على صهوة الكرسي الهزاز
كانت تجلس على كرسيها الهزاز.. بجوار النخلة الباسقة ، وهي الشجرة الوحيدة الموجودة في بيتها ..
الهواء كان بارداً قليلاً ، لذا فضلت أن تتقيه( بشال) - ورثته عن أمها – رمته على كتفها...
وراحت تنعم بدفئه ...
لا حركة تقطع رهبة الصمت في هذه اللحظة… سوى اهتزاز الكرسي ، شوقا ، و ولعاً، واحتفاءاً بلحظة لم يعلن ميلادها بعد ..
لكنها ستأتي... كما الهدية.. أثيرة ، ومدهشة في آن !!!
تعودت مجاورة النخلة كل يوم.. قبل بزوغ الفجر بثواني؛ لترقب ميلاده، و تتنشق نسيم الملائكة؛ لتملأ روحها بهذا الوجود الذي أحبته...
لم تك لتفرط بلحظات التأمل هذه... لأنها دائما تثمر في نفسها الكثير...
الآن... هي أكثر سعادة ؛ لأنها تعيش الانتظار، والفرحة، والحياة الجديدة..
ويبزغ فجر بعد فجر ، وتأخذ على عاتقها تربيتي ، تربيني قبل أن تراني ، أسمعها تتلو القرآن وتقص علي منه أحسن القصص ... وأسمع أنا دقات قلبها فأصير من الشوق لرؤيتها في جيئة وذهاب..
حفظت القرآن كله وأنا في بطنها جنينا !! وحفظت كليلة ودمنة !!! وهي تقرأ وتعيد... تخاف أن أنسى ..!!! ولم تزل تقرأ وتعيد حتى ولدتني بنتا كما تمنت ..
و أشبهها في ملامحها كما تمنيت أنا.. لطالما سحرتني سمرتها العربية في سماحتها ، وأذهلتني الطيبة المكتوبة على جبينها ...
يأتي النهار، فتفتن أمي فيه ، بطلب الرزق، وطلب العلم ... وتغريد البلابل ..
وتأتي معه المهنئات لها.. والمباركات بمولدي، وبعد أن ينصرفن تقرب رأسها مني... تلثمني، وتقبلني.. تمسك بأناملي الصغيرة.. تمسحهم بصفحة وجهها.. تدفنني في أمان صدرها ، وتستمر بتربيتي وتعليمي ....
كبرت عامين… وأمي لم تزل تعطيني دروس الفضيلة، فتحممني باحترام الآخرين، وتعطرني بحب الحياة، تلبسني البياض النقي، وتحزمني بالرفض لكل نقطة سوداء مهما تكن صغيرة... ثم تفرش لي طريقا مستقيماً.. لا أحيد عنه...
أخذتني أمي الرائعة مرات ومرات إلى صديقاتها، وجيرانها، وشارعها، ودكاكينها.. إلى مدينتها كلها، وكانت كلما رأت أطفالا.. تجلسني معهم.. كي ألعب..ألهو.. لكني لا أفعل... ؟؟!!
وفي كل مرة لا أفعل....!!!
تحزن أمي وأحزن أكثر منها !! دون أن أقدر على التحدث معها.. هي تدري بأني صغيرة على الكلام ، وتدري بأني كبيرة كما الأخلاق التي وضعتها تاجاً على رأسي ...
لهذا تحزن... لكنها لا تعلم بوحدتي بأني لا أرى أحداً من حولي..!!! لا أرى إلا سواها........ وسواي !!
يبقى لديها الأمل في أن أكبر، أن أتغير، وتستمر في تربيتي و تعليمي، تقلدني المباديء ، وتفتح لي من كل ناحية بابا للفكر ...
وأكبر...!! أكبر... !!!
وتكبر معي وحدتي، فرادتي... أينما أسير لا أرى أحداً....
أصبحت كبيرة وصار بمقدور أمي.. أن تعرف ذلك مني.. عرفت، وراحت تطرق كل باب من شأنه أن يغيرني، أن يشفيني، أن يرحمني.......... دون جدوى !!!
( وجهك يا أمي يغنيني عن كل الوجوه )، قلت لها ذلك وأنا أحاول أن أخفف عنها رعشة الحزن وصدمة البكاء المر، لكنما بداخلي تحترق آلاف السنابل الذهبية حينما تتوق للرفقة، للاختناق بزحمة الأنفاس... أكبت احتراقي لأخفف عنها...
تمسكني من يدي.. وتعود بي.. إلى كرسيها الهزاز الذي تركته مذ ولدتني؛ تفرغاً لتربيتي، وتعليمي.. أخبرها كم أحب هذا الكرسي... ألومها، لأنها لم تجلسني عليه.. بعد أن ولدتني حتى هذه اللحظة... تلوم نفسها، وتضمني إلى صدرها...
حباً بي..؟ أو رأفة لحالي..؟
لا أدري..!!؟؟ ... كل ما أدريه..
أننا... أصبحنا نجلس سويا على ذلك الكرسي الهزاز... قبل بزوغ الفجر بثواني
نتنشق نسيم الملائكة ونملأ روحنا بالوجود...