الأربعاء ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم لطفي زغلول

ظاهرة المسلسلات المكسيكية

أصبحت المسلسلات المكسيكية الدرامية الناطقة باللغة العربية "المدبلجة" ظاهرة متكررة جسدتها قنوات فضائية وارضية ومحلية عربية عديدة تدخل البيوت العربية وتستقطب حولها مشاهدين ومشاهدات من كل الفئات العمرية والشرائح الثقافية والاجتماعية المختلفة . ومنذ ان بدأ البث الفضائي العربي ، فقد لوحظ انه ما من مسلسل مكسيكي درامي ينتهي الا ويتبعه آخر ، وان ما لا يقل عن عشر قنوات فضائية عربية تبث بصورة دائمة مثل هذه المسلسلات التي اصبحت على ما يبدو جزءا لا يتجزأ من خططها البرامجية .

وقبل الخوض في هذه المسلسلات نورد هنا على سبيل التذكير ان المكسيك هي دولة تقع في اميركا الشمالية ، وهي من مجموعة دول اميركا اللاتينية ، وتصنف بانها دولة نامية من دول العالم الثالث ، واهلوها خليط من السكان الاصليين والغزاة الاسبان الذين استوطنوها وحكموها الى ان استقلت عن اسبانيا . وجذورها الثقافية وكذلك اللغة الدارجة فيها اسبانية وهي اللغة الاصلية لهذه المسلسلات التي اصبحت ناطقة بالعربية بعد الدبلجة .

والحقيقة التي نود ان نستهل بها حديثنا في هذا الصدد ، انه ما من حائل يحول دون اطلاع المواطن العربي على ما لدى الآخرين من فعاليات ثقافية وابداعية سواء كان ذلك رواية او مسرحا او شعرا او اية فنون اخرى . ولكن وبطبيعة الحال فانه يفترض ان تكون هناك معايير واسس وتحفظات لاختيار مثل هذه الفعاليات ، لا ان يترك حبلها على غاربه ، ولا ان تكون خاضعة فقط لمزاجات من يختارونها واهوائهم .

ان الموضوع برمته يحتم ان تكون هناك جهة او هيئة مختارة تمثل شرائح ثقافية واجتماعية وتربوية وفنية مختلفة يناط بها مهام الاختيار على اسس يفترض ان لا تتناقض واتجاهات القيم العامة السائدة في المجتمع العربي ، ولا ان تخرج عن الاطارين القومي والايديولوجي لمجمل الثقافة العربية التي هي بطبيعتها محافظة . وثمة معايير اخرى تتمثل في ضرورة ان يكون هناك توزيع جغرافي متوازن للفعاليات الثقافية الابداعية المستوردة التي يتم اختيارها ، بمعنى عدم الاقتصار على جهة ما او ثقافة ما دون غيرها . وثمة تحفظات اخرى تخص عدم اعتماد عامل الربحية كأساس في الاختيار .لكن اهم تحفظ هنا يتمثل في ان لا تطغى هذه الفعاليات بمجموعها على الانتاجين المحلي والعربي .

وعودة الى المسلسلات المكسيكية لنتساءل ويتساءل معنا الكثيرون الغيورون على الثقافة القومية بموروثها الأصيل ومعاصرها ، والمحافظون عليها من خطر مزاحمة الثقافات الاخرى وتراجعها القهقرى الى الصفوف الخلفية ، وافراد مكان الصدارة " للقادم الغريب ". والاسئلة كثيرة في هذا الصدد يتصدرها تساؤل حول دواعي التركيز الى درجة الاختصار على المسلسلات المكسيكية دون سواها .

اليس هناك ثقافات اخرى لها ابداعاتها يتشوق المواطن العربي للاطلاع عليها ؟ . الا تشكل الابداعات الصينية واليابانية والكورية والافريقية غير العربية على سبيل المثال حلقة مفقودة بالنسبة لهذا المواطن الذي فرضت عليه ولا تزال ابداعات معينة لها اهدافها ومراميها التي لم تعد خافية على كل ذي بصر وبصيرة ، منذ ان كان هناك استعمار ثقافي ؟ .

وتخصيصا فهل موضوعات الحب والغرام والكيد للعشاق وتحقير الناس على خلفية فقرهم ، والسذاجة المتناهية في الانتقال المفاجىء من الفقر الى الغنى ومن القبح الى الجمال ، ومن البدائية الى الرقي الحضاري والعكس صحيح ، والصدف الأغرب من الخيال والتي لا توجد الا في مثل هذه المسلسلات - وهذه هي السمة الغالبة على فحوى هذه المسلسلات - نتساءل هل هذا فعلا فقط ما ينقص المشاهد العربي وما يبحث عنه على الدوام ؟ .

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : الا تشتم من تكرار عرض مثل هذه المسلسلات رائحة الربحية من جهة ، والمساهمة في الهاء المواطن العربي عن قضايا اخرى خطيرة تتعرض لها امته العربية من محيطها الى خليجها ؟ . في اعتقادنا ان هذه الاسئلة وغيرها الكثير اما انها لا تحظى بالرد المناسب عليها ، او انها ستظل دون اجابة عنها لافتقار الجهات الموجهة اليها الى الحجة والتبرير ، او انها على الارجح ستظل في اطار غايات نفوس مروجيها .

ان الازمة الثقافية التي تعصف بالوطن العربي وتستفحل يوما بعد يوم اشمل واخطر من كونها تقف عند استيراد المسلسلات الاجنبية ايا كان منشأها وهذه مجرد عينة . فالوطن العربي يكابد امراضا ثقافية خطيرة نجمت اصلا عن انهيار جهاز المناعة الانتمائي ، اعقبه حالة من الفراغ الثقافي سمحت لكل ما هب ودب من الثقافات ان تهب عليه تحت ظلال غيبوبة كثير من الجهات التي يفترض ان تكون حارسا امينا على اصالة الثقافة العربية ، وخفيرا يقظا في وجه هذه التيارات القادمة من كل حدب وصوب والتي يتناقض الكثير منها مع اسس قيم الثقافة العربية ، وبخاصة افرازات تحديات العولمة وهيمنتها على مقدرات الشعوب مستهدفة اجتثاث معالم تميزها وخصوصيتها وتفردها ، وبالتالي تغيير خارطة مفاهيمها وقيمها وانتماءاتها ، ومنها بطبيعة الحال الشعوب العربية التي تتعرض لكل هذا .

وفي كثير من الأحيان فان الغزو الثقافي للوطن العربي يكون عبر شرائح مثقفة من ابنائه ، انساقوا وراء اوهام مجاراة روح العصر والانطلاق الى العالمية بالتخلص من مجمل الموروث الثقافي العربي الذي الصقوا به صفات التخلف والتحجر . وفي هذا الصدد فان الهموم الثقافية العربية كثيرة ، ولكن اخطرها على الاطلاق يتمثل في عدم الثقة بالنفس ، والايمان المطلق بالآخر الى درجة الذوبان فيه واتخاذ ابيضه واسوده مرجعية نهائية تحمل صفة القداسة .

وخلاصة القول ان اغراق الوطن العربي بالثقافات الاجنبية على حساب الثقافة العربية خطأ فادح بحق مقدرات الأمة وخطيئة لا تغتفر. والمطلوب ان تكون هناك استراتيجية ثقافية قائمة على معايير قومية وايديولوجية تحول دون هذا الافراط والتفريط ، وتعمل على تفعيل كل الجهود لتطوير آليات ومؤسسات وقوى بشرية تأخذ على عاتقها مهام الحفاظ على الجذور الثقافية موروثها الأصيل ومعاصرها والانطلاق بها بهدف اضافة اضاءات دائمة في سماء فضاءاتها، حتى يتكون وعي ثقافي عربي ، ويتطور حس انتمائي للوطن والارض والتاريخ والتراث غير قابل للاختراق . وقديما قال الحكماء ان طعام الغرباء لا يشبع ، وان الاثواب المستعارة تظل تفتقر الى الدفء ، وكذلك ثقافة الآخرين قد تكون فيها بعض المتعة والفائدة ولكنها تظل غريبة الوجه واليد واللسان .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى