«شاعر الكادحين والمناضلين» لحاتم جوعيه
القصيدةُ"شاعر الكادحين والمناضلين"للدكتور حاتم جوعيه هي من القصائد الرثائيَّةِ الرفيعةِ، التي تتجاوزُ البكاءَ على الفقيدِ إلى تمجيدِ مسيرةِ الفكرِ والنضالِ الإنسانيِّ والوطني، وجعل الرثاء منبرًا لطرح رؤيةِ الشاعرِ تجاه الواقع السياسيِّ والاجتماعي. الموضوع والمضمون القصيدة رثاءٌ في ذكرى وفاةِ الشاعر والمناضل الفلسطيني حنا إبراهيم، أحد رموز الأدب المقاوم في الجليل. إلا أنَّ حاتم جوعيه لا يكتفي برثاءِ شخصٍ رحل، بل يرسمُ في ملامحَهُ صورة الإنسان الفلسطيني المقاوم، رمز الكادحين والمناضلين، الذي حملَ همومَ شعبهِ وجعلَ من قلمهِ وسيفهِ معًا وسيلةً للكرامةِ والحرية. يتحوَّلُ الرثاءُ هنا إلى ملحمةٍ وطنيَّةٍ وإنسانية؛ تمتدُّ من الفردِ إلى الجماعة، ومن الحاضرِ إلى التاريخ، لتصبحَ القصيدةُ نشيدًا للوفاءِ والنضالِ والعطاءِ. البنية الفنية القصيدة تنتمي إلى المدرسةِ الكلاسيكيَّةِ الحديثة، حيث يلتزمُ الشاعرُ بالوزنِ والقافيةِ واللغةِ الفخمة، لكنه يُحَمِّلُ هذا الشكلَ التقليديَّ مضامينَ معاصرةً وثوريَّة. تتوزَّعُ القصيدةُ على مشاهد متصاعدة: الافتتاحية الرثائية: يبكي الجليلُ والأرض والكرملُ والشاغور. هنا يشيعُ الشاعر الفقيد وكأنَّ الطبيعةَ كلها تشاركهُ الحزنَ. تمجيدُ السيرة: يتحدَّثُ عن خصالِ الفقيد، نضاله، عطائه، كفاحه من أجل الفقراءِ.
الانقلابُ السَّياسي والنقد: ينتقلُ الشاعرُ من الرثاءِ إلى نقدِ الواقع الحزبي والسِّياسي الفاسد، فيقولُ بجرأةٍ: إنَّ السِّياسةَ كالدعارةِ أصبَحتْ / يرتادُهَا الأوغاد والخلعاءُ."هنا يتجلَّى صوتُ الشاعرُ الثائر لا الرَّاثي فقط.
الخاتمةُ الملحميَّة: تتحوَّلُ القصيدةُ إلى أنشودةٍ وطنيةٍَّ عن فلسطين، الشهداء، والزيتون، والصمود الأبدي. اللغة والأسلوب لغة القصيدة فخمة متينة، جزلة الإيقاع، قرآنية النَّفَس في بعض المواضع، مثل قوله:"ولكم مددنا للسلام لهم يدًا / قطعوا الأيادي وانطوت أشلاءُ"
اللغة: يكثر فيها الجناسُ والطباق والمقابلة، مما يمنحُهَا إيقاعًا موسيقيًا قويًا: (أزِفَ الرحيلُ / ما أفاد عزاءٌ / ولن يكون لقاءُ) (الحقُّ يرجعُ بعدَ سعيٍ مجهدٍ / إنَّ الحياةَ معاركٌ وبقاءُ). كما يكثر الشاعر من النداءات الخطابية: (يا أيها السيف المهند، يا قبلة الأحرار، يا فارس الفرسان...)، وهي نداءاتٌ تبعثُ القداسةَ والبطولة في صورة الفقيد.
الصور الشعرية: الصورُ في القصيدةِ تنتمي إلى الرمزيَّةِ الواقعيَّةِ، حيث تمتزجُ الأرضُ والإنسانُ في وحدةٍ واحدة: الجليل يبكي، والكرمل الوَسنان، والبلاد دموعها أنهار. الزيتونُ شاهدٌ، والصخرُ صمود، والفينيقُ رمزٌ لبعثِ الشعب. بهذه الصور، يجعلُ الشاعرُ من الطبيعة الفلسطينية مرآةً لوجدانِ الأمة، فهي تبكي وتفرحُ وتقاومُ. القيمةُ الفكرية والإنسانية القصيدة لا ترثي رجلًا فحسب، بل ترثي الزمنَ النقيَّ الذي كان فيه النضالُ شريفًا. ينعى الشاعرُ ضياعَ المبادئ وتَحوَّلَ السياسةِ إلى عبثٍ، لكنه يُؤكِّدُ أنَّ روحَ المقاومةِ باقية، وأن"الطّودَ الذي بهَرَ الدُّنَى"(الفقيد) تركَ إرثًا فكريًا وأخلاقيًا خالدًا. في أواخر القصيدةِ، يتحوَّلُ الخطابُ إلى نداءِ جماعي يدعُو إلى استمرارِ الكفاح :"ستزولُ أشواكٌ ونرسمُ فجرَنا / وتُزاحُ عنَّا ضيقةٌ وعناءُ". هنا تتجلّى روحُ التفاؤل النضالي التي تختمُ الملحمةَ بالحياةِ لا بالموتِ. الإيقاع والموسيقى والقافية الموحدة (الألف الممدودة والهمزة) أضافتْ على النصِّ هيبةً ووقارًا، وخلقت انسجامًا بين حزنِ الفقدِ وعظمةِ الفقيد. الإيقاعُ الداخلي أيضًا قويٌّ، بتكرارِ الألفاظ ذات الشَّحنة العاطفية: (أزِفَ الرحيلُ – نضال – كفاح – شقاء – عناء – فداء). هذا الإيقاعُ يُشبهُ دقَّات قلبٍ ثائر، لا تهدأ حتى في الرثاء. (شخصيَّةُ الفقيدِ كما رسمَهَا الشاعرُ: يرسم الدكتور حاتم جوعيه صورةَ المناضل النبيل، المثقف العضوي، الذي عاشَ ومات من أجل قضيتهِ :"ضحَّيتَ قدَّمتَ النَّفيسَ لشعبنا"."ما لان جذعُك بالثرى مُتشَبِّثٌ.""حملتَ صلبانَ الفداءِ جميعَها."يُشَبِّهُهُ بالأنبياء والشهداء والفينيق، فيجعله رمزًا خالدًا للكرامة الفلسطينية".
البعدُ الوطني والإنساني: القصيدةُ تجسدُ رؤيةَ الدكتور حاتم جوعيه الفكرية: أنَّ الإنسانَ الكادح هو جوهر الوطن، وأنَّ النضال الحقيقي لا يُقاسُ بالانتماءِ الحزبي بل بالإخلاص للشعبِ والحقِّ. من هنا، فهي قصيدةٌ تجمعُ بين الوفاء للشخص، والوفاء للمبدأ. البنية الشعورية الشعور المهيمن هو الحزن النبيل الممزوج بالفخر. الدموعُ تتحوَّلُ إلى أنهارٍ من الكبرياء، والرحيل يُنجبُ وعدًا بالبعثِ والنُّور. إنها ليستْ مرثيةً للبكاءِ، بل مرثية لتجديدِ الإيمانِ بالنضالِ والإنسان... الوعي الوطني الروح الإنسانيَّة العالمية. إنَّها قصيدةُ وفاءٍ وشهادةٍ فكريَّةٍ على زمنِ النضالِ الصادق، وفيها يُثبِتُ الشَّاعرُ الدكتور حاتم جوعيه أنهَُّ من أبرز وأهمِّ وأصدق الأصواتِ الشعرية المقاومة في الجليل وفلسطين، وأنَّ الكلمة عندَهُ ليست زخرفًا بل سلاحًا.
