فضة.. وذهب - قسم اثنين من اثنين
سأعبر هذا المدى
لم يكن يتكلم كثيرا فلطالما خذلته اللغة و ورَّطتهُ في لعبة الصمت الصاخب. كان يفضل أن يغسل صدأ السؤال- الذي خاتله ذات يوم- بالسباحة والقراءة على شاطئ البحر هاربا من أثاث بيتهم العتيق.. ذلك البيت الذي كان يبدو كدُمَّل حجري في خاصرة الأرض العذراء.. و لكم كان يبدو قزما، ضائعا حين يقارنه بالأفق البعيد الذي تلوح خلاله جبال زرقاء يحيق بها رذاذ كثيف فتغدو صورة شفافة لتمازج الحقيقة
و الحلم...و لقد أسَرَّ في نفسه عهدا أن يزور تلك القمم يومًا ما
..في غمرة تلك الرتابة نبت على دربه المستقيم منعرج طارئ.. التفتَ ففوجئ بوجه أبيض جاء يسكب مقلتيه في نخاريب ضجره، فتشققت حُبيبات الرمل، التي طالما وارَتْه، عن رذاذ الندى..
كانت مثله حزينة ضجرة، فاندغم الحزنان و تلاثم الضجران..
وإذ توثقت بينهما عرى المحبة أخذ يفضي ببعض حرقته لشعرها الأشقر الكتوم..
قال لها بحذلقة المُمتنّ:
– أنتِ اكتمال سحابي التائه، منذ الأزل، في شتات البدء،
و استفاقة ترابي الظامئ بعد أن راعه اغتلام النوء..
ترقرقتْ دمعتان في عينيها فارتسم على عينيه تساؤل عاتبٌ عن جدوى البكاء.. فقالت له:
– أخشى أن تنهش هذا الحلمَ عقارب الساعة!
قال لها عاتبا:
– تقاسيمك أيامي و حضوركِ زمني الوحيد، فأنتِ رقص الكواكب في إيقاع يمد لحاف اللحظة الراهنة على أخمص الماضي و جبين المستقبل فلا أمس..و لا غد!!
مالت عليه بغنج، فأرسل أطراف أنامله تجس روحها عبر سجوف الجسد..
و إذ أحس نبض الكينونة يدغدغ حواسه، قرر أن يرفع الأغطية المتبقية بحثا عن وهج الحلول.. فمد إلى شفتيها شفتين ضارعتين..
لحظـَتها..
نعق غراب في المدى..
فجفلتْ البيضاء ..
وتضاءلت بين يديه إلى حزمة من شعاع..
ثم طارت بعيدا..بعيدا..
نحو القمة الزرقاء...
هكذا تلاشت البيضاء..
وتفتتتْ في يديه فصوص البلور..
وأفلتت منه لحظة وردية كان قد خبأها –بشح المالك - بين ضلوعه..
مخلفةً على شفتيه سؤالا حامضا:
– لماذا؟
....لماذا؟؟
أسلمته الحيرة إلى إسفلت المدينة و أزقتها.. وخلال إحدى جولاته، وفي زقاق قصي معزول، صادف وجهًا أسمر أدرك حين كان يمعن النظر فيه أنه قد تورط في أمر ما.
لم يعد يذكر كيف وقف إزاءها.. ربما ناولها زجاجة عطر سقطت من حقيبتها، أو ربما أنقذها من براثن شاب كان يلاحقها..كل ما يذكره أن السمراء أعطته عنوانها
و رقم هاتفها بنبرة ذات مغزى.
في اليوم التالي هتف لها. تحادثا طويلا. علم أنها أرملة بدون أولاد تعيش وحدها، و تكبره بسنوات قليلة..
كانت سماعة الهاتف تنفث، عبر صوتها الدسم، فصوصا من الملح تـثْـقب رخام روحه الصقيلة..
طلبت منه السمراء أن يزورها في اليوم التالي..
فصّدَّع عروقـَـه اختلاج مفاجئ لم يعهدْ مثله..
بعد أن وضع سماعة الهاتف تلمسَ صدرَه بأصابع مرتعشة فألفى تحت غشائه المُزغّب نهرا ساخنا، دافقا، يخرج من صلب الشوق و ترائب اللهفة باحثا عن مسيلٍ له في تضاريس الجسد الأنثوي الأسمر.
عذبه احتقانُ النهر..
كان يجرح كلَّ ساكنٍ فيه..
توعَّدَ نهره الجارح بأنه سيضمد الجراح قريبا..
و انثنى راضيا إلى بيتهم العتيق.
في اليوم التالي طار إليها على خيط من نار. و بعد أن قرع الباب سمع وقع خطواتها السريعة قادمة، متناغمة مع نبضات قلبه، و لم تلبث أن دفعت به إلى سرير رغائبها و شدهته بأسرار الأنثى غير متمهلة ولا مستسمحة..
استقرت نظرته المحمومة على عينيها..
ثم سالت على خديها..
و انزلقت على شفتيها..
و إذ فرَغَتْ من اعتناق الذرى..
أخذت تتزحلق فوق رخام النهد العاري.. لتتأرجح على ثؤلوله اعترافا بليغا بجلال اللحظة..
وحين أدرك أنها ترقب نظرته المتيَّمة علتْه ُ حمرةٌ خفيفةٌ.. فسطتْ على روحه الخجلى، ومرّغتها في لزوجة شبقية آسرة مضمخة بفحيح الأدغال الأولى.. و لم تستأذنه، و هي الخبيرة المتمرسة، حين راحت تزرع فتوحها الإيروسية الظافرة في أعماق غيبه المهملة..
أما هو فكان معذبًا، لاهثًا، يسأل الرحمة.. و يسأل المزيد،
و لم يكن في حاجة إلى الاستجداء لأنها سبقته فعهَّرَتـْه ُ
و طهَّرَتـْه ُ بهوى صاعق، حارق.. له حدة التوابل..وطعم الحلوى..
و في لحظة أسطورية حمراء توحدت فيها أشياءُ الكون.. براكينُه و بحارُه.. أطلقا معا صيحة حادة ً واحدةً بارَكتْ تدفُّقَ النهر السجين..
و أحس هو أخيرا أن جسر رجولته قد ارتمى على ضفةٍ ما.
قالت له السمراء:
– أنت رجل عذراء
قال لها بعينين ممتنتين نصف مغمضتين:
– لم أعد كذلك.
.. و رطـَّبا بقية الأوار بندى القبل الأخيرة.
صارت له امرأة..
اعترى سُكونـَه ُ بذْخُ الجسد..
و ظلـَّلـَتْ غربَتَـه ُ أفاريزُ الأنثى..
و اقتضت منه طقوسه الجديدة أن يخيط-بحزم- فم سؤاله القديم الصدئ الذي تسلل خلسة إلى شرايينه.. فلينعم بالصمت والقيلولة.. وليخرس نعيق الكلمات !!
بعد هذه التجربة الأولى صارت له تجارب أخرى...
كان يطارد صخب الكينونة الذي صبته السمراء في أعماقه عند نساء أخريات، بعد أن مل سمراءه وملته، و لكنه كان دائما يرتطم بأجساد رخامية..
لم يستطع أن ينزع اللحاء الأملس عن مخ الروح..
كانت يداه المتوثبتان تنزلقان على السطح وتقبضان على الفراغ...
لكنه ظل رغم خيباته المتجددة يراود لغزه الآبق و يهيئ نفسه للقاء مستحيل..
و بينما كان يلهث بحثا عن عذريةٍ أضاعها، استيقظ سؤاله القديم الصدئ و دَهَمَه ُ بصريره العتيق: لماذا؟ لماذا؟!
فر من وجه السؤال.. هام على وجهه في أزقة المدن،
و دروب القرى الطينية، والغابات العذراء.. لكن السؤال ظل يطارده.. فأنّى يولي وجهه يجد رجلا بلا عينين و لا لسان ولا شفتين يطارده و يصر على صحبته..
فرّ من الوجه المسيخ إلى الحانة فطالعه في شخص الساقي..
