انتسابا" بين الشاعر وامرئ القيس، فعندما قُتل حجر وصل رسوله حاملا كتابه إلى امرئ القيس، وبناء على الاصفهاني فإنه "وجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه النرد. فقال له: قُتل حجر. فلم يلتفت إلى قوله وأمسك نديمه. فقال له امرؤ القيس: إضرب. فضرب حتى إذا فرغ قال: ما كنت لأفسد عليك دستك".

بهذا الرابط يمكن فهم إتيان الشاعر على كونه "مصابا بجن المعلقة الجاهلية" فلديه انتماء إلى الشعر الجاهلي وتحديدا إلى المعلقات وبالذات إلى امرئ القيس- لاعب النرد مثله.

بدأ الشاعر قصيدته بالسؤال "من أنا" وانهاها بالسؤال "من أنا؟ من أنا؟" وبهذا اكتملت الدائرة، كما اكتملت حياة الشاعر بعد هذه القصيدة فهي آخر ما نشره في حياته وبعدها "جفت الثمالة في قدحه" على حد تعبيره، ولم يتمكن – كأي مخلوق من لحم ودم- من تخييب ظن العدم.


مشاركة منتدى

  • أرى أن أعظم مافي هذه القصيدة هو المشهد الذي يصف الشاعر فيه موته والدقائق العشرة التي يمنحها الطبيب. يقول شقيق الشاعر ان الطبيب بعد العملية خرج إليهم ليذكر ذلك انها عشرة دقاىق حاسمة ستكون الفاصلة إما أن يعيش الرجل او يموت. الطبيب كان لديه بعض الرجاء بينما درويش كان قد سبقه في القصيدة بالقول "من أنا لأخيب ظن العدم"

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى