ظهور الرواية العربية عند فيصل دراج
قدم فيصل دراج تصورا مفسرا لنشأة الرواية العربية مبنيا على المنطلق السوسيوثقافي،حيث رصد كل التحولات التي أسهمت في هذه النشأة،ففي حديثه عن الرواية الأوربية وظهورها يقول:"ترجمت الرواية الأوربية الصاعدة تحولات اجتماعية حاسمة،حررت الواقع المعيش من صورته اللاهوتية وحررت معه العقل الإنساني وأسئلته،ونقلت الإنسان الذي يقتات بالمقدس ويقتات المقدس به إلى وضع جديد يقاسم فيه المقدس قداسته،أو يكتفي بحياة دنيوية عارية من أطياف الخطيئة الأولى"1.
بينما الرواية العربية التأسيسية ظهرت في ظروف ملتبسة بتساؤلات التنوير والحداثة الغربية،إذ صيغ الوعي الروائي بالنظر إلى هذه المخلفات السوسيوثقافية،وبالنظر إلى"هاجس البحث عن تنوير عربي يضاهي ما عرفته أوربا إبان لحظتها التاريخية الحداثية"2،وبالتالي تم استلهام النموذج الأوربي كمرجع أساسي لمفكري النهضة،إذ العرب لم يستطيعوا اصطناع نماذجهم الخاصة بسبب ما تعرضوا له من هزائم وانكسارات حطمت آمالهم وآمال المصلحين الأوائل،كذلك بسبب انبهارهم بما أشاعه الفكر الأنواري من قيم كبرى كالحرية والروح الكونية والنزعة الإنسانية،هذا الانبهار سرعان ما اتخذ صورة الاصطدام بأمرين أو مظهرين للتحديث الغربي:صورة الاستعمار ومخلفاته،وصورة الحداثة والتقدم،وهذا التناقض سبب ارتباكا على مستوى العقل التنويري العربي وأسس مواقف متباينة،من رفض تام للمرجعية الغربية ـ التيار الأصولي ـ،إلى الانخراط في أفكاره دونما مراجعة أو مساءلة،وأخيرا إلى محاولة التوفيق بين الاتجاهين.وقد أدى التيار الثاني من خلال تبني نموذج الغرب دونما مراعاة للشروط التاريخية ومسارات التحول الطبيعي إلى إرباك مسار التقدم ،وتكريس عقلية الامتثال والمطابقة مع الفكر الغربي دونما نقد أو مراجعة.
امتثلت الرواية التأسيسية في عصر النهضة إلى هذه التحولات،وخرجت إلى أفق الممنوع تحاوره وتسائل منظوماته،مخترقة بذلك سياج الهيمنة والتسلط ومنتزعة صفة القداسة عن مقولاتها خاصة ما تعلق منها بالفكر اللاهوتي،إذ "شكل الخطابان الفكري والروائي سلاحا واحدا في وجه مؤسسة القمع بأشكالها وأنماطها كافة،لذا انطوى النص الروائي النهضوي على مقولات الحرية والعقل والتحديث"3،ومن ثمة كان تشكل الخطاب الروائي الأول خاضعا لمسار التنوير،حيث حاول تخطي سلطة البلاغة وسلطة المؤسسة الأدبية التقليدية،تأسيسا لصوت العقلانية والحرية والتقدم والمساواة،لكن ظل رغم ذلك الشكل الروائي حبيس النزعة التجريدية ،حيث غدت معه النصوص تعبيرا عن فكر تنويري خاضع لتعبئة فلسفية لأطروحات العقلانية الغربية،ومتجاوزة العقل الطبيعي الذي من المفترض أن تنشأ فيه.
يرى فيصل دراج أن الرواية تنتمي إلى زمن الحداثة الاجتماعية،حينما يتحرر الكاتب من سلطة التلقين لينشئ لغة أخرى تؤمن بالمتعدد،وتحتفي بإمكانية قراءتها دونما احتكار،إذ لا وجود للتراتبات الواهمة والحدود التي يخلقها المجتمع، لتصبح معها فعلا منتجا لا يعترف باحتكار القراءة بل بتوسعها.وفي تأسيسها زمن الرفض فإن الرواية حسب دراج تغدو قرينة الحرية والمساواة حينما ينتفي كل حكم تيوقراطي،وحينما تعود للذات الفردية الحرة دورها الريادي في زمن الواقع،وتسقط جميع السلطات والمراتب.كما يجد في رأي باختين عن حوارية المعارف المتعددة حقيقة مفسرة لنشأة الرواية،فهي"تأخذ بما قال به علم التاريخ وتهضم الوثيقة التاريخية،وتتكئ على معطيات علم النفس وتنعت ذاتها رواية نفسية،وتستند إلى معطيات علم الاجتماع وتعيد صياغتها،وتدرج في سطورها الأطروحات الفلسفية وتعيد تركيبها إضافة إلى الأسطورة وقصص الأديان.."4.ومن هذا المنطلق يحكم على الروية العربية في مراحلها المختلفة بأنها لم تلتق بهذا الزمن الاجتماعي المحتفي بحوارية المعارف المتعددة،لذلك كان وجودها هامشيا،حيث نتجت في حقل ثقافي تلقيني خاضع إلى سلطة النص الديني وإلى سلطة البلاغة التي تحاول الفصل بحكم قيمي بين ماهو دنيء وماهو نبيل،وتوجيه فعل الكتابة إلى ما يجب أن يكون لا إلى ماهو كائن "مما يجعل أسئلة البشر في حياتهم اليومية عارضة ويجعل ممن يقترب من أسئلة الحياة صحفيا مارقا،لا يعرف اللغة الجوهرية ومقامات الذين يستظهرونها"5.إن هذا الرأي نفي لصفة الروائية عن الكثير من النصوص المنتجة آنذاك،وتغييب للحراك الثقافي الحقيقي المسهم في بلورة الرواية العربية وإنتاجها.
يرى دراج أن الرواية تحتفي بديمقراطية القراءة،وشرطها الأساسي وجود جمهور مجتمعي يكسر حدود الاحتكار والسيطرة التي تمارسها السلطة الدينية والاجتماعية.ويعود إلى السياق العام الثقافي والاجتماعي الذي ولدت فيه الرواية،فيجد أنها اتصلت أساسا بالتنوير العربي بل وبشرت به وهذا ما جعلها معوقة،ويقول في هذا الصدد:"لم تنحرف الرواية العربية الوليدة عن النص التنويري العام الذي تنتمي إليه.فقد سلكت سبله وأخذت بما يؤخذ،فاتخذت من ذاتها قناعا مرسلة بوجهها الحقيقي إلى مكان آخر،حدوده الحرية والاستبداد"6.إن الرواية العربية بحسب هذا المنظور جاءت مبشرة بقيم الحرية،منشغلة ببعدها الاصلاحي أي"رواية تنوير".ويشترط دراج لظهور الرواية إشاعة جو ديمقراطي يسوده الحوار والتبادل الحر،وتتراجع فيه كل أشكال التلقين والاستظهار لتفسح المجال للتعدد والاختلاف،ونظرا لغياب أو تغييب المجتمع الديمقراطي والدولة أو السلطة الديمقراطية يجد الناقد أنه لا وجود للرواية العربية،"بسبب أحادية وعقم الحقل الثقافي والمعرفي الذي تتحرك فيه"7،ومن هذا المنطلق يتضح أن الرواية العربية لم تنشأ وفق شروطها المفترضة،بل أعيقت بسبب وجود الرقابة،وضمن زمن الكفاح ضد الاستعمار.
إن شروط الكتابة الروائية تفترض وجود مجتمع يؤمن بالحرية،ومن هذا المنطلق يتضح أن الرواية العربية ونظرا لتطورها في حقل ثقافي ومعرفي معوق على حد تعبير دراج،كانت تعبيرا عن حداثات اجتماعية سمتها التشوه،وانعكاسا لواقع أو لمجتمع لا ديمقراطية فيه،بل كانت احتجاجا على هذا الوضع المتأزم.من المنطلق السابق وجد دراج أن حديث عيسى بن هشام استجاب لأدوات وخصوصيات الرواية الوافدة،كما كان في الوقت ذاته مسكونا بهاجس التغيير الذي احتملته العلاقات الاجتماعية،"فروائية حديث عيسى بن هشام لا تكتسي طابعها من قدرة على توظيف العناصر الجمالية فحسب،وإنما من خلال مساءلة الأوضاع الاجتماعية والثقافية،وإعادة النظر في الهياكل والأنماط التقليدية التي تحول دون تحقيق التحول،ومن ثمة تقف في وجه الكتابة الروائية نفسها.."8.يحيل هذا الرأي إلى السياق الثقافي في نفيه صفة الروائية عن الكثير من النصوص،حيث يتم تغييب الأسباب الحقيقية التي أسهمت في ظهور هذا النوع الجديد،أو كما بين عبد الله إبراهيم في"تراكم المسلمات الثقافية التي أشاعها الخطاب الاستعماري ،يختزل الوعي الخاص بتاريخ الأدب السردي العربي الحديث"9،ومن ثمة يكون التسطيح بسبب الاعتماد على المعيارية الحادة المستعارة من الآخر،وهذا ما يطرح أمامنا إشكالية استيراد الرؤى النقدية واختزالها لتساير هذا المنظور المنتقص للذات.
في"الرواية وتأويل التاريخ" لم يرتهن دراج إلى نظرية محددة للرواية،بل فضل النفاذ إلى معنى الرواية وكيفية تشكلها عربيا،وقد اشتغل الناقد في هذا الكتاب على المقارنة بين كيفيتين:الأولى كيفية تناول المؤرخين للوقائع في البلدان العربية،والثانية كيفية تناول الروائيين لهذا التاريخ،وتقوم الكيفيتان على اعتبار أن الرواية ذاكرة المقموعين،إذ تكتب الحياة الاجتماعية من قبل هذه الفئة التي لا تحسن الكتابة،ومن ثمة يكون جوهر العمل الروائي الإجابة عن السؤال:ماهو الإنسان؟،وحسب ما وجده جورج لوكاتش فإن الرواية تنفلت من الأفق السلطوي على اعتبار إن التاريخ يكتبه الأقوياء أو المنتصرون،حتى تزور الأمكنة المهملة والمنسية أو اللحظات التي همشها المؤرخون،لحظات المستضعفين،ومن ثمة كان دور الروائي تصحيح كتابات المؤرخين وذكر ما همشوه.
ولدت الرواية إذن في صراع مع الثقافية المهيمنة ،وعلى هذا الأساس حاول دراج أن يجد علاقة بين التاريخ الروائي والتاريخ العربي الثقافي،لكن ألا نلحظ أن بعض الروايات العربية تنزع إلى النخبوية بلجوئها إلى لغة الاختصاص؟هل الرواية العربية حقا كتبت تاريخ المضطهدين والمهمشين؟.
إن ما يلفت الانتباه اعتماد فيصل دراج على البرهنة عن أفكاره تطبيقا،وذلك من خلال استعانته بالكثير من الأدلة،كما أنه اعتبر الرواية ملجأ للحرية بدفاعها عن هذه الفئات التي تعيش في حدود التهميش،عكس التاريخ الذي لا يكتب إلا عن الأقوياء وما تريده سلطتهم،لكن هل هذا الأمر متحقق في الرواية العربية؟هل هي منجز معبر عن الذوات التي أنهكها الاضطهاد؟.
إن انطلاق دراج من البعد السوسيوثقافي في تفسير الظاهرة الروائية ينفي عن الرواية العربية فعاليتها،إذ تمظهرت بشكل الواقع المنتج فيه،ونظرا لتغييب شروط الكتابة الروائية تحولت إلى مكون هامشي ومعزول،ذلك لأن الحقل الثقافي العربي غير روائي ولأن الرواية تطورت بمعزل عن المجتمع.والملاحظ في كتابات دراج أنه بقدر سعيه لإسقاط الظواهر الإبداعية في سياقها،من خلال معالجة ظهورها بالنظر إلى المنظور السوسيوثقافي إلا أنه لم يستطع التحرر من المرجعية الغربية،إذ إن الحكم بوجوب تبني النموذج الغربي والخضوع لنفس شروطه التاريخية حتى تكون للرواية العربية مكانة هو حكم مطلق واعتقاد جازم بصلاحية هذا النموذج،على اعتبار أن لكل مجتمع نموذجه ومعاييره وتحولاته،والقول بخلاف ذلك فيه قضاء على صفة التعدد والحرية والخصوصية...
الهوامش:
1ـ فيصل دراج:الرواية وتأويل التاريخ،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت، ط1،2004. ص12.
2ـ فيصل دراج:الرواية والرواية العربية،المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء،ط2،2002..ص146.
3ـ المصدر نفسه.ص148.
4ـ المصدر نفسه.ص151.
5ـ المصدر نفسه.ص156.
6ـ عبد الوهاب شعلان:الرواية التأسيسية وأطرها،مجلة كتابات معاصرة،العدد76، بيروت/لبنان،أيارـ نيسان2010 .ص6.
7ـ المرجع نفسه.ص8.
8ـ المرجع نفسه.ص10
9ـ عبد الله إبراهيم:السردية العربية الحديثة. ،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء/بيروت، ط1،2003.ص117.