فر من الحانة إلى المسجد فطالعه الوجه المسيخ ملتحيا واعظا..
فرّ راكضا إلى بيته، دلف إلى الحمام مسرعا، اغتسل من غبار المطاردة، وحدق في المرآة.. هاله أن يرى وجهَه بلا عينين و لا لسان و لا شفتين.
.. و استيقظ من واقعه الكابوسي على وقع عامه الأربعين،
و قد بدأت خيوط الشيب الأولى تغزو شعره...
التفت خلفه فرأى سنواته أربعين قطعة ًصدئةً، هشَّةً، متراكبةً.. في هيئة عمود مهتز، مترنح، يتوجّسُ من ضربة تأتي على قاعدته أو ثـقل يهوي على قمته..
لكنه انتـفض مصرا على عدم السقوط وصاح:
– لن أسقط.. لأنني سأطير.. نعم سأطير!!
و عاد إلى بيتهم العتيق..
_و حدق في الجبال الزرقاء البعيدة..
و تذكر عهده القديم..
_أخذ يمشي نحوها رويدا.. رويدا..
ثم شرع يعدو..
و اشتد عدْوُهُ..
أحس بجسمه يخف شيئا..فشيئا ..
نبت زغب أشقر في ذراعيه..
تكاثر الزغب..
صار له جناحان..
خفق الجناحان..
و تصاعد الجسد إلى السماء..
اخترقه الشعاع من كل الجهات..
أصبح جناحاه من نار..
و مضى بسرعة الشهاب..
.. نحو القمة الزرقاء.
فضة.. و ذهب
حدثنا أبو العلاء المعري عن أبي العلاء المعري قال:
أذكر أن أول هدية لي كانت قماطي، و شيء ذهبي وضعوه في فمي حتى لا أصيح: واعْ ! واعْ! مطالبا بقوتي اليومي.
عندما كبرت قليلا تلقيتُ صفعة بليغة، فصيحة، متقنة، مثقلة بالدروس و العبر و مواعظ الأولين.. و كان السبب الخطير الذي سوغ مثل تلك العقوبة الهينة هو خطأ نحوي عفوي في اللغة الدارجة، لكنني فوجئت بطنين الصفعة يمرق بين فصوص مخي و يستوطن نخاعي الشوكي.
حاولت أن أطرد الطنين فأخذت أتصفح الموسوعة الرسمية الأحادية الحرف ذات التجليد الفاخر و الكتابة المُذهّبة بحثا عن وصفة للطنين و مشتقاته لكنني عدت خائبا من رحلتي الأفقية تلك. لا بد من رحلة عمودية. قصدتُ بحيرة الحبر.. تعريتُ من ثيابي كلها، فالعريُ أيقون الحقيقة كما علمني موتي، و غصت في بحيرة الحبر لأتنخل من أصدافها أشبهها بقلبي
و أعلقها على نحري تميمة ضد الطنين... لكنني فوجئت بمدينة ورقية تسحبني إليها من أهداب عيني...
دخلتُ " بار التقوى" فرأيت شيخا جليلا تكسوه مهابة العارفين و كان يتوضأ من دنٍّ مترع بخمر معتقة. سلمت عليه
و صارحته بهمي:
– يا قطب العارفين! الطنين يحجب عني الطريق..
قال لي:
– لقد صار سمعي قابلا كلَّ ضجَّةٍ
طنينٌ لزيزانٍ و ثغوٌ لحملان
خرجتُ من " البار" يائسا فوجدت كهلا حكيما يمشي في رواق مستطيل و حوله تلاميذه الذين كان يُرقِّع أمخاخهم المُمزقة بإبرة المنطق. صحت به:
– أيها المعلم! الطنين يمنعني من التفكير..
قال لي:
كل صوت يمكن وقفه
الطنين صوت
إذن فالطنين يمكن وقفه
قلت: كيف؟
حدق فيَّ باحتقار.. ثم عاد إلى تلاميذه المرضى.
استأنفت بحثي عن طبيب و وصْـفة و قد بدأ اليأس يتمكن مني، ففوجئت ب" مرسو"* يصوب نحوي مسدسه الشمسي،
و كان يحجب عينيه بيده اليسرى حتى لا يراني لكن مسدسه كان يراني.
– بمْ!بمْ! قال المسدس.
.. و صحوتُ من كابوسي. كنت مستلقيا أمام بحيرة الحبر
و يدي ممسكة بالصنارة التي طال انتظارها لصيد. فجأةً اهتزت الصنارة بجذل فرفعتها بوجل، و إذا بصيدي الثمين الذي كلفني انتظارُه كابوسا بحجم عمري..رزمةُ أوراق فضية ناصعة.
لقد تمادى الطنين في وقاحته. و لهذا قررت في لحظة تاريخية أن أقهره، أو أجاريه على الأقل بصفير مواز يخفف من حدته.
شرعت في التصفير، كجندب خجول في البداية، إلا أن صفيري لم يلبث أن أصبح عويلا متهدجا، مُثقلا بذكريات حزينة لها طعم الرماد.. حين يكون الرماد بقية قلب أحرقته الأحزان.
..و تذكرت فتاتي ذات الأساور، تلك التي ظننت يوما أن القدر أرسلها إلي لتصب بياض جسدها الغض في شرايين ضجري..تذكرت ُ كيف خطرت لي فكرة عذبة فشققتُ صدري و أهديتها قلبي الفضي، الدافئ، الحنون فمطت شفتيها استهانة، واستدارت، و ذهبتْ، ولم تعد أبدا.
كان صفيري يتعالى.. يُسامق الطنين و يأخذ بخناقه.. لكنني في ذروة النشوة، حين أينع صفيري كسيف فضي يوشك أن ينغرز في حنجرة الطنين، و جدتني في قفص الاتهام أخاطب القاضي، الذي لم يكن سوى جدي السابع، بصوتي الجريح:
– لماذا أنجبت جدي الأول قبل أن تستأصل نخاعه الشوكي؟
أجابني جدي ساخرا من خلال أسنانه الذهبية:
– مهْ! أوَ أمنع عنه الرحيق و الحرير و اللبن و ولائم الجسد؟ يا لغرابة منطقك !
قلتُ محتجا:
– و لكن العلقم والقار و الشوك و الحرمان أعزُّ نفرًا..
ظللنا نتلاسن، فتحول جدلنا إلى معركة حادة بين الصفير
و الطنين غير أن قاعة المحكمة كلها تدخلت و ضمت طنينها إلى طنين القاضي فأغمي على صفيري، وكانت " الطنة" الأخيرة التي قصمت ظهره هي التي جاد بها حفيدي السابع.
.. بعد اختتام المداولات رأت المحكمة الموقرة أنني خاطئ
و مخطئ و خطأ في تسلسل السلالة، فصدر حكمها النهائي بإعدام صفيري.
جاءت مدرعة إسعاف وحملتني إلى ثكنة طبية، ثم أجريتْ لي عملية تجميلية قام خلالها الجراحون بوضع خاتم ذهبي حول حنجرتي.. بعد أن استأصلوا صفيري الفضي.
*مرسوMersault بطل رواية" الغريب" للكاتب الفرنسي العنصري
" ألبير كامي".
الصراخ
عدتُ إلى التحديق في لوحتي الأثيرة المعلقة على الجدار.. لوحة إدفارد مونش..
لم تكن اللوحة تقول شيئا محددًا بوضوح..كانت تصرخ في فراغ هلامي قاتم.. يبدو أن الأنامل التي أبدعت هذه اللوحة كانت متعبة، مرهقة من قوانين المسطرة والمدور فآثرَتْ تشردَها العفوي ذاك على استقرار زائف يربت بأستاذية على رأس يملؤه الكبت.
كانت ساذجة، بدائية القسمات، ومن سذاجتها وبدائيتها تستمد كل جمالها..
أجل، لم تكن اللوحة تقول شيئا محددا، لم تكن حِواريةً، و لهذا بالضبط كانت تقول كل شيء.
حولتُ بصري عنها إلى بقية ديكور الغرفة..إلى الثريا المنتقاة، و السجاد الفاخر، ورفوف مكتبتي الإيطالية، وكتبها ذات التجليد الفاخر... أخذ الضباب يحتضن الأشياء، ثم يأتي نحوي، يحتضن وجهي، يفتح حدقتي عينيَّ عنوةً.. ويتمطى داخلي، يبتلع نشوتي الصغيرة.. لم أعد أرى شيئا، لاذت عينايَ من خلال الضباب بجهة اللوحة.. فأخذ الوضوح يعود بالتدريج، ونفضتْ نشوتي الصغيرة عنها بقية الرذاذ.
.. عدت إلى التحديق في اللوحة، الصرخة المعلقة على الجدار..أخذ جسدي يصطبغ بألوانها الناشزة، و يتدثر بإطارها..
لكن حدقتيَّ انزلقتا فجأةً و هوتا إلى قرارة الروح إذ فتَحْتُ سهْوًا أحد أدراج الذكرى فرأيت وجوها قديمةً أغلبها عابسة صامتة، كانت تنضح كرهًا، و ترشح حقدًا.. شعرتُ باختناق شديدٍ فأقفلت الدرج بعنفٍ، و فتحت درجا آخر فرأيت وجهَ طفل تغشاه تقاسيم حزن رجولي.. أقفلت الدرج بيد ميتة، ثم اضطجعت- لأستريح من تعب انحنائي فوق أدراج الذكرى- على سرير الحلم، فرأيت على شاشة الوسادة فتى متوَرّم العروق يمسك بيده فأسا تشبه علامة استفهام ويحفر بها في أرض صلدة، ضاربا كل شبرٍ، كان يحفر..ويحفر..ويحفر علَّ السؤال يتصدّع فتتدفق الرؤيا عبر شقوقه.. لكن رنين الأرض الصلدة كان يتحدى عزيمته فيما يشبه القهقهة.. و كانت عروق يديه تزداد تورّمًا مؤْذنةً بانفجار وشيكٍ.. نهضتُ منتفضا من السرير و أعدتُ حدقتيَّ إلى وضعهما الطبيعي، ثم رحت أتأمل اللوحة الصارخة من جديد..
رأيتُ جسرا من الألوان يمتد بيني و بينها ويمتصني رويدًا.. رويدًا..
..أصبحتُ الآن داخل اللوحة تمامًا.
الرضيع و الدرس
جاءت زوجتي تحمل صينية القهوة، مجددةً ترحيبها بأمها:
– ..و كيف حال خالتي و بنات خالتي، وكيف حال جدتي العزيزة.. هل تهتفين لهن؟
– نعم. إنهن يبلغنك.. أنت وزوجك سلامهن الحار.
وضعت صينية القهوة أمام أمها، و صبت لها السائل الأسود الساخن في فنجان صغير، و وضعت ثلاث قطع من السكر في الفنجان فأمها لا تشرب القهوة إلا حلوة بينة الحلاوة.
– إممم... قهوتك كقهوة أمك يا خديجة.
ضحكت زوجتي لهذه المجاملة، والتفتت فجأة إلى صغيرها صائحة:
– سليم ماذا تفعل؟!
كان صغيري يعبث بقطع السكر و يحاول أن يبني بها شيئا ما.
نظر إلى أمه بدهشة بريئة، ثم وضع سبابته في فمه و طأطأ رأسه الصغير.
قامت جدته، حملته، وعادت إلى مجلسها واضعة إياه على حجرها و لقنته درسه الأول:
– انظر.. هكذا نفعل بقطع السكر..
و شفعت القول بالفعل سريعا.
الرقص على القمة
كنا معا في الطريق إلى القمة. كانوا ستة و كنتُ وحدي. كنتُ في المقدمة و كانوا خلفي، يتباطؤون عمدا، و يتغامزون،
و يتهامسون ضاحكين من شكل جمجمتي و مشيتي العرجاء،
و كنتُ أتلقى إبرهم بظهري.
في أحد المنعرجات قرروا التوقف. شرعوا في الغناء
و الرقص و التصفيق، و ظلوا على هذه الحال ساعة من الزمن، أما أنا فجلستُ على صخرة و كنت أحدق في القمة البعيدة.
استأنفنا السير زمنا يسيرا، فإذا بحيرة كبيرة تخطف أبصارنا بصفحتها اللامعة. ذهب الستة نحوها يعدون، ثم لم يلبثوا أن صاروا داخلها يسبحون و يتراشقون بالماء في جذل طفولي،
و حين ضجروا من لعبتهم خرجوا إلى شاطئ البحيرة و أخذوا يتلقون أشعة الشمس بأجسادهم المبتلة، أما أنا فكنتُ أحدِّقُ في صورة القمة المنعكسة على صفحة البحيرة اللامعة.
استأنفنا السير من جديد فصادفنا بعد سويعة غابة صغيرة. تسلل الآخرون بفضول إلى الغابة، و شرعوا يتسلقون أشجارها و يكسرون أغصانها الطرية، ثم أخذوا يتبارزون بتلك الأغصان، أما أنا فتسلقتُ أعلى شجرة وجدتُها، و وقفتُ على غصن سميك مستمْسِكًا بغصن آخر، أحدِّق في القمة التي كانت تتطاول على الغابة في كبرياء.
اقتربنا من القمة، كان الآخرون خلفي و قد اتسعت المسافة بيننا.. فلم تعد إبرهم تصل إلى ظهري.
وصلتُ أخيرا.أخرجْتُ من جرابي عتاد التسلق، ثم زرعْتُ أول وتد حديدي في خاصرة الجبل العذراء، و نظرتُ خلفي، كان الآخرون بعيدين جدا، لا يكادون ينقلون خطاهم إلا بجهد هائل بعد يوم حافل.. أما أنا فكنتُ هنا، أتسلق الجبل بخفة سنجاب... و بعد أن وضعت قدمي على آخر نتوء في الجبل، وثبْتُ إلى القمة، و وقـفْتُ هناك قمّةً أخرى.
شرعتُ أغني، و أصفق، و أرقص بشراسة و عنفوان...
و سُكْرٍ لا يعرفه إلا من وصل إلى هناك.
تناص
يدُسُّ رأسه في المزابل الورقية. يستنشق الحروف..ويُخرج رأسه الأجرب صائحًا، عفوا، نابحًا:
هَهَوْهَوْ هَهَوْهَوْهَوْ.. حبيبٍ و منزلِ
هَهَوْهَوْ هَهَوْهَوْهَوْ.. قليلٌ من المال*
يعشق كل المزابل، و يزهو على أقرانه بارتياده الشارع الإفرنجي الذي ألفَ بشرُهُ رائحتـَه الغريبة لكثرة ما كان يدخله و يُقعي مُحدِّقـا في برج إيفل، و برج بيزا، و تمثال الحرية مستلهما شكلها العمودي.. فيرفع رأسه الأجرب عاليا..عاليًا، ويعوي بما يخلخل السكون:
هَوْ هَوْ هَوْ عيون إلزا.. هَوْ هَوْ حكمة زرادشت.. هَوْ هَوْ هَوْ هَوْ جرنيكا..هَوْ..
الحروف تنتشر في جسمه كالدمامل.. تتساقط بسخاء من كُوى الآخرين و لا تجد إلا وبره الوسخ لتطرزه هنا.. و هناك..
هو بحاله منتشٍ، متعاظم، إلا أن الكل يعافه في قرارة نفسه و يتأذى من نباحه.. فيمطره من القلب حجرًا صَوَّانًا لا يجد طريقه إليه.. فقد اختفى الكلب في جلد أسد مستعار...
و ظل صاحبنا الفسيفسائي يمعن في غوايات الصباح والمساء، داسًّا رأسه الأجرب في المزابل الورقية، محدقا في الأبراج، صائحا، عفوا، نابحًا:
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ.. هَهَوْ هَوَوَوْ
هَوْهَوْهَهَوْ هَوَوَوْ.. فالراحلون هـُـمُ **
* في البيت عبارات من شطري بيتين مختلفين معروفين لامرئ القيس.
** بيت معروف للمتنبي وهو بتمامه:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون همُ