

راشد حسين الشاعر المقاتل..!
لا يمكن لأي باحث او ناقد ان يتحدث عن راشد حسين كشاعر دون ان يتحدث عنه مناضلاً سياسياً، وبرأيي لا فصل بين راشد الشاعر وراشد المناضل، لا سيما ان حياته القصيرة لم تعرف الفصل بين الفعل والممارسة.
يعد راشد حسين من شعراء المقاومة الفلسطينية، وقد شكل الى جانب توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وشكيب جهشان وحنا ابو حنا الطليعة الشعرية والثقافية في الداخل الفلسطيني.
رأى راشد حسين نور الحياة سنة 1936في قرية مصمص وفيها تلقى دراسته في المرحلة الابتدائية ثم انتقل الى المدرسة الثانوية في الناصرة حيث تخرج منها بنجاح باهر، بعدها عمل مدرساً في ام الفحم ومصمص ومشيرفه وغرس في نفوس وقلوب طلابه حب الارض والوطن والشعب المقهور الكادح.
انجذب راشد حسين الى الصحافة والادب وخص هذين اللونيين من الانتاج الفكري بمعظم جهوده، وقد أنشأ وحرر وراسل عشرات الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة مثل " اليوم، المجتمع، الهدف، المرصاد، الفجر، المصور، الاتحاد، الجديد"، وعني بالترجمة وعرّب الكثير من القصائد العبرية منه اشعار حاييم نحمان بياليك، وصدر له 3 مجموعات شعرية هي "مع الفجر، صواريخ، انا الارض لا تحرميني المطر".
في سنة 1967 هاجر راشد الى الولايات المتحدة، وهناك عمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، ثم سافر الى سوريا عام 1971للمشاركة في تأسيس وانشاء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ثم اشتغل في القسم العبري بالاذاعة السورية. وفي سنة 1973عاد الى نيويورك وعمل مراسلاً لوكالة الانباء الفلسطينية "وفا". وفي شباط 1977 احترق في غرفته بنيويورك ونقل جثمانه ليسجى في مسقط رأسه مصمص. وقد اقيم له حفل تأبيني كبير شاركت فيه جموع غفيرة من ابناء شعبنا من الداخل والضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، ويومها هتف شقيقه الشاعر والمفكر الكنعاني احمد حسين قائلا:
جددت عهدك والعهود وفاءانا على درب الكفاح سواءنم في ثراك فلست اول عاشققتلته اعين ارضه النجلاء
لقد كتبت دراسات ومقالات وابحاث عديدة تناولت حياة راشد حسين وخصائص شعره، واجمع الباحثون والدارسون على وضوح رؤيته وبساطة شعره والتزامه بالهموم اليومية والقضايا الوطنية والطبقية لشعبنا الفلسطيني المشرد الظامئ لنور الحرية. ومن بين الاراء التي قرأتها في شعر راشد ما قاله الناقد والروائي اللبناني الياس خوري في دراسته "الموت الجانبي" التي ضمها كتابه النقدي "الذاكرة المفقودة"..ومما قاله:" نقرأ راشد حسين حين يموت او دون ان يموت ونقول: هذه هي بدايات الشعر الفلسطيني، نبحث عن صوت درويش والقاسم داخل لغة اول شعراء الارض المحتلة. نكتشف اشياء قليلة. فنحن نعلم ان تاريخ الشعر ليس مستقيماً ونعلم ان راشد حسين لم يترك بصماته على احد. فهو شاعر متواضع، لم يكن من المستحيل تجاوزه حين يتم تجاوز المرحلة. لا نجد في شعره جذور الشجرة الفلسطينية. فهو لم يكن صاحب وجهة شعرية حتى يترك بصماته على الشعر الفلسطيني، رغم ان جميع الشعراء الفلسطينيين فتنوا كغيرهم من ابناء الارض المحتلة بصوت هذا الشاعر، ربما قلدوه. ورغم انهم في لحظة حزن قد يقولون ان بصماته لا تزال على كلماتهم. لكن بصمات راشد حسين ليست في الواقع على كلمات احد غيره. فهو شاعر متواضع، لا نقرأه كي نقرأ تطور الشعر العربي في فلسطين ولا نقرأه فقط لانه مات فالموت ليس جوازاً حقيقياً الى القراءة نقراه كي ندرس مرحلة كاملة. مرحلة المنفى الذي بدون امل. مرحلة البحث عن الامل. راشد حسين هو لحظة انتقالية في الوعي الشعري واللحظة الانتقالية هي لحظة مليئة بالالم.ويزداد المها لان الذي يعيشها لا يعيها ضرورة فوعي لحظة الانتقال هو جزء من عملية الانتقال نفسها. وهو بالتالي مليء بآلام الولادة. ولكن غالباً ما تكون لحظات الانتقال مخبأة داخل احتمالات الصراع او يكون الوعي عاجزاً ضمن شروطه الموضوعية عن اكتشافها. هنا يحصل التمزق الهائل وتستحيل الاختيارات الحقيقية ".
جاءت ابداعات راشد حسين الشعرية تعبيراً عن آمال الحرية وتجسيداً لمشاعر العزة القومية والفخر الانساني، وانعكست في نتاجه الافكار التقدمية والثورية والاهداف والآمال الوطنية لشعبه الفلسطيني ولكل الشعوب المسحوقة والمضطهدة المناضلة في سبيل تحررها واستقلالها، ووقف بشدة ضد صنوف الظلم والعذاب والاستبداد والقهر الطبقي، وكانت الحرية حلمه، فنادى بها وانشد لها وكافح من اجلها، ومن جميل قصائده في الحرية قصيدة "من آسيا أنا" التي تتميز بتعابيرها والعميقة وكلماتها الصادقة:
من آسيا انا من بلاد الحب والدم والامانيبلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمانبلد اللظى ومناجم الثوارلا بلد الغوانيبلد الذين تمردوا في وجه رب الصولجانمن آسيا انا من تراب النار من لهب الحنان
وراشد شغف بالجزائر، بلد المليون شهيد، وغنى للمناضلتين جميلة بوحيرد وجميلة بوباشا وهتف مع الثوار الابطال، الذين استطاعوا تحرير الارض الجزائرية من ربقة الاحتلال الفرنسي، ولنستمع اليه يقول في انشودة "تحدي" التي تسجل للبطولة الجماعية المنتصرة ابداً على الظالمين والمحتلين:
يا شانق النار ما اغباك من بطلهل يشنق النار حبل عظمة وبرمهما شنقتم اعدنا بعث ميتنابطلقة ملاك الموت تاتمرصوغوا النواقيس والاجراس قاطبه مدافعاً ان عرا فولاذكم خدروكونوا من عظام الميت ميتكمبنادقاً ان تنأى عنكم الشجروجهزوا من دم الفتيان ميتكمزيتاً لها ان علاها بالصدأ المطرمهما صنعتم من النيران نخمدهاالم تروا اننا من لفحهاسمر ولو قضيتم على الثوار كلهمتمرد الشيخ والعكاز والحجرعودوا سئمنا حضارات مزيفةمجددة بزي الماخور تأتزرفقد حلفنا واعلنا ارادتناان الشعوب اذا هبت ستنتصرحليفهم الصخر ان لم يفهم البشران الجزائر في تاريخكم سفر
عاش راشد حسين المأساة الفلسطينية بكل خلجة شعور من خلجات قلبه، وقد تناول في شعره ما اصاب جماهيرنا العربية في هذا الوطن من مآس ومجازر كمجزرة كفر قاسم ومصرع اطفال صندله ومقتل ابن سخنين وقوانين الضرائب وقيود التصاريح، وابدع في توصيف مقتل اطفال صندلة في قصيدته "الغلة الحمراء" التي يقول فيها:
مرج ابن عامر هل لديك سنابلام فيك من زرع الحروب قنابل؟ام حينما عز النبات صنعت منلحم الطفولة غلة تتمايل؟فاذا الصغار الابرياء سنابلواذا القنابل للحصاد مناجليا مرج قل لي هل ترابك سامعام انت عن صوت الملامة ذاهل
وفي نهاية القصيدة يتجسد ايمانه بالانسان الذي يوزع الحب بين الناس وينشر المثل والمبادئ النقية في هذا المجتمع المليء بامراض الحقد والكراهية والبغضاء والجشع الاستغلالي.. فيقول:
آمن بالانسان يبني مصنعاًللحب لا للمدافع تتقاتلآمن بالانسان هب محاولاًلاخوة لا للخصام يجادلآمنت لكن لكل يوم دافعللكفر بالانسان حين يقاتليا اخوتي حضن الامومة بيتكمواليوم احضان التراب منازل
وحين اقيمت "الجبهة العربية" التي عرفت فيما بعد بـ "الجبهة الشعبية" كتب راشد قصيدة حيى فيها هذه الجبهة، التي اقيمت للدفاع عن الاراضي العربية واستمدت الهمم في المعارك النضالية دفاعاً عن الوجود والبقاء والهوية والكرامة وانسانية الانسان الفلسطيني، ودعا فيها كل القوى والفعاليات السياسية التي انطوت تحت لواء الجبهة الحفاظ على الوحدة الوطنية، قدس اقداسنا وسلاحنا البتار في معارك الشرف والكرامة والتطور الانساني والحضاري:
تجمعوا شهباً شرقية اللهبليعلنوا انهم من امة العربتاريخ شعب سقى للمجد خمرتهمسكوبة في انابيب الذهبرهط من الشعب احرار كأنهمكانوا على البغي اعصار من الغضبجلادهم جن لا عقل ولا ادبحتى بدا يراقص التفكير كالدبب"اثبت وجودك" يلقيها لواحدكمفيضحك العزم في العينيين كاللهب
وبعالج راشد حسين في قصيدة "الجياد" الاوضاع والمشاكل الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا العربي، هذا المجتمع الذي يفرح ويغتبط عند مجيء المولود الذكر، فيقول:
في بلاد الآخرين تقلق الناس النهايةفي قرانا تقلق الناس البدايةهمهم ان تلد الزوجة مولوداً ذكرليقولوا انها بنت اصيل مفتخروضعت طفلاً ذكروجهه وجه القمرليقولوا "زوجها فحل عظيم " رجلاو "جواد عربي" سلبق لا يخذلابنه البكر ذكربعد هذا ليصير ابنهم راعي ذبابوليكن دودة ارض.. كل ما فيها ترابوليكن ابكم اعمى وليكن يوم خرابوليمت والده ولتمت والدتهولتمت من فرح قابلتهفهو مولود ذكر
وراشد المقاتل بالكلمة حوصر وطورد واعتقل مراراً ولم يستسلم او يتراجع بل واصل النضال مع كل القوى الخيرة والنيرة من ابناء شعبنا لاجل اطلاع وانبثاق الفجر:
قالت اخاف عليك السجن.. قلت لهامن اجل شعبي ظلام السجن يلتحفلو يقصرون الذي في السجن من غرفعلى اللصوص لهدت نفسها الغرفلكن لها امل ان يستضاف بهاحر فيعبق في انحائها الشرف
ويبدي راشد حسين موقفه الطبقي المنحاز للعمال والكادحين والفقراء في قصيدته "قصة اول أيار" التي تصور ثورة عمال شيكاغو ضد الظلم والاستغلال ومن اجل ظروف افضل واحسن:
ثاروا فثار الحق.. فهو في ايديهمومشوا محيطاً موجه يتدفقومن الظلام المارد انبعثت يدراحت على باب التحرر تطرقحمراء دامية العروق تحيطهامن كل قلب شعة وتألقفالثائرون زنودهم دمويةفيهن من سفر يروق تصعق
وفي وصفه لحياة الفلاحين البسيطة في "ثورة فلاح" يغمره الحنان والحب والعاطفة:
انا زارع الذهب النضير سنابلاعطرية سحرية الانواععمدت بالعرق الطهر حبوبهاوكسوتهن من المنى بشعاعانا ثائر ولسوف ابقى ثائراًحتى تزول شراسة الاقطاع
اخيراً، الحديث عن راشد حسين يطول، وانني اكتفي بهذا القدر، مع التأكيد مجدداً على شاعرية هذا المبدع الفلسطيني، الذي ناضل مع الكادحين،وهتف مع الثائرين، ورافق المشردين زحفهم نحو سواحل حيفا ورمال يافا وعكا، وشارك المقهورين همومهم واحلامهم في العيش الحر والكريم، وهناك ضرورة واهمية لدراسة تراثه الادبي والشعري الملتزم وتعميقه بين الاجيال الصاعدة.