فى الذكرى الخامسة لرحيله هاني الراهب مازال حاضرا
على رابية تطل على نهر الكبير الشمالي، فى قرية تبعد قرابة 20 كم عن مدينة اللاذقية تدعى (مشقيتا) هناك حيث تنتشر مجموعة من القبور المبعثرة هنا وهناك، ينتصب شاهدا قبر كتب على أحدهما (هانى الراهب).
من ذلك المكان المنسى أطلق هانى الراهب أولى صرخاته المتمردة على هذا الواقع المتردي، منه خرج إلى النور.. إلى الحياة ليبدأ مسيرته الإبداعية الطويلة التى رصد خلالها هموم ملايين الناس فى هذا الوطن الكبير، ليعود بعدها الى ذات المكان، ولكن بعد أربعة عقود من العمل المضني، ليرتاح أخيرا من صخب الحياة وهمومها، ويرقد بجانب تلك الصومعة التى طالما أحبها والتى كانت ملهما له فى كثير من كتاباته.
الفوز ل (المهزومون)
البداية كانت عام 1960 حين أعلنت دار الآداب عن مسابقة للرواية العربية اشترك فيها أكثر من مائة وخمسين كاتبا عربيا وكان هانى الراهب بين هؤلاء ولما يتجاوز عمره وقتذاك الثانية والعشرين, وكان طالبا فى جامعة دمشق.
وحدثت المفاجأة بأن فازت رواية (المهزومون) بالجائزة الأولى ليبرز الراهب كفنان يمتلك رؤيا من نوع خاص.. يمتلك حدسا بالمستقبل يقترب من النبؤة فى بعض ملامحه.
ففى المهزومون التى غلفتها نفحة من السارترية والعبثية فى آن واحد, قدم تصورا عميقا للحالة العربية التى تعانى التفكك والانعزال وتوقع سلسلة من الهزائم تبدأ بسقوط الشعارات الواهية التى كانت تطلقها الأنظمة العربية آنذاك, هذه الشعارات التى جعلها غلافا لروايته ليخبرنا عن مدى هشاشة هذه الأنظمة وشعاراتها الزائفة, وهذا ما حدث فيما بعد حيث توالت الهزائم العربية داخليا وخارجيا على نحو مأساوى مفجع.
رسمت خطا فى الرمال
واستمر الراهب فى نقد وتعرية الواقع العربى الفاسد من خلال العديد من الروايات كانت أهمها (الوباء) و (ألف ليلة وليلتان) ثم روايته الأخيرة (رسمت خطا فى الرمال) والتى تعتبر من افضل ما كتب خلال مسيرته الروائية، حيث تناول فيها الوضع العربى ككل من خلال رسمه لملامح الغزو العراقى للكويت وما تبع ذلك من احتلال الجيوش الأمريكية للكويت بذريعة حمايتها من العدو.
وقد استخدم الراهب فى هذه الرواية نفس الأسلوب الذى استخدمه فى (ألف ليلة وليلتان) حيث استعان بالتراث ليستحضر شخصيات منه و يلبسها ثوب المعاصرة ليحملها أفكاره الثائرة على الواقع، حيث نجده يسخر من الماضى والحاضر والمستقبل عبر شخصيتى بديع الزمان الهمذانى وأبو فتح الإسكندري, لنقرأ معا هذه الصورة الساخرة:
(واندهش وهتف: ماذا دهاك أيها الأخطل؟ أراك عدت الى عقلية الحجاج بن يوسف.
قلت: هات الحجاج بن يوسف وهو يهدم الكعبة فوق رؤوسهم.
قال: إما انك أسرفت فى معاقرة الخمرة أو انك استمعت الى حكاية من شهرزاد.. اقتلهم وهم الحرم الشريف؟ لدينا وسائل أرقى بكثير لعلك نسيت أننا فى القرن العشرين.
قلت: بل أنت نسيت أننا فى القرن السابع.
فنبر بصوت ودود: بئس الشعراء إذ يعاقرون السياسة, حتى انك لا تعرف أن الحجاج فتح دكانا خاصا به ولم يعد يخدمنا).
بعد ذلك ينتقل الكاتب للحديث عن الواقع العربى والتغير الذى اعتراه بعد حدوث معجزة النفط, وسعى أميركا للحصول على هذه الثروة بأى شكل, فى هذه الصورة نرى الأمريكى يخاطب ربه ويطلب منه أن يباركه فى الحرب التى سيفتعلها بين العرب للحصول على النفط منهم (ويقصد بها حرب الخليج الثانية) يقول:
(ماذا نفعل بمعجزة النفط هذه؟ هؤلاء الجمالون أنفسهم يشترون ويشترون كل مشتقات الجنس والتكنولوجيا والترف، ومع ذلك تبقى لديهم بلايين الدولارات من مشتقات النفط.. ويدعون أن هذا فضل منك، يجب أن نجد وسيلة لسحب هذا الادعاء.. البتر ودولار يهدد الدولار.
نحن يا أبي-مخاطبا الأميركى ربه- مضطرون لتصحيح أخطاء المصادفات الجيولوجية. منذ سبعة عشر عاما ومليارات البترودولار تتراكم فى حسابات الجمالين هؤلاء، إننا نجعلهم يشترون ثلث ما يشتريه العالم كله من الأسلحة ومع ذلك لا تنضب ملياراتهم.. وإذا حدث وتصالح حاكم واحد منهم مع شعبه فسنكون فى خطر, سوف لن يكون مضطرا لطلب حمايتنا ولا لإيداع دولاراته فى مصارفنا.
.. وأنا شخصيا لم أجد وسيلة لتعديل هذا الخلل المستطير فى الجيولوجيا المالية إلا أن اجعل هؤلاء الجمالين يتحاربون فيما بينهم كما كانت عاداتهم من قبل محمد, ومن ثم يطلبون المساعدة منا.
.. لأجل هذا يا أبى اعتقد انك ستمنحنى بسهولة البركة التى اطلبها لأمضى قدما فى هذه الحرب. ليتقدس اسمك. ليتعال ملكوتك كما فى السماء كذلك فى الأرض).
الحقيقة الجارحة
لقد كان هانى الراهب كاتبا استثنائيا امتلك حدسا بالمستقبل لم يرق إليه سواه, وقد ظل يتناول فى كتاباته الشأن العربى العام, لم يقارب الأدب الذاتى قط, ظل مأسورا للحالة العامة للناس..
لمآسى البشر فى طول الوطن العربى وعرضه.
أراد أن يقول الحقيقة والحقيقة فقط وقد كلفه ذلك كثيرا فيوم ترجم رواية (غبار) ليائيل دايان ابنة وزير العدو السابق أراد أن يدلنا على ما يصوره أدباء إسرائيل للإنسان العربى (الأهبل – اللاحضارى – الجبان – سلاحه خنجر الغدر لا سيف المواجهة) وكان ذلك فى بداية السبعينات، لكن قصيرى النظر فى ذلك الوقت اتهموه بمحاولة التطبيع مع إسرائيل وبناء على ذلك قام اتحاد الكتاب العرب بطرده من صفوفه, لكنه دافع عن وجهة نظره بالقول:
(علينا أن نعرف كل شيء عن عدونا حتى فى الثقافة, فهذا العدو كان وما يزال متفوقا علينا فى كل المجالات حتى فى الإبداع وإن لم نكن على الأقل فى مستواه فإننا لن ننتصر عليه).
رحم الله هانى الراهب.
مشاركة منتدى
17 تموز (يوليو) 2007, 11:33, بقلم سندباد
أحب أن أضيف شيئا مهما نساه البعض أو تعمد تناسيه، وهو أن رواية "رسمت خطاً في الرمال" انتقدت الكويت بشكل واضح ومباشر ، والجدير بالذكر أن الكاتب عاش في الكويت وكان عضوا في الهيئة التدريسية في كلية الآداب لمدة عشر سنوات منذ 1988 وحتى 1998 ، أرجو من أصحاب الضمائر اليقظة عدم تجاهل هذا الرد وأخذه بعين الاعتبار .. وصدق المثل القائل " إن شر البلية ما يضحك "
6 شباط (فبراير) 2010, 08:15, بقلم سالمة ناصر كمال الدين
حقا ان هاني الراهب مازال حاضرا ولا زلت اقرأ كتابه (رسمت خطا فوق الرمال) لعدة مرات ولا امل منه لكي اضحك وابكي وانا استعرض فصوله انه كاتب من نمط خاص عندما حصلت على روايته لم يكن لدي نقود لشرائها وهو 5 دنانير اردني وقمت بسرقتها من احدى دور النشر التي كنت اعمل بها ثم استنسختها واعدت الكتاب من اجل ان اهربها الى بغداد وذلك في عام 2002 (والكتاب المستنسخ معي الآن) أي قبل سقوط النظام وقد بحثت عنها في بغداد وقررت ان طباعتها ونشرها انها رواية واقعية في كل كلمة منها تنطق بالواقع العربي المر الذي نعيشه والا كنت نفذت امنيتي بأن اعيد نشرها وشكرا
21 أيلول (سبتمبر) 2008, 16:32
ان الراهب حاله مرضيه فقد عاش فى الكويت قرابة الاحدى عشر عاما يحمل مطارة الشاى معه... ويطلب من اصدقائه ان يوصلوه خشية ان يدفع مبلغ نصف دينار ثمنا للتاكسي علما بانه كان دكتورا بكلية الاداب
وله راتبان.
سامحه الله ورحمه
23 تشرين الأول (أكتوبر) 2008, 06:00, بقلم Manar
أقول للأخ أو الأخت صاحب التعليق الأخير" بأن الأستاذ الأديب هاني الراهب حالة مرضية"
يا أخي تدّعون الصداقة و الرحمة و الاخاء و عندما يرحل الإنسان، تحصون عيوبه و مساوءه رغم ان الانسان خطاء.." لا ترموا الناس بالحجارة اذا كانت بيوتكم من زجاج" لكن لا حياة لمن تنادي..
طوبى لمن بارك الجمال و بحث عنه اينما كان.. فلنفتح قلوبنا للرحمة و المحبة و التفكر و نترك
همجية النقد السلبي و سطحية ايجاد الاخطاء في الغير بدون دافع انساني.
17 شباط (فبراير) 2009, 14:55
حقيقة أستغرب من بعض الأخوة المعلقين إطلاق أحكام مجانية، حتى أنهم يخلطون بين الجانب الفكري والشخصي للراحل، وينسون أن المقال يتحدث عن الجانب الفكري أو لنقل التجربة الأدبية الكبيرة لواحد من أهم الروائيين في العالم العربي، أما الجانب الشخصي فهذا أمر آخر لسنا بصدده هنا، ثم دعوني أسألكم: من منا بلا أخطاء، أوكما يقول السيد المسيح (ع): "من كان منكم بلا خطأ فليرمها بحجر"، دعونا من الأحكام القيمية المجانية، نحن نتحدث عن ظاهرة أدبية ولا يهمنا الجانب الشخصي لهذا الكاتب أو ذاك.