تجليات المنهج اللغوي الجمالي عند مصطفى ناصف
تـــــــوطـــــــئة:
تعتبر إشكالية المنهج من الإشكاليات الشائكة في النقد المعاصر، كما لعبت دور المحرك المعرفي في الساحة النقدية العربية. ولعل نظرة خاطفة لتاريخ الثقافة العربية منذ عصر النهضة إلى يومنا الحالي، ترصد لنا ذلك الانشطار المعرفي الرهيب الحاصل على مستوى تبني الموروث العربي أونبذه لصالح الفكر الغربي، مما دفع مجموعة من النقاد المتمرسين إلى إعادة قراءة الخطاب الثقافي العام قراءة جديدة تتجاوز القراءة التلفيقية أوالإقحامية.
فالمنهج بوصفه إطارا علميا يساعد على كشف جماليات النصوص وفهم مكوناته وأبعاده الدلالية هو:«طريقة في البحث توصلنا إلى نتائج مضمونة أوشبه مضمونة في أقصر وقت ممكن، كما أنه وسيلة تحصن الباحث من أن يتيه في دروب ملتوية من التفكير النظري» [1].
فالمنهج بهذه الوجهة هوالمفتاح الإجرائي الذي يساعدنا على كشف بواطن النصوص وحقائقها، لأنه ليس مجرد أداة منهجية فحسب، وإنما يختزل رؤية خاصة للعالم شارك في تفعيلها مجموعة الخلفيات السوسيوثقافية وغيرها التي أدت إلى ظهوره، وبالتالي فهو يساعدنا على رصد أبعاد النص الإبداعية.
ويعد ناصف من أهـم النقاد الدين حاولوا قراءة التراث قراءة واعية، تعتمد النظرة الموضوعية أساسا لها. وقد انطلق هذا الناقد في معالجة النصوص- خصوصا - الـتراثية من إطار منهجي ثري، حيث اعتمد على مجموعة من المناهج الغربية، التي حاول تطويعها بما يخدم النص التراثي،دون انتهاك خصوصيته الثقافية، أووضعه على كرسي الاعتراف كما فعل غيره من النقاد....
ويعتبر المنهج اللغوي الجمالي من أهم المناهج التي وظفها هذا الناقد، حيث يـدعوإلى قــــراءة الموروث قراءة ثانية تكسر حواجز صمت النصوص ’’حتى تنطق وتبوح ويتاح لها قلق صحي عظيم" [2].
لـــــقــد وظف المنهج اللغوي، كأداة تساعده على إكتناه جماليات النصوص في حدود لغتها ونقصد به: ’’المنهج الذي ينطلق من الرؤية النصية في دراسة العمل الأدبي،ويتعامل مع مفاهيم الرمــوز والأساطير المبثوثة في السياق اللغوي’’ [3].
ويندرج المنهج اللغوي في إطار النقد الجديد، الذي ظهر في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين،وهذا النوع من النقد يأخذ مقولة ’’ ملارميه الشهــــيرة أن الشعر لا يكـتـب بالأفكار وإنما يكتب بالكلمات مأخذ الجد " [4]، لدرجة أنهم وضعوها شعارا ومبدأ ثابتا في منهجهم. وقد ظهر هذا النقد في: روسيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا...إلخ وغيرها من الدول الأوروبية، وتختلف أسسه المنهجية من منطقة إلى أخرى، إلا أنها تتفق على اتخاذ اللغة مبدأ رئيسا ينطلق منه الناقد وينتهي عنده.
ففي روسيا أسست جمعية خلال الحرب العالمية الأولى،تهتم بدراسة ’’اللغة الشعرية’’ واسمها «OPOJAZ » حيث أصبحت فيما بعد نواة الحركة ’’الشكلية الروسية’’ إذ اهتمت هذه الجمعية بمشكلة اللغة الشعرية ورأت بأنها ’’ لغة خاصة تتصف بتشويه مقصود اللغة العادية عن طريق العنف المنظم الذي يرتكب ضدها’’ [5]، وقد ركزت جل اهتمامها على البعد الصوتي للغة،كما اهتموا بالفونيم باعتباره أصغر وحدة دالة كما’’ابتكروا العديد من المناهج الفنية، بل حتى الإحصائية،لدراسة العمل الأدبي،الذي حسبوه نتيجة الوسائل الفنية التي يتكون منها، لقد كانوا وضعيين يحدوهم مثال علمي في البحث الأدبي’’ [6].
– أما في ألمانيا فقد طبقت بعد الحرب العالمية الأولى، مفاهيم لغوية مغايرة تماما لما كان معهودا في دراسة الأدب، وفي عالم المناهج ككل، وقد