

حينما يعانق الشعر ابتهاجه
رغم مرور ما يزيد عن أربع سنوات على صدور طبعته الأولى، وبعد سلسلة القراءات النقدية التي كتبت حوله، وتوجها صدور كتاب نقدي حوله للدكتور محمد ننفوعن منشورات دار كيوان للنشر بدمشق، لا زال ديوان "حماقات السلمون" المشترك بين الشاعرين محمد بلمووعبد العاطي جميل يثير المزيد من الانتباه،حيث كتب قبل ايام عنه المبدع مصطفى لغتيري ورقة حول حضور تيمة الفرح فيه.
هناك خصيصة مهيمنة على الشعر المغربي خصوصا والعربي عموما، وتتمثل في طغيان الحزن على الشعراء، فينتجون قصائد تضج بأجواء الشكوى والأنين، ولعل ذلك راجع - في رأيي - إلى سببين رئيسين، أولهما النزعة الرومانسية التي طغت على الشعر العربي في فترة من فترات تطوره، ولا يزال تأثيرها ساريا إلى اليوم، وثانيهما الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي يحيا في أتونها الشعراء والمواطنون عموما، إذا سلمنا بأن الشاعر ضمير أمته والمعبر عن همومها وأحلامها وطموحاتها، ونلاحظ أن قلة قليلة من الشعراء استطاعت التخلص من هذه الأجواء الكئيبة التي تخنق القصائد، خاصة أولئك الذين انتهجوا "الخلق" بدل "التعبير " في اجتراحهم للقصائد، محفزين في ذلك باقتناع واع أوغير واع، مفاده أن لا فائدة ترتجى من الحزن والشكوى، بل على الشاعر أن يواجه قسوة العالم بالفرح والضحك والسخرية، التي قد تكون سوداء في كثير من الأحيان، بهذا النهج يرد الشاعر الصاع صاعين لهذا العالم المتخاصم مع ذاته وإنسانيته وقيمه المثلى.
وأنا أجدد الصلة بديوان " حماقات السلمون" للشاعرين محمد بلمووعبد العاطي جميل، استوقفتني تلك النبرة الساخرة، المتمرغة في ضحكها وفرحها، التي تخترق القصائد، رغم حفرها عميقا في تربة الالتزام بمعناه الاجتماعي والسياسي والإنساني، ففي هذا الديوان المشترك نلمس انشغالا قويا بالهموم الوجودية العميقة، والانشغالات الوطنية والقومية، التي لا تخفى على القارئ،والاهتمامات الإنسانية الجلية، ومع ذلك اختار الشاعران أن يدبجا قصائديهما بماء الفرح والضحك، وقد انتهجا ذلك ليعمقا أجواء السخرية والمفارقة الطافحتين من قولهما الشعري الجميل، ولا أدري كيف وجدت نفسي أقارن بين الديوان وصاحبيه، خاصة وأنني أعرف أن هذين الشاعرين كائنان جميلا الرفقة والمعشر، فكلما يلتقي المرء جميلا أوبلمو، يلمح الابتسامة تستلقي على شفاههما، وفرحة الكائن الإنساني تتربع على قسماتهما، وقد تأكد لي هذا التشابه بين الديوان وصاحيبيه، حين وجدت أن كلا الشاعرين احتفيا بالفرح، كل بطريقته، ليعزفا في آخر المطاف سمفونية تنضح فرحا وابتهاجا، يقول الشاعر محمد بلموفي قصيدته " بلا معنى ":
حد الانفجارأضحكثمة دائماعيون على الزنادوأصابع تشتعلويرد عليه الشاعر عبدالعاطي جميل في قصيدته " بيان الغواية":اضحك حتى تنفجروفي مكان آخر من نفس القصيدة يقول جميل:اضحكلكم تبدوقاسياحين تلغي بسمتككيما تخترق مداديوتهيج قافيتي
ولا ينبعث هذا الضحك قويا، ويلقي بسمته الجميل على كل ما يحيط به،هادئا، عفوالخاطر، جميلا إلى حدود الغواية، دون أن يسنده إحساس قوي بالفرح، ذلك الذي يتجذر في أعماق النفس البشرية، يقول جميل في قصيدة "وجود":
أيا سليلة الريفسوديهشمي كل القيود..فلاؤك جذلى.
هذا الجذل السادر في إنسانيته هونفسه المستلقي في سرير قصائد الشاعر محمد بلمو، الذي يقول مثلا في قصيدة"نص الأفعال":
بحثوا عن مروحة وبصل وعطروحين عادوا فرحين برشدهمتناثرت مزهرياتتمزقت كتبودخل الهواء في غيبوبة
وإن كنا نلمس هنا نوعا من المفارقة والسخرية اللاذعة، فإن ديدن شاعرينا أن يقاوم أجواء الحزن،حتى لا تتسرب إلى النفس ومن ثمة إلى القصيدة، فهما حريصان أشد الحرص أن يولدا الفرح من رحم الحزن، يقول بلموفي قصيدة "شيق كالجنحة":
أي الوجوه أقبلتعلى فنائكفانشرح الحزنتضاءل اليأس في اصفرارالتلال.
وتتعمق الرؤيا لدى الشاعر عبد العاطي جميل ويضرب عميقا في هذا النهج، فيقول في قصيدة "فانوس البهاء":
ونوزع الفرح المريرعلى شعب طريد
قد لا تكفي هذه الوقفة المتعجلة عند ثيمة الفرح في ديوان " حماقات السلمون" لتوفيها حقها، لكن حسبها أن تثير الانتباه إلى خصيصة جميلة، يفتقدها الشعر المغربي، متمنين الاهتمام بها أكثر، حتى يتخلص الشعر من حزنه التافه وتسربل بالفرح والسخرية، اللذين يمنحا القصيدة بعدا جماليا ووظيفيا لا غبار عليها، وقد تحقق في هذا الديوان الكثير من ذلك،وكأني بالشاعرين الصديقين، وهما ينثران الفرح من حولهما، يعبران بحق عما جاء في قصيدة " طريق" للشاعر عبد العاطي جميل حين يقول:
نحن زورقانيعشقاندهشة الريح.