الأحد ٢٥ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم أحمد سامي خاطر

تنويعات علي مقام الصمود

1)

لا نعرفُ الموت،
لكننا نعرف كيف نموت واقفين،
كي تظلّ الأرض حيّة
تلد من دمنا خبزاً للغد،
ونشيداً، للحياة.

2)

في البدءِ،
لم تكن ثمَّةَ راية، ولا نشيد،
فقط حجر صغير، سقط من جبل،
ليسأل الأرض:
هل من شيء أستطيع أن أكونه؟
قالت له الأرض: كُن اسمي.
كن صمتي حين تُنتهك الكلمة،
ولساني حين تُقطع حروف الأشجار،
كن جُرحي.. إذا ما متُّ،
واكتُبني صوتاً عصياً علي أجسادِ
الغزاة.

3)

الأرض هنا ليست موضوعاً،
بل هي الراوي الأول،
الذي يحمل ذاكرة الغيم، وملح العرق،
وينطِقُ بلغاتٍ نُسيت،
لكنها ما زالت محفورة في أكاليل الزيتون.
قلبُ الأرضِ لا ينام، لأنه يعرف:
أن الغفوة في بلادٍ كهذه،
هي خيانةٌ للدم.

4)

لم تكن هناك رواية مكتوبة،
ولم تكن القصيدة قد عرفت اسمها بعد،
لكن الجبال أنشدتها،
والشجر حفرها في جلود الرياح.
هكذا بدأ سفر التراب
لا كقصيدة، بل كصرخة.
لا كقصة، بل كخلق.
حين كان الحجر لا يزال يتعلّم
كيف يصبح قبضة،
والتربة تحفظ في رائحتها رعشة الجدّ الأول،
الذي غرس بذرته في صمتٍ،
وقال بملء فمهِ:
"لن أرحل."

5)

نامت الأرضُ بثيابٍ ممزقةٍ،
ترتّقُ الجراحَ بخيطٍ من صوتٍ صاعدٍ
من ركام القصائد العالقة.
لم تكن حجارةً..
بل ذاكرة تمشي على حدِّ الدبابات.
كلُّ جدارٍ هناك، حمل سرًّا صغيراً:
حمل طفلاً كهلاً،
خبَّأ اسمه في كسرةِ رغيفٍ يابسة،
وامرأةً في الظلام،
راحت تحلب لأطفالها شمساً بعيدة
من ضرع جدارٍ متصدّع.

6)

عندما كان الجنود يحاولون طمس الكلمات
ويغلقون فم الشوارع بالأسلاك الشائكة،
كان الشارع يُصر على النطق.
يُجسد في كل خطوةٍ، رغبةً في البقاء،
وينقشُ بكل حجرٍ، حلماً بالأرض.
هناك، في الزوايا، تكتمل القصيدة،
ويعود الشارع نفسه، ليصرخ في ملحمة للصمود
بتلك الكلمات البسيطة:
"لن نرحل، لن نغادر، فنحن الأرض."

7)

الأرضُ لا تُحارب،
بل تتنفّسُ بين نصلٍ ونصل،
تئنُّ حين تُفلِتُ جذورها
من بين أضلاعِ الجرافات،
تشهقُ حين يُغنّي طفلٌ تحتَ القصف.
ليست الأرضُ ساحةً
ولا مشهداً عسكرياً،
بل كائنٌ حي، يرى، يسمع، يعشق،
ويحفظُ أسماء شهدائه في لُبِّ صخرته.
إذا ما ناديتها،
ردّت عليكَ بندبةٍ تشبهُ وجه أمٍّ،
لم تنَم منذ أربع حروب.

8)

ليس الحجر أداةَ صراعٍ، بل لُغة.
من لا يفهمها، لا يفهمُ الصبر.
الحجرُ طفلٌ بلا فم،
لكن إذا رُمي، تكلمت المدينة.
كلُّ حجرٍ يُرمى، يحمل رسالة مشفّرة:
 ما زلنا هنا.
 لم ننكسر.
 ما مات الحلم.
الحجرُ لا يحتاج إلى بارود،
بل إلى يدٍ صغيرةٍ
تؤمنُ أنّ الظلَّ لا يدوم.

9)

الزمنُ ليس حيادياً.
هو جنديٌّ يقاتل مع الصامدين.
هو حفّارُ نفقٍ في قلبِ الجدار.
الساعةُ حين تدور، لا تقيس الوقت،
بل العدالة المؤجلة.
كل ثانية تمرُّ على المعتقل،
تحملُ في طيّاتها بذرة ثورة.
الليلُ طويلٌ؟
نعم.
لكنّه يخفي بين دقائقه برعماً
سيشقّ العتمة.

10)

في حضنِ أمٍّ ثكلى،
يوجد وطنٌ كامل، لا حدودَ له،
لا عَلَمَ، لا خرائطَ،
فقط عيناها،
تسكن فيهما الشمسُ والغائبون.
تطبخُ الذكريات،
تنسجُ الكوفية من صوت من تحب،
وتعلّق على جدار قلبها، صوراً
لا تحترقُ بالقصف.
هي لا تبكي، بل تروّي الأرض.

11)

الشهادةُ ليست موتاً،
بل انشقاقٌ في النسيج القديم للحياة،
فتدخل الروح إلى معناها الأعلى.
يُولد الشهيدُ لحظةَ أن يُغادر،
لا تُشيّعه الأرض،
بل تستقبله نوافذ السماء بأجنحةٍ،
كمنشورٍ من ضوء.
الدم لا يسيل، إنه يرسم وجهاً عائداً.
والقبر، ليس حفرة،
بل شجرة ميلادٍ جديدة.
تُعيد ترتيب الضوء كل صباح،
تُنقّط القصيدة بدم شهيدٍ،
وتمدّ أصابعنا إلى السحاب، لنقول:
"ما زال في الهواء متسع للحياة."

12)

في مقام الصمود،
كل نبضة، لحنٌ، يبدأ من شهقة أم،
ويبلغ ذروته في ابتسامة أسيرٍ
يرفع قبضته رغم القضبان.
لا فرق بين الحجر والقصيدة في بلادنا،
كلاهما يُرمى في وجه عدو
كلاهما شعلة في وجه ظلام
كلاهما يفتح فجوة في جدار الزمن.
نحن الذين لم يُسعفهم التاريخ،
فصنعوا تاريخاً من العتمة،
وحملوه إلى الصباح، قنديلاً لا ينطفئ.

13)

في سفر التراب، يولد الوعي، لا كفكرة،
بل كجذورٍ تشقّ الصخر،
يولد الانتماء لا كشعار، بل كأغنيةٍ..
تنمو في حنجرة الطفل قبل أن يعرف الكلام.
يولد الصمود كما يولد النهار،
في البلاد المحاصرة:
شحيحاً.. لكنه ليس ممتنعاً.
التراب هو الخلق الأول للمقاومة،
هو البدء والنهاية،
الجذر الذي لا يُقتلع، ولو مرّت عليه
ألف جنازة.

14)

في النهاية،
لا نضع نقطةً، بل نترك السطر مفتوحًا
كأفقٍ لا تحدّه الأسلاك،
وكوعدٍ ما زال يمشي حافياً فوق شوك الحدود.
كل قصيدة هي خطوةٌ نحو الضوء،
وكل صمتٍ هو حكاية لم تُروَ،
من فمِ طفلٍ في خيمةٍ،
أو من يد أمٍّ تحفر في الغياب اسماً
وتزرعه شجرة زيتون،
تعود في صوت المآذن، وقرع الأجراس
في الضوءِ الواعد الخافت البعيد.
تشعل عيوننا، كلما قالوا: "مات الحلم."
لا.. ما مات.
فالحلم لا يُقصف.
والشعر لا يُؤسر.
والأرض لا تموت.
سنخرج من المعركة مثقلين بالحكايات،
واقفين، نُسلم الكلماتِ إلى الريح، إلى الحجارة،
إلى الطفل الذي ما زال يرسم مفتاحاً
على الجدارِ،
ويكتب تحته بخطٍ غير مُتقنٍ:
"سأعود."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى