شذا الياسمين
لم يزل وسط الزحام يسير، يبحث عن كل ما يصوره له خياله أنه كمال أحلامه، رحلة حياته مستمرة منذ خمسة عقود، وهو يتنقل من مكان لآخر.. مغامراً بين كثبان الرمال، عابراً البحار، ومتسلقاً الجبال، بصره يرنو إلى الأعالي في كل مكان. وها هو الآن يجلس في مكان غريب.. وقد أدرك في لحظة أنه بَعد في مشوار حياته الطويل عن تحقيق أحلامه في السعادة الكاملة، وهو يرقب أرجلاً غريبة أيضاً عن هذه الأرض، تمشي الهوينا قبل أن ’تحمل أجسادها في صندوق حديدي يسبح في الهواء، ولا يدري هل تحمل هذه الأجساد في صدرها لحظات حنين لزمن مضى، أم أمل في مستقبل مقبل.
في قاعة المسافرين في مطار فرنكفورت، جلس حسان في أحد الأركان التي تقدم فيه المشروبات الخفيفة، في انتظار موعد إقلاع الطائرة المغادرة إلى لندن، يرشف قطرات بيرة ألمانية، يقلب صفحات مجلة، أطل عليه من بين صفحاتها، وجه باسم يلهو بكرات ثلجية، عاد به إلى زمن بعيد.. إلى ما قبل الثلاثين عاماً. وقفزت إلى ذاكرته تفاصيل رحلة جامعية إلى بلدات صيدنايا ومعلولا قرب دمشق. نحى المجلة جانباً، وتاه بصره بين ندف ثلج تتراقص في هذه اللحظة في سماء فرانكفورت، وندف كانت قبل ثلاثين عاماً، كانت قد رسمت أزهار قطن أبيض على سواد معطفه، وكست ليل شعره نجوماً لامعة. تبسم وهو يتحسس بقايا شعره الفضي، يحدث نفسه
" ترى ماذا ستقول لي لو جمعنا القدر ثانية؟ أتعيد علي كلماتها الرقيقة.. بأنني لن أفقد جاذبيتي حتى وإن كسا الشيب مفرقي."
عاد ورفع كأس البيرة إلى فمه، ونفذت إلى أعماقه رائحة الياسمين التي كانت تسبق حضورها دائماً.. وعاد صوتها الهامس يتردد صداه في قلبه:
– الياسمين رفيق الأنثى المعطاءة.. هو الجمال المبهج حتى وإن ذبلت أوراقه وجفت أغصانه.
" آه يا سلاف.. يا زهرة ياسمين.. كيف أضعتك وغيّبتك عن أحلامي؟ كم أتوق إلى رؤياك الآن، وأسمع صوتك الهامس يحكي لي عن أخبارك، يحدثني عن أيامك ولياليك، أين أنت الآن.. أين؟ هل ما زلت في بهاء صورتك التي عهدتها؟ أم غزا الشيب مفرقك أنت أيضاً.. هل خط الزمان حروفه على وجهك.. وهل امتلأ جسدك بأعباء الحياة وأحمالها.. آه.. ألا ليت الشباب يعود يوماً."
صعد الدم إلى رأسه مع آخر قطرة رشفها من كأسه، وهو يذكر لحظةً.. أيقن الآن وبعد فوات الأوان، أنه أضاع فيها زهرة الياسمين خاصته، حينما أخبر صديقه أحمد بأنه في حيرة من أمره، يوم أنهى خدمته العسكرية الإجبارية، لأنه يرغب في أن يكون حراً في اختيار أسلوب حياته، بعيداً عن وصاية والده الصارمة، ولا يرغب في أن يفوت فرصة عمل براتب جيد في السعودية، مخالفاً رغبة والده الذي يصر على متابعته لدراسته، وحصوله على شهادة الدكتوراة أولاً.
– وسلاف؟
– ما خطبها؟
فتبسم أحمد ابتسامة العارف ببواطن الأمور، وهو يتصور صديقه أنه قد عزم على الاستسلام لنداء القلب، ما دام قد عزم على دخول معترك الحياة.. فقال:
– إذن.. لقد حان الوقت لتخطبها، ما دمت تفكر في العمل والسفر خارج البلاد.
– لا.. لا، ليس هذا ما أخطط له في هذه المرحلة.
" خمس سنوات في السعودية، زارني فيها طيفك أربع أو خمس مرات فقط، لا أدري لماذا عزّ علي استحضارك إلى جانبي كل ليلة.. ربما كنت أخاف عليك من قيظ الصحراء وقسوة الحياة فيها، أو ربما نسيتك وأنا ألهث وراء المزيد من الدراهم. ثم انتقلت فجأة إلى عالم آخر وتهت بين أضواء باريس وكتب القانون الدولي في السوربون. رأيتك مرة في وجه زميلة من لبنان، كانت تحب الياسمين أيضاً، ولكن رائحة الياسمين التي تنتجها شركة كريستيان ديور، لم تسرّع نبضات قلبي، مثل شذا الزهرات الدمشقية، تحيط بجيدك. ولما عدت وبحثت عنك عند شواطيء بردى، قالوا أنك تزوجت أحد أقاربك في الأردن. آه.. كم أشتاق لرؤياك الآن وأنت تدارين احمرار وجهك، وتتظاهرين بعدم رضاك عن كلمات غزل مبطن أرددها على مسامعك، وترددين بصوت هامس:
– ولووا.. شو سئيل.. حاجتك بقى.
سلاف.. أنت هنا.. إني أشم رائحة الياسمين، إني أتنفسه، إنه يلتصق بحواف شراييني ويدغدغ أحاسيسي.. أينك يا سلاف؟؟"
كان هذا مكان غريب لم تره سلاف بوضوح قبل بضعة أسابيع، حينما وصلت إلى مطار فرنكفورت، ولم تكن تبصر يومها سوى خيالات لعلة أصابت عينيها. وها هي الآن ترى بوضوح شخوصاً كثيرة، تبحث عن مقعد خال. جلست بالقرب من النافذة، تتطلع إلى ندف الثلج تتراقص أمامها.. ولم تلبث أن أحست ببرودة جبلة من ثلج تغطي وجهها في صيدنايا قبل ثلاثين عاماً، وحسان أمامها بوجهه الأسمر، وبريق عينيه يسبق رعد شبابه، وهو يشد وشاحها حول رقبتها، حينما ضحكت على تعليق صدر عن صديقهما أحمد، مستهزئاً بحسان، لما كسا الثلج معطفه :
– تضحكين على نكتة بايخة من واحد قليل أدب!!
لم تجبه.. ولم تطلب منه أن يخفف من قبضة يديه.. بل سرت في جسدها رعشة، وتملكتها رغبة مجنونة بأن يطرحها أرضاً، ويهوي فوقها، ولكن أحمد "قليل الأدب" خلصها من بين يديه وهو يقول:
– حرام عليك يا شيخ.. راح تموتها بين ايديك.
وبعد ثلاثين عاماً تحسست رقبتها وهي تبتسم وتتساءل " أما زال نرسيسها مزهواً بجماله بعد كل هذه السنين ؟ وألحان روميو تتردد في صدى صوته؟ وكم من امرأة شاغل وأسر ببريق عينيه!!.انقطعت أخباره عني قبيل مغادرته السعودية، يوم أخبرني صديقنا أحمد، أنه قد يرتبط بابنة أحد الوزراء هناك."
غابت الابتسامة عن وجهها، وأطل القلب يبحث عن إجابة لسؤال ظل يؤرقها زمناً، وكم كانت تود أن تسمعها منه شخصياً، "هل بلغ ما كان يطمح إليه من ثروة ومناصب عليا؟ أم ضاعت أيامه بحلم عابر ظنه حقيقة؟".
وقفت تستعد للتوجه إلى الطائرة المغادرة إلى عمان، وابنتها الشابة تسبقها بخطوات في الممر الطويل تحثها على الإسراع، حين اصطدمت برجل كان يتلفت حوله وكأنه يبحث رفيق تاه عنه، فبادر بالاعتذار، وهو يرفع عن الأرض زجاجة عطر، سقطت من الكيس الذي كان بيد الفتاة ، ولكنه توقف عن الكلام مشدوهاً.. غير مصدق عيناه ، يصطدم بحبيبته بعد فراق كل هذه السنين، ولم يلمسها الزمن بخط من خطوطه، وهتف :
– أأنت سلاف؟؟
وصلت سلاف إلى جانب ابنتها في تلك اللحظة، ونظرت إلى رجل تكاد أن تتعرف على ملامحه، إذ اختفى بريق العينين خلف زجاج نظارة سميكة، وشعر رمادي يغطي جانبي الرأس فقط، مبتعداً عن وسط الرأس الذي بدا وكأنه استعاض عن بريق عينيه، بلمعان وسط رأسه، كما لم يخف المعطف الأنيق انحناء الظهر، فقالت وكأنها تخاطب رجلاً التقته ثانية، بعد اجتماع تم منذ وقت قصير:
– أهلاً أستاذ حسان.. أعرفك بابنتي غيداء..
– أهلاً.. سيدة سلاف.
أجاب وهو يبحث عن الشعر الأشيب الذي أخفته يد ماهرة في صباغة شعر رأسها، ولكنه لاحظ سماكة نظارتها، تخفي خضرة عينيها. وأخذ ينقل بصره بين ما عرف في الماضي من إشراق، وقد تجدد في وجه غيداء، وبين ما وجد أمامه من بقايا حب قديم بين طيات تجاعيد الوجه..
قالت سلاف وبغريزة الأنثى التي لا تشيخ أبداً، أدركت ما يجول بذهنه، فقالت:
– أين وجهتك الآن؟
– إلى لندن.. وأنت؟
– إلى بيتي.. إلى عمان
مد يده ليعيد زجاجة العطر إلى الفتاة، ولكن سلاف قالت
– هذه زجاجة عطر ياسمين، آمل أن تهديها لعزيزة تنتظرك في بيت.. واسمح لي أن ألفت نظرك، إلى أن الأشياء لا تتشابه أبداً، فنفاذ رائحة الياسمين في هذه الزجاجة، لا يضاهي رائحة الياسمين الدمشقي....
تابع بنظراته خطواتهما وهو يمسك بزجاجة العطر، وما أن غابتا عن ناظريه، حتى تذكر أن زوجته تفضل عطر شانيل نمرة"5" ...