الاثنين ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٣
بقلم عبد الله المتقي

حوار مع الإعلامي والروائي التونسي ماهر عبدالرحمان

نحنُ جيل مُلقح ضدّ كل الاختلاط في الأوراق

ماهر عبدالرحمان إعلامي وروائي تونسي، هو تجربة إعلامية متميزة، اشتغل بالإذاعة الوطنية ثمّ التلفزيون واستكمال دراستي الجامعية حتى الحصول على الاستاذية في الصحافة وعلوم الإخبار. أول رئيس تحرير عربي لأوّل قناة دولية ناطقة بالعربية وهي مركز تلفزيون الشرق الأوسط (أم بي سي – لندن)، ليتوجها ب"سيرة حامل ميكروفون"5*، وبعد تقاعده دخل ورشة الكتابة الروائية محملا بمشروع روائي اختاره له"عين الحمام"، ولأنه متيم ب"الهوارية"صدرت له مؤخرا"ثنائية عين الحمام"عن دار الكتاب، وفي انتظار مشروعين روائيين جاهزين للنشر"ميا-كولبا"، و"الكوليبري وشجرة الأكاسيا"

من أنت يا ماهر في خضم هذا الاختلاط في الأوراق والحروب والأوبئة وغلاء الأسعار؟

لمّا تتجاوز الستّين عاما، تكون قد رأيت الكثير في حياتك من حروب وأوبئة وغلاء أسعار لا ينتهي. وُلدتُ أواخر السنوات الخمسين، وأوّل ما وعيتُ له كان حرب جوان 1967 وعمري آنذاك ثماني سنوات. كنا نقفز فرحا كأطفال على نغمات كذب الإعلام الذي كان يروي بطولات الجيوش العربية وانتصاراتها. لكن فرحنا انقلب إلى خيبة شديدة بعد أن عرفنا حقيقة الهزيمة النّكراء. واستمرّ الأمر إلى حد حرب الخليج الأولى فالثانية مرورا بالمأساة الأزلية للشعب الفلسطيني في الداخل.

أما عن الأوبئة، فحدّث ولا حرج في دولة مستقلة حديثا ونحن أطفال. مررنا بجوائح الحصبة والجدري والسلّ وغيرها من الأوبئة التي تذهب بالضعفاء وتُبقي"الأصلح"جسديا. لكن كنتُ أنا وجيلي محظوظين بدولة ناشئة وقتها، وبقيادة متبصّرة، لم تألُ جهدا لحقننا بالأمصال في المدراس، وتوفير لمجة للفقراء من التلاميذ حتّى لا يجوعوا في الصفّ.

لهذا نحنُ جيل مُلقح ضدّ كل الاختلاط في الأوراق، فنتعامل مع كل الإرهاصات برويّة، ونعرف سواء بالسنّ أو الخبرة الطويلة في التعامل مع محيطنا الصغير والكبير ما هو صحيح وما هو خطأ، وما وجبُ التفاعل معه، وما وجب تجاهله.

أنت أعلامي وروائي. فمن الذي ولد من، الاعلام أم الرواية؟

ولدت تجربتي الرّوائية من تجاربي الإعلامية.لقد بدأت مهنة الإعلام كمذيع هاو بإذاعة مدينة صفاقس، وأنا تلميذ في المرحلة الثانية من التعليم الثانوي، ولم أنقطع من وقتها عن ممارسة الإعلام رغم انتقالي للإذاعة الوطنية ثمّ التلفزيون واستكمال دراستي الجامعية حتى الحصول على الاستاذية في الصحافة وعلوم الإخبار.

وكنت في مدينة صفاقس أنشط في نادي القصة الذي كان يجمعُ عددا من تلاميذ معهد الذكور في صفاقس، فكانت لي تجارب في الكتابة الأدبيّة لم تستمرّ طويلا عند انتقالي إلى العاصمة للعمل والدراسة. لكنّ الكتابة الإعلاميّة ليست بعيدة أحيانا عن الكتابة الأدبية. فالأمريكيون والأنجليز لا يتحدّثون عن كتابة الأخبار، بل عن كتابة"قصّة"خبريّة. والريبورتاجات سواء المكتوبة أو المصوّرة هي في الأخير قصّةٌ تُروى للجمهور، لكن لها قواعد تختلف عن قواعد السرد الأدبي من حيث أنّها حقيقية وتخضعُ للآنية ولضرورة الإثبات من المصادر التي لا يرقى لها الشك. كما تخضعُ القصّة الخبرية لمواثيق التحرير، من ذلك عدم إبداء الكاتب الصحفي لرأيه، وضرورة احترام أخلاقيات المجتمع. وهذه القواعد والمبادئ لا يعترفُ بها االسّرد الرّوائي. فالرواية لها مطلق الحرّية في التعبير عمّا يخالج فكر الكاتب، ولقول ما يريد قوله دون الالتزام بمواثيق تحرير.

لذلك فإن الكتابة الرّوائيّة هي شكل من أشكال ممارسة حرّية الفكر بأجمل إحساس يدغدغ الوجدان ويفيض به في عالم التّخييل. ولا حدود لك في التخيّل سوى قدراتك الفكريّة.

والسّرد الروائي بالنسبة لي، هو نوع من الانتقام من صرامة الكتابة الإعلاميّة التي سريعا ما تصل إلى مرحلة العجز في تخطي الحدود. ففي الرواية يمكن للكاتب أن يتعرّض بسهولة لمواضيع الفساد المالي والسياسي وممارسة البغاء والخيانات وكل المظاهر السلبيّة في المجتمع من أجل نقدها، وهو ما لا يمكن دائما في الإعلام. فالرّشوة مثلا، متفشية في أغلب الدول العربيّة، لكن لا يمكنُ أن تثيرها إعلاميا بسهولة رغم معرفة الجميع بها لأنك لن تجد من سيدلي بشهادته على الملأ، وكذلك الأمر للفساد السياسي أو الجريمة المنظمة.

ما حكاية هذا الشغف ب (عين الحمام) المعلقة في سقف الرواية عنوانا؟

أوّل مشاريعي الروائية عاش في فكري ثلاثين عاما دون أن أجد الوقت لوضعه على الورق نظرا لالتزاماتي المهنية سواء في تونس أو في الخارج (بريطانيا)، أو انشغالي بمشاريعي الخاصّة. ولمّا بدأت أسير نحو التقاعد من العمل الإعلامي، عدتُ لمشروع الرواية. ولم تكن"عين الحمام"هي مشروعي الأول. فالموضوع الروائي الأوّل بقي يعيش في ذهني لثلاثين عاما، لكن لمّا حان الوقت للكتابة، خرجت"عين الحمام"بثنائيتها من حيث لا أدري. فعين الحمام هو الاسم الذي اخترته للفضاء الذي دارت فيه أحداث الرواية، وهي مدينة"الهوارية"التي تقع على سفح جبلها عين ماء تُسمّى"عين الحمام". وأنا أعشق تلك المدينة التي، ورغم أنها مدينة شديدة المُحافظة، فتحت لي أبوابها وجعلتني أتكشّف على أسرارها وألهمني بحرُها بكتابة رواية لم أتوقّع في البداية أن تكون كبيرة. كنت في البداية أخطط كتابة رواية عن صيد السمك وصراع الصيادين. لكن، وكما قلت في توطئة الرّواية، فإن الشخصيات والأحداث تهاطلت عليّ من كل مكان وكان كل منها يريدُ أن يحكي حكايته حتى أصبح الكتابة صراعا بيني وبين تلك الشخصيات. أستمع إليها في ذهني وأتفاعل معها وأقرّر بعدها أن آخذ أو لا آخذ ما أحتاجه للرواية.

يحضر البحر في ثنائية عين الحمام بشكل ملفت، ما القصة؟

أنا لا أعرفُ العيش بعيدا عن البحر. فقد كان والدي عسكريا في جيش البحر، فتعودت على البحر حيث سكنا سواء في مدينة حلق الوادي أو بنزرت أو صفاقس وتونس العاصمة وشواطئها. مع العلم أن أصول العائلة هي قرية قصيبة المديوني الواقع على البحر أيضا. وكانت هوايتي منذ الصغر هي الصيد البحري. تعلمت تلك الهواية عن والدي، ولي في الهوارية قارب أمارسُ به هواية الصيد في الأعماق. ولي الكثير من الأصدقاء الصيادين من الهوارية الذين ألهموني الكثير من حكاياتهم التي وجدت طريقها إلى الأسطر في الرواية.

إلى أي مدى عكست روايتك هموم المثقف في تونس وهموم المرأة بشكل عام؟

هموم المثقف كما هموم المرأة هما عنصران أساسيّان في رواية"ثنائيّة عين الحمام". فشخصية طليبة، الدكتور الذي يمشي حافيا في الشوارع بعد أن أصيب بصدمة نفسية عميقة، هي شخصية حقيقية. درس بالخارج ولمّا عاد، في سبعينات القرن الماضي، تمّ سجنه لأسباب غير واضحة تصوّرتُ أنها سياسيّة وخلقت له قصة كاملة خاصة به في الرواية حتى يكون مثالا مُعبرا عن حال المثقف، ليس التونسي فقط، بل العربي عموما. تصرف الدّولة أموالا ضخمة لتدريس أبناء الشعب حتى يصلوا إلى أعلى المراتب العلمية. لكن تدخل الاعتبارات السياسية بعدها في التوظيف، أو القضاء على العالِم الدكتور أو تهميشه إن لم يكن منضبطا سياسيا أو كان مُعارضا، فلا ينتفع الوطن من علمه رغم حاجة المجتمع له.
والأمر كذلك بالنسبة للمرأة التي هي الحلقة الأضعف في مجتمعاتنا العربية الذكوريّة. نحنُ مجتمعات شديدة الصرامة مع المرأة وأحكامنُا عليها قاسية جدا. لا نُحاول أن نتفهّم الظروف التي تؤدي بامرأة مثل شخصية"مليكة"للانزلاق في عالم البغاء الذي فُرض عليها فرضا من قبل الرجال، فيكون الحكم عليها وليس على من دفع بها إلى طريق الدعارة. وكان الأمر كذلك ضدّ امرأة فقيرة مثل"زبيدة"تُكافح للحصول على قوت يومها باتهامها جزافا بالمثلية لأنّ تُؤوي فتاة غريبة مشردة في بيتها.

يبدو التقابل أسلوبا تعبيريا من أجل غايات بلاغية وفكرية طريقا لإبراز تضادها وتناقضها. ما تعليقك؟

تكون قوّة الفكرة أحيانا بما تثيره من جدل للوصول إلى نتيجة. والجدل يكون طبعا في مقابلة المتضادات والمتناقضات. وبما أنّه ليس هناك حقائق مطلقة، فإنّ تبنّي نتيجة على حساب أخرى لا يكون ضرورة بسبب قوة الحجّة بقدر ما يكون في بلاغة المحاججة، أو القدرة على دغدغة العاطفة أكثر منه المنطق العقلي، أو بناء صور متخيّلة طريفة في ذهن المتلقّي أي القارئ. وهذه إحدى الوظائف التي يُمارسُها الأدب، وهي المبالغة في طرح الحجج والخيالات.

لكن للتّقابل له دور آخر في السّرد الأدبي وهو تحديد من تكون إزاء الآخر، مثل حالة خليفة في علاقته مع الألمان وزوجته كاترين وصهره فيلهالم شماتلوخ. كما له وظيفة طرح الإشكالات سواء الإنسانية أو الحضارية أو غيرها مثلما فعل رابح صديق خليفة في نقاشاته في جدليات تحكم الدول الغنية في أرزاق الدول الفقيرة، وصراع الشرق والغرب، وعلاقات الشّمال بالجنوب.

السير ذاتي وزمانك الروائي، أية علاقة؟

أول تجربة لي في الكتابة السردية كانت بكتاب مذكرات بأكثر من أربعمائة صفحة يحمل عنوان"سيرة حامل ميكروفون – تدوينات لأسرار السياسة في كواليس الإعلام". وهو كتاب مذكرات اعتمدتُ فيه الأسلوب الروائي ليكون منطلقا لي لكتابة الرواية. ومن بسبب آراء النقاد المختصّين في ذلك الكتاب، تشجعتُ على دخول عالم الرّواية.

وكلّ روائي يكتُب نفسه في الأخير في سيرة ذاتية متخفّية لأنه يكتبُ أفكاره التي يجعل شخصيات روايته ناطقة بها، ويروي من تجاربه الخاصّة، ويحارب أية ظواهر لا تعجبُه هو شخصيا، ويدافع عن المبادئ التي يؤمن بها. ويضعُ شخصيات روائية يتأثر بها مما التقاه في حياته.

والرّوائي الذي يكتب عن محيطه هو بالضرورة مثقف عضوي (بتعريف غرامشي)، يغوص في إشكالات مجتمعه ليكتب عنها من خلال شخصيّات حقيقية يغيّبُها في شخصيّات أخرى، أو شخصيات مُتخيّلة يقيسُها على أخرى موجودة. فحتّى لو كانت الشخصية الروائية هي وليدة الخيال، فلن يستطيع الكاتب التعبير عنها في شكلها وهندامها وطريقة تفكيرها وتصرفها وكلامها، إلا إذا قّربها من شخص يعرفُه في حياته أو رآه سابقا ليكون المرجع.

هل من عادات وطقوس لماهر، وهو يكتب وينكتب روائيا؟

ليست لي طقوس خاصة عند الكتابة، بخلاف ضرورة وجود القهوة إلى جانبي، والهدوء التامّ سواء في مكتبي أو في البيت. وأنا من الذين لا يمكنهم التركيز للكتابة إذا لم أشبع نوما. فرغم تجاوزي للستين، لا زلت أحتاج إلى ثماني ساعات نوما حتى أكون في كامل مداركي للتركيز العميق والسباحة في الخيال مع شخصياتِ رواياتي لأشاهدها في عالمي الافتراضي وأتفاعل معها وأنقل هذه التفاعلات على الورق.

هل من نميمة بيضاء بخصوص مشروعك الروائي القادم؟

اضطررتُ للانقطاع عن كتابة الرواية لفترة طويلة حتى أكملتُ كتابا بحثيا عن الإعلام السمعي والبصري باللغتين العربية والفرنسية، وبعدها عدتُ للسّرد.

لي مشروعان جديدان جاهزان موجودان عند الناشرين: الأوّل منهما ويحمل عنوان"ميا-كولبا"، هو مشروعي الأوّل الذي انكتب في خيالي طيلة ثلاثين عاما. وهو رواية مجمعة من قصص واقعية كثيرة تُركز على الصراع الثلاثي بين سلط السياسة والمال والدين في قرية صغيرة وهو قرية قصيبة المديوني.

أما المشروع الثاني، فهو في الأدب العجائبي (أو الواقعية السحرية) ويحمل اسم"الكوليبري وشجرة الأكاسيا"، وهو قصة مُستلهمة من عملي الإعلامي والأحداث التي عاشتها تونس بعد سنة 2011

. واخترتُ طائر الكوليبري الذي لا يوجد أصلا في شمال إفريقيا، لكن برمزية مُعينة، مقابل شجرة الأكاسيا التي نعرفُها في بلداننا باسم شجرة"الطلح"، وهي شجرة أصيلة وصبورة على الجفاف إذ تعيش بالمناطق شبه الصحراوية وتشدّ تربة الأرض.

ما الذي بقي معتقا في خوابي الذاكرة من تجربتك الإعلامية؟

تجربتي الإعلاميّة كبيرة ومتنوّعة. بدأتُها صغيرا كمذيع هاو في إذاعة صفاقس، ثمّ تدرجت مع دراستي الجامعية للإعلام لأكون مذيع أخبار في التلفزة الوطنية بالعاصمة ومحرّرا صحفيا، وأيضا مراسلا لصحف خليجية. بعدها توليت رئاسة تحرير الأخبار وعمري ثمانية وعشرون عاما.

لكن الأهم في تجربتي، فهو أنني كنت أول رئيس تحرير عربي لأوّل قناة دولية ناطقة بالعربية وهي مركز تلفزيون الشرق الأوسط (أم بي سي – لندن)، ونجحت إلى حد بعيد في إعطاء زخم جديد في الإنتاج الإخباري لم يكن موجودا سابقا في الإعلام العربي.

بعدها أسست في تونس وكالتي الخاصة للإنتاج الإخباري والتي لا تزال تتعامل إلى اليوم مع قنوات دولية في أوروبا والخليج.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى