الأحد ١٠ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم صالح سليمان عبد العظيم

ثقافة الاكتناز في المجتمع المصري من الأشياء إلى العلاقات

يشير مصطلح "الاكتناز"Hoarding، في الاستخدام اليومي، إلى التراكم المفرط والعشوائي للأشياء المادية التي قد لا تعود ذات فائدة عملية. ويمكن لهذه الأشياء بدءا من أدوات المطبخ وصولا إلى ألعاب الأطفال أن تشغل تدريجيا مساحات كبيرة من فضاء المعيشة مثل غرف تخزين مكتظة من الأرض إلى السقف، وأسطح منازل مكتظة ببقايا منزلية متنوعة، وحتى أقسام كاملة من المنزل أصبحت غير قابلة للوصول إليها بسبب تراكم الممتلكات.

ويرتبط ما سبق، بحالة نفسية تتميز بصعوبة مستمرة في التخلص من الممتلكات أو التخلي عنها، بغض النظر عن قيمتها الفعلية، بسبب الحاجة المتصورة لحفظها والضيق المرتبط بإزالتها تسمى اضطراب الاكتناز القهري Compulsive Hoarding Disorder. يؤدي هذا السلوك إلى تراكم عدد كبير من الأشياء، مما يؤدي غالبا إلى ازدحام مساحات المعيشة لدرجة أن الاستخدام المقصود منها قد يكون غامضا. تم التعرف على هذا الاضطراب في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، الطبعة الخامسة كحالة صحية عقلية منفصلة عن اضطراب الوسواس القهري، على الرغم من أنه قد يشترك معه في بعض السمات. غالبا ما يعاني الأفراد المصابون باضطراب الاكتناز القهري من ضائقة أو ضعف كبير في مجالات العمل الاجتماعية أو المهنية أو غيرها من المجالات المهمة. والأهم من ذلك، قد تتراوح الأشياء المحتفظ بها بين تلك ذات القيمة النقدية أو العاطفية الواضحة والأشياء ذات القيمة الجوهرية الضئيلة أو المعدومة، ولكن ينظر إليها الفرد جميعا على أنها ضرورية أو مفيدة محتملة في المستقبل.

في السياق المصري، ليس هذا سلوكا نادرا أو شاذا. بل أصبح، في الواقع، عنصرا مرئيا من عناصر الحياة اليومية، متأصلا في نسيج الثقافة المنزلية. مشهد أواني الطهي الكبيرة المصنوعة من الألومنيوم التي كانت في السابق عنصرا أساسيا في وجبات العائلة، والتي أصبحت الآن متهالكة وغير مستخدمة ملقاة في زاوية مهجورة لسنوات، أمر شائع. تُترك الكراسي البلاستيكية المكسورة على أسطح المنازل، معرضة غالبا للمطر والغبار حتى تصبح هشة. تُربط أكياس الملابس البالية أو التي لم تعد تستخدم وتُخزن تحت الأسرة، أو في الخزائن، أو في غرف الأسطح، إيمانا منا بأنها "قد تكون مفيدة يوما ما"، سواء لاحتياجات المنزل، أو للتبرعات الخيرية، أو لحالات الطوارئ غير المتوقعة.

غالبا ما يكشف التجول في أحياء القاهرة القديمة، أو حتى جولة بالسيارة في الأحياء السكنية الحديثة، عن أسطح منازل تُحوّلها إلى متاحف مفتوحة للأشياء العتيقة: هياكل أسرة معدنية صدئة، غسالات معطلة، خزانات مياه باهتة، وصناديق مليئة بأجزاء مجهولة من أدوات منزلية كانت تستخدم سابقا. هذه المجموعات على الأسطح لا تقتصر على الإهمال؛ بل تُنظم بطريقة ما، مهما كانت فضفاضة، وفقا لمنطق الإمكانات المستقبلية. قد تكون هذه الأشياء مكسورة أو قديمة الطراز، لكنها تبقى في مكانها "للاحتياط".

داخل المنازل، النمط لا يقل لفتا للانتباه. تُنظف برطمانات المربى أو المخللات الزجاجية بعناية وتُخزن لإعادة استخدامها. تُطوى الأكياس البلاستيكية أو تُحشى في أكياس أكبر، مما يشكل مخزونا يدوم لسنوات. الألعاب القديمة، من السيارات البلاستيكية المخدوشة إلى عجلات الأطفال الصغيرة التي كانت شائعة في السابق، تُحفظ حتى بعد أن يكبر الأطفال.
أطقم الخزف، التي تُورث أحيانا من جيل سابق، تُرص بعناية ولكنها نادرا ما تستخدم، وتمثل رمزا لاستمرارية الأسرة أكثر من كونها أدوات عملية. هناك أيضا قطع ذات ذاكرة ثقافية مميزة مثل أكواب ياسين الذي كان شائعا في السابق، وهو كأس زجاجي كان يُنتج بكميات كبيرة من عقود مضت محفوظة ليس فقط للاستخدام بل للحنين إلى الماضي أيضا.

تختلف مبررات الاحتفاظ بهذه القطع. يدعي البعض التوفير، وتجنب الهدر في حال كان استبدالها مكلفا في المستقبل. بينما يراه آخرون إجراء احترازيا، متجذرا في تجارب الندرة خلال فترات الركود الاقتصادي أو فترات نقص الإمدادات. بالنسبة للكثيرين، التفسير عاطفي، فالأشياء تحمل بصمة قصص عائلية، أو محطات شخصية، أو وجود أحباء رحلوا.

ومع ذلك، وبعيدا عن هذه الأسباب الشخصية أو العملية، تعكس هذه الممارسة منطقا ثقافيا أعمق ومعان اجتماعية. ترتبط عادة المصريين في التمسك بالأشياء برؤية شاملة مُشكَّلة من عدم اليقين، والذاكرة الجماعية، ونظام قيم يُفضل الحفاظ عليها على التخلص منها. وتتقاطع مع أسئلة أوسع حول كيفية إدارة المجتمعات للتراث المادي، والتكيف مع الواقع الاقتصادي المتغير، والتعبير عن هويتها من خلال الأشياء التي تحتفظ بها.

من منظور أنثروبولوجي، تشمل الثقافة المادية الأشياء المادية والموارد والمساحات التي يستخدمها الناس لتعريف ثقافتهم. في مصر، تتجذر ثقافة الاكتناز المادي في العديد من الوقائع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية مثل:

عدم الاستقرار الاقتصادي: عززت فترات الندرة والتضخم الاعتقاد بأنه لا ينبغي التخلص من أي شيء إذا كان من الممكن إعادة توظيفه في المستقبل. وتنتشر هذه العقلية بشكل خاص بين الأجيال الأكبر سنا التي عانت من الحروب والأزمات الاقتصادية ونقص الإمدادات.

القيمة الرمزية: غالبا ما تحمل أباريق الشاي القديمة، أو أطباق المينا، أو دراجة الطفل البالية قصصا وذكريات، والاحتفاظ بها وسيلة لحفظ تاريخ العائلة.

العادات المكانية: تصبح أسطح المنازل، وغرف التخزين، وحتى المساحات تحت الأسرة، مواقع "للذاكرة المادية"، حيث تتراكم الأشياء ليس فقط للاستخدام، بل كشهود صامتين على التجارب المعاشة.

وفي حين يناقش الاكتناز غالبا من منظور مادي، يمكن فهمه أيضا بمعناه الأخلاقي أو العلائقي، أي اكتناز الروابط الاجتماعية الضعيفة. في المجتمع المصري، غالبا ما يحافظ الناس على علاقات ليست قوية ولا مجدية بشكل خاص، مثل:
الصداقات التي فقدت عمقها العاطفي منذ زمن طويل، ولكنها تستمر من خلال تهنئة عابرة بالأعياد. الزيجات التي فاتتها فرصة التعايش المشترك، ولكنها تبقى قائمة بفضل شرف العائلة، أو الترابط الاقتصادي، أو استقرار الأبناء، أو الاحتفاظ بالصورة الجيدة أمام الناس.

روابط القرابة التي غالبا ما تكون في صورة زيارات رسمية أو دعوات زفاف، ولكنها تُحافظ عليها رغم ذلك.

تتضمن ثقافة الاكتناز الأخلاقية هذه الاختيار المتعمد لعدم قطع الروابط، حتى لو كانت قيمتها الوظيفية أو العاطفية محدودة أو مهترئة أو بالية. قد ينظر علماء الاجتماع إلى هذا كشكل من أشكال الحفاظ على العلاقات، متجذر في قيم مثل الجماعية، واحترام التقاليد، والالتزام الاجتماعي، وهو تفسير ينقصه التركيز على الجوانب السلبية المرتبطة به!!
ورغم ذلك توجد العديد من الوظائف الاجتماعية لاكتناز العلاقات مثل:

شبكات الأمان الاجتماعي: حتى الرابطة الضعيفة يمكن أن تقدم دعما غير متوقع أثناء الأزمات. في المجتمعات المترابطة، قد يساعد أبناء العمومة البعيدون أو أصدقاء المدرسة القدامى في الحصول على وظيفة، أو التوسط في نزاع، أو تقديم مساعدة مالية صغيرة.

الضغط المعياري: الثقافة المصرية، كغيرها من الثقافات الجماعية، تُثني عن قطع العلاقات تماما. فقد يُنظر إلى إنهاء الصداقة أو تجنب قريب على أنه أمر غير لائق اجتماعيا، بل ومثير للريبة أخلاقيا ودينيا.

الاستمرارية الرمزية: إن الحفاظ على أدنى حد من التواصل يحافظ على الشعور بالاستقرار في بيئة اجتماعية واقتصادية سريعة التغير.

ولا تمارس جميع الثقافات هذا التكديس الأخلاقي بالتساوي. ففي المجتمعات ذات التوجه الفردي، مثل أجزاء من شمال أوروبا أو أمريكا الشمالية، يسود تقبل اجتماعي أكبر لإنهاء العلاقات الضعيفة أو غير المُرضية، سواءً أكانت صداقات أم علاقات قرابة. وهنا، تُعطى قيمة للأصالة، والوفاء الشخصي، والكفاءة في الشبكات الاجتماعية. في المقابل، في مصر، كما هو الحال في معظم أنحاء الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأجزاء من أفريقيا، ينصب التركيز على الحفاظ على الانسجام الاجتماعي، وتجنب المواجهة، والحفاظ على شبكة الترابط، حتى لو كانت بعض الروابط ضعيفة.

وهنا يمكن القول بأنه بينما يحافظ الاكتناز المادي على الأشياء لاستخدامها مستقبلا، حتى لو كانت تشغل حيزا وتبدو زائدة عن الحاجة. يحافظ الاكتناز المعنوي على الروابط الاجتماعية لتحقيق منفعة مستقبلية محتملة، حتى لو تطلب ذلك طاقة عاطفية والتزامات اجتماعية. ويعكس كلاهما منطقا ثقافيا مفاده "أن تملك ولا تحتاج خير من أن تحتاج ولا تملك" وهي فلسفة براجماتية احترازية تشكلت بفعل عدم الاستقرار الاقتصادي، والخبرة التاريخية، والقيم الجماعية، والشيوع التاريخي لثقافة الفقر وعدم اليقين المستقبلي.

في المجتمع المصري، تمتد ثقافة الاكتناز إلى ما هو أبعد من الأشياء المادية. إنها تشمل ممارسة أخلاقية راسخة تتمثل في الحفاظ على العلاقات الضعيفة، مما يعكس رؤية شاملة لا ينبغي فيها تمزيق النسيج الاجتماعي، مهما تآكل. وتمثل هذه الممارسة شبكة أمان اجتماعي وعلامة ثقافية تميز التقاليد الجماعية عن التقاليد الأكثر فردية. يبقى سؤال ما إذا كان هذا الاكتناز الأخلاقي سيستمر في الأجيال القادمة، في ظل العولمة وسيولة العلاقات الاجتماعية وهشاشة البنى الأخلاقية وتغير المعايير الاجتماعية، سؤالا مطروحا على علماء الاجتماع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى