الثلاثاء ٢٠ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم سارة عمري

في الطريق إلى المستشفى

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

خلفَ حائطِ متجرٍ متهالكٍ، شدَّ زين ذراعَه الأيسرَ الذي كاد ينخلعُ عن جسمه، رافضًا فكرة التخلِّي عنه والدخان يخنق حلقه، ففي هذا الجوِّ الذي يَنضَح بالموتِ كل ما يتذكَّره هو أنَّه كان منذ دقائقَ فقط يتجوَّل في المتجر باحِثًا عن شيءٍ يشتريه قبل أن تسقط قذائفُ أذاعت الخرابَ في كلِّ زاويةٍ من الشارع. إنَّ المستشفَى الذي يرجو بقاءَه على حالِه ليس بعيدًا جدًا فكلُّ ما يريده في هذه اللحظة هو معالجة ذراعه الشِمال التي يحتاجها ليواصل حياته، لاسيَّما وأنَّه عامل بناء كلّ ما يملكه في هذا العالم هو يديه.

بعد لحظات، توقَّفت المباني عن التهدُّمِ والسياراتُ عن الانفجار فَعمَّ هدوءٌ مثير للريبة، ورغم سطوة الدخان على الجوّ، إلَّا أنه استطاع رؤية رجلٍ يحتمي خلفَ شاحنةٍ كبيرةٍ تردَّد في الذهاب إليها، ولكنه في النهاية استجمِع شجاعَتَه وركضُ نحوها، ليصل إلى الرجل الذي صار يطيل النظرَ إلى ذراعه بوجهٍ بارد من دون أن ينبس بكلمة. بعد برهة من الزمن أشار إليه زين بالتحرُّك فانطلقا ومرَّا على عدَّة جثثٍ لأناسٍ امتلكوا جميعًا حيواتٍ وأفكارًا وأجسادًا مختلفة جَمَعَها الموت كلَّها اليوم.

خلال توقُّفهما عند أحد المباني، سألَ الرجلَ متألِّمًا:

 في رأيكَ، هل ستكون ذراعي بخير؟

تنهَّد الرجل لازمًا صمته فسأله زين بعد ثوانٍ أخرى عن وجهته لِيجيبه هذه المرة:

 إلى مكانٍ فيه أحياء.

أعلَمَه بأنه سَيَقصِدُ مستشفى غزة الخيري لِمعالجة ذراعه فَضحك الرجلُ ساخرًا، وهو ما دفعه إلى الشعور بالسخط، فهذه هي المرَّة الثالثة التي يقوم فيها هذا الشخص بتصرّف يثير حفيظته، وعندها دفعه بِعنف ممهِّدًا بذلك إلى شجار سيقع بينهما لا محالة غير أنَّه تجمَّد في مكانه بعد سماعِ صوتِ خطواتٍ تقترب لكن سرعان ما ابتعدت عنهما.

ومن جديد، ركض الاثنان خوفًا من تلك الخطوات المجهولة من دون حتى أن ينظرا إلى الوراء، ثم توقَّفا عند شجرةٍ شاهقةِ وعند أقدامهما جثة لشاب يرتدي ما تبقَّى له من بدلته الرياضية فتفحَّصه زين بعينيه وهو يبلع ريقه ويشدُّ ذراعه بقوَّة وكأنه يخشى ضياعها.

في هذه الأثناء كلَّمه الرجلُ متسائِلًا عن ما إذا كانوا هذه المرَّة من الصهاينة أو أطرافًا أخرى، فأجابه بِنبرةٍ مُضطرِبة:

 هؤلاء ليسوا مثلنا! مستحيل أن يكونوا من البشر فهم من كوكبٍ آخر أكثر فتكًا.

حدَّق الرجلُ مرَّة أخرى في ذراع زين الذي استطرد كلامه باستياء:

 لا أظنَّ أنَّ ذراعي بهذا السوء الذي تتخيَّله.

ردَّ عليه بلا اكتراث:

 أنا لا أتخيَّل بل أرى.

سادت بينهما لحظة من الصمت إلى أن أضاف الرجل:

 أعلم أنَّك خائف لكن ما حصل قد حصل، عليك فقط أن تثق بالله فهو الوحيد الذي يدرِك ما يفعله.

عجز زين عن تَمَالُك نفسه، فَصاح في وجهه ناظرًا إلى الجثة:

 ألم يكن هذا الشخص يثق به؟

 وهل تعتقد أنّك أفضل منه الآن؟ إنه لم يمت وإنَّما اِستشهد فقط!

تجاهل زين سؤاله مكتفيًا بالصمت، فتابع الآخر وقد لانَتْ ملامحه:

 هل أُخبِرك بسرٍّ؟ لقد كنتُ قبل هذه الحادثة أشكُّ في الله، أما الآن فأنا على يقينٍ من وجوده، لقد صِرتُ ببساطة أعرف هذا فقط.

قال زين بحدَّة:

 أما أنا فلم أعد متأكِّدًا من ذلك!

 بل أنتَ كذلك، ثِق بي أيضًا.

سأله خائفًا:

 ماذا عن ذراعي؟

أشار الرجلُ إلى المستشفَى الذي صار يبعد عنهما بضع خطوات، فأسرع الاثنان باتّجاهه، كان زين يشدَّ ذراعه بِقوَّة بينما يخاطبه الرجل في هدوء:

 ترفض التخلِّي عن ذراعك لكنك تتخلَّى عن الله بسهولة! أخبرتك، عليك أن تثق به مهما حدث، فنحن نثق به في الموت والحياة وهذا ما يجعلنا مؤمنين، ثم إنَّ مآل كل امرئ هو الموت لا الحياة ولاسيَّما حينما يحيا في بلاد مقدَّسة أمْرَضها الطمع مثل بلادك.

عند الوصول إلى المستشفى الذي بدا أقربَ إلى مكان خَرِب هجره أهله منذ آلاف السنين، انطلقت رصاصة من مكان ما، فإذْ بها تصيب ساق الرجل الذي وقع أرضًا في الحال. وهو ما أفزع زين الذي حاول مساعدته على النهوض لكنه عجز عن ذلك بسبب إمساكه بذراعه شبه المبتورة.

نظر إليه بحيرةٍ وهو لا يزال يردِّد الكلمات نفسها:

 ثِق به فقط فهذا ما أفعله الآن.

ومع هذا، لم يسعه في حالته فعل شيء غير تركه متوجِّهًا إلى المدخل، فقد سار نحو الباب بتثاقل وهو يصيح باكيًا:

 هؤلاء ليسوا من البشر… ليسوا منا بل من كوكبٍ آخر.

لم يظهر له أيّ شخص في الطابق الأرضي، فصعد السلالم وشفتاه ترتجفان، بعد أن وجد أنَّ المصعد معطَّل، فالكهرباء انقطعت وفرَشت المكان كلّه بالظلمة التي راح ضوء الشمس يخفِّف من حدَّتها، فلم ينفكّ عن الشعور بأنَّ دقَّات قلبه تتباطئ، وتختفي تدريجيًا، كما تملَّكه الذعر من مصادفته للعدو، إلَّا أنَّ صورة الرجل الذي تركه خلفه لم تلبث أن عادت إليه، وبشكل مفاجئ، توقَّف عن الحركة، وكأنَّ خطبًا ما أصابه، واِلتفت خلفه في صورة جعلته يبدو آلة ميكانيكة لا بشريًا، فلم يغنم من ما يراه بغير الظلام، وما هي إلَّا لحظات حتى عاد أدراجه.

أسرع في نزول السلالم والدماء تُخضِّب ذراعه المصابة، وقلبه لا يعرف غير أمنية واحدة وهي أن يعثر على الرجل في مكانه حيًا يُرزَق، وبمجرَّد أن بلغ المخرج حتى أبصره وهو على الحال التي تركه فيها من العجز والألم، فهرع إليه مبتسمًا في الوقت الذي كان يخاطبه الرجل قائلًا: «لِمَ عدتَ؟ أليس هناك أحد؟».
وهنا، أزاح زين يده أخيرًا عن ذراعه التي اعتاد أن يمسكها، ومدَّها له حتى يساعده على النهوض مُعلِنًا بسعادة:

 ليست اليد أفضل من الروح.

لم يدرك حينها سبب هذه السعادة التي تعتريه في مثل هذه اليوم المشؤوم الذي استولَت عليه روح الموت، ولكنه استمرّ في مساعدته غير مكترث لذراعه هذه المرَّة، بل وسأله بفضول وهو يقوده إلى داخل المستشفى:

 لَم تخبرني عن اسمك؟

وما إن أنهى جملته، حتى تبخَّر الرجل في الهواء، حيث كان آخر شيء شُوهِدَ على وجهه هو أساريره المنبسطة، ليختفي من دون أن يترك أثرًا له. ولم يبرح زين المكان الذي رحل فيه هذا الأخير لساعة كاملة، فقد افترش الأرض في ذهول، واستغرق في تأمُّل ما حصل معه، فلم يكن يفكّر إلَّا في شيء واحد وهو خسارة صداقة هذا الشخص المجهول الذي رحل بطريقة غريبة، ليتحوَّل في نصف الساعة الأخرى إلى التساؤل عن ما إذا كان موجودًا بحقّ.

في النهاية، وعندما كاد يفقد أعصابه، عزم على العودة إلى منزله رغم جهله بما حلّ به وبأهله، وبشجاعة لم تواته من قبل حتى في أيام طفولته الرعناء سار بهدوء في الطرقات الخالية التي ما عادت طريقًا، بابتسامة ترتسم على محياه وذراعٍ تتدلَّى من مفصلها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى