الاثنين ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٤
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

فيا للرِّجالِ لهذا العَجَب!

(قراءة في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

يُحكَى أنَّ أحد الناس سأل (جُحا):

ـ كم عدد شَعر رأسك؟

ـ 56419 شَعرة!

ـ كيف عرفت؟!

ـ إنْ لم تصدِّقني، تفضَّل عُدَّها بنفسك!

وكذا هي الأفكار الغيبيَّة التي يُحتجُّ عليها بالجهل. ولا جديد تحت الشمس، إلَّا عقولٌ نَخِرة، يعيث فيها خَرَف الإنسان البدائي، وهَوَسُه باستحضار ما لا يُستحضَر. وإذا لم ينله بكفَّيه، استعطاه بخياله الطُّفولي.

هكذا بَدَهَنا ذو القروح في مجلسنا لهذا اليوم. فقلت:

ـ أمَّا نحن، فنعلم يقينًا: كم عدد شعرات رأسك، يا (ذا القُروح)؛ فتفاعلك الحماسي لم يُبق منها شيء! المهم: ما الغريب في الخيال الغَّيبي الطُّفولي، وقد بلغ ذلك، كما أخربتنا في مساق سابق، إلى تأليه الإنسان؟

ـ أما وقد ألَّهت الأُمم الحجر والشجر والبقر، فمن باب أرقى أن تؤلِّه البَشر. مع أن (المسيح، عليه السلام) ظلَّ ينعت نفسه في الأناجيل كلِّها- لا في "القرآن" وحده- بأنَّه: "ابن الإنسان"!

ـ ما الحكاية، إذن، في تصوُّرك؟

ـ لقد أراد اليهود إبطال ما نُسِب إلى المسيح من معجزات بتعذيبه وصلبه أمام الجميع، قائلين: إنْ كنتَ كما تدَّعي، فخلِّص نفسك، يا فالح! في مقابل ذلك، اشتغل العقل الآخَر ليردَّ هذه الإهانة، فما وجد إلَّا أن قال: لا.. لا، أنتم واهمون، لم تفعلوا شيئًا، خسئتم وخبتم، إنَّما أنتم قد حقَّقتم إرادته أصلًا، وما سعَى من أجله! هو إنَّما مات فداءً من الخطيئة البَشريَّة!

ـ لكن أين خطيئة التُّفَّاحة الآدميَّة من خطيئة التُّفَّاحات الذَّرِّيَّة، التي اقترفها آدم (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)(1)، إلى جانب تُفَّاحات أصغر اقترفها في أقطار العالَم كافَّة؟!

ـ صدقت.. أين خطيئة التُّفَّاحة الفردوسيَّة من خطايا الحروب الأرضيَّة، بما فيها الحروب الصليبيَّة، والإسلامويَّة، والبوذيَّة، والشيوعيَّة(2)، والصهيونيَّة... وبالجملة الحروب الدِّينيَّة وغير الدِّينيَّة؟! وأفظع الخطايا خطايا الحروب بعد اختراع الأسلحة الناريَّة الجبانة، من الرصاصة إلى القنبلة الذَّرِّيَّة، وما بينهما من أسلحة دمارٍ شامل، بدرجات الشمول المتعدِّدة، التي تُهلِك الحرث والنسل في هذا العالم الظالم أهله؟

ـ كم مسيح يَلزم العالم للتكفير عن خطاياه المستمرَّة والمتفاقمة والمتعاظمة، بلا انتهاء؟!

ـ والخطايا بعد المسيح أفظع بما لا يقاس، وهي مِن مُدَّعي المسيحيَّة أنفسهم، وباسمها!

«فإنَّ هذه الأرمدة التي كُنَّ رِجالًا سَتُبْعَثُ من جديد

لتكون لنا نارًا يوم الدَّينونة،

ولكن مَن حَلُمَ بأنَّ المسيحَ ماتَ عبثًا؟

إنَّه يمشي من جديدٍ على بحار الدَّم، وإنَّه ليأتي في المطر الرهيب.»(3)

ـ وأخرجوا ألسنتهم لشانئيهم، صائحين: لقد قام في اليوم الثالث من الأموات ورأيناه وأكلنا معه! موتوا بغيضكم؛ فهو ليس بَشَرًا للتتحدَّوه، بل هو إله، وابن إله، وإنْ لم يدافع حتى عن نفسه، فلحكمةٍ يعلمها ولها خبيء، معناه الفداء والتكفير!

ـ هكذا تطوَّر "السيناريو" في هذا المسلسل؟

ـ هكذا.. هكذا... إنها مكايدات سياسيَّة وأيديولوجيَّة، في الأصل، خلقت دِينًا. وكثيرًا ما تخلق الصراعات التاريخيَّة أديانًا جديدة، تمثِّل ردَّات فعلٍ لتلك الصراعات.

ـ أمَّا الإسلام، فأقرَّ ببَشريَّة المسيح، وبموته ووفاته، لكنَّه نفى عمليَّة الصَّلب نفسها، بمعناها اليهوديِّ والمسيحي، وإنَّما شُبِّه إليهم، ورفعه الله إليه؛ ذلك أنَّ القتلى في سبيل الله أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون، وإنْ شُبِّه إلى الناس أنهم أموات. ليضع بهذا أقوال الفريقَين معًا، اليهود والنصارى، في سلَّةٍ واحدة، ويرميها في عُرض البحر الميِّت! وحادثة الصَّلب، إنْ صحَّت، ليست بأشدَّ من النار التي أُلقِي فيها (إبراهيم الخليل)، فكانت بَرْدًا وسلامًا.

ـ جريمة قتل، بل تعذيب ثمَّ صَلْب بشع، لمحو الخطايا!

ـ لكي تُمحَى الخطايا: لا بد من ارتكاب أبشع الخطايا على الإطلاق!

ـ خطيئة تُفَّاحةٍ واحدةٍ بخطيئة صَلْبٍ بشعةٍ لآدمي؟! أيُّ منطقٍ هنا؟ وأيُّ دِينٍ؟ وأيُّ إله؟!

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

هنا دخل علينا (أحمد بن الحُسين) من الشُّبَّاك، وهو يُنشِد:

وَيَستَنصِرونَ الَّذي يَعبُدونَ
وعِندَهُمُ أَنـَّـهُ قَد صُلِبْ
لِـيَـدفَـعَ ما نـالَـهُ عَـنـهُـمُ
فَيا لَلرِّجالِ لهذا العَجَبْ!

ـ عندهم أَنَّهُ قد كان ضحيَّةً لمحو الخطايا عن البَشر، يا (أبا الطيِّب). دعك في مدح (سيف الدَّولة) و(كافور الإخشيدي)! ليس ينقصنا المتنبئون هاهنا، يا أبا حُمَيد!

ـ إنَّ تصوُّر إلهٍ على هذا النحو، وتصويره هكذا، هو أكبر من كلِّ الخطايا، وأفظع من كلِّ الإساءات إلى الرحمن!

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

ـ أ فيظن عاقلٌ أنَّ مِثل هذا التصوُّر يليق بإلهٍ إغريقيٍّ، أو براهميٍّ، أو فرعونيٍّ، ليليق بربِّ العالمين؟! الذي "إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُن فَيَكُونُ!" أم تراه كان في حاجةٍ إلى أبناء، وإلى ضحايا، ليتخطَّى مُعضلة الخطيئة الأزليَّة، فيسدِّد لنفسه بنفسه فاتورة ما ارتكبه الإنسان من أكل التُّفَّاح القديم؟! وكيف لا يجد من أريحيَّة كرمٍ ولا عفوٍ، إلَّا بسفك دم ابنه البريء، كفَّارة؟!

ـ ماذا ترى في سيناريو هذا الفيلم؟

ـ إنَّ هذه العقليَّة التي ركَّبت الفكرة محض عقليَّة وثنيَّة، تجاوزتْها العقليَّة البَشريَّة، حتى في النظرة إلى مُلوك البَشر وطُغاتهم، غير أنَّها كانت خلال تلك العصور البائدة متساوقةً مع منطق العقليَّة الطفوليَّة في تلك الأزمنة؛ فكما كان الحاكم الذي يستحقُّ الاحترام قديمًا هو ذلك الإمبراطور الجبَّار الدَّموي، كانت آلهة الشعوب البدائيَّة كذلك. والفراعنة، على سبيل النموذج، لم يأتوا من فراغ، ولم يتفرعنوا ويتألَّهوا من تلقاء أنفسهم، بل الشعب هنالك كان عبدًا بطبيعته. كذلك كان الإله الذي يستحقُّ العبادة لدَى تلك الأُمم، هو الإله الناريُّ الأحمر، الذي يشرب الدماء، ولا يرضيه إلَّا سفكها، ولا يشفع عنده إلَّا القتل والصَّلب والحرق والضحايا البَشريَّة. فإذا أفرط من كأس رحمته، ضحَّى بابنه الوحيد، ليحلَّ هذا الإشكال العويص! لا حول ولا حلول هنالك أكثر ذكاءً وحكمةً ورحمة! لكن ما العجيب؟ ذلك تراثٌ وثنيٌّ، كان يعتقد في فكرة التضحية للآلهة بسفك الدِّماء البَشريَّة كي ترضى. وهي فكرةٌ عتيقة، معروفة في منطقة ما يُسمَّى (الشرق الأوسط) بخاصَّة.(4) ذلك أن التضحية بالأبناء والبنات للمعبود عادةٌ قديمةٌ معروفة. ولمَّا ترقَّى العقل البَشري، والسَّويَّة الأخلاقيَّة، شُويئتين، تطوَّرت الأضحية من أولاد البَشر إلى أولاد الحيوان المستأنس.

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

ـ بل الزم عقلك أنت، يا هذا! فمنبع العقل والدِّين واحد، ولا يتعارضان، ولكنَّ الناس بربِّهم وعقلهم يكفرون!

(1) عن الجرائم الأميركيَّة، في حرب (فيتنام) نموذجًا، ومواقف (نعوم تشومسكي)، يُنظَر مثلًا:
Noam Chomsky’s “Responsibility of Intellectuals” after 50 years: It’s an even heavier responsibility now:
https://goo.gl/1k581C
(2) حول الشيوعيَّة- في السِّباخ العَرَبيَّة- وأخلاقها وممارساتها، يكفي الاطِّلاع على نماذج من اعترافات الشاعر (بدر شاكر السيَّاب)، في كتابه "كنتُ شيوعيًّا"، (منشورات الجَمَل، 2007).
(3) ستويل، إديث، (2013)، ثلاث قصائد عن العصر الذَّرِّي، ترجمها: أبو غيلان بدر شاكر السيَّاب، (ضمن كتاب "من نصوص السيَّاب الأدبيَّة المترجمة")، (بغداد: وزارة الثقافة)، 104.
(4) يُنظَر كتابي: (2014)، مفاتيح القصيدة الجاهليَّة: نحو رؤية نقديَّـة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، 46.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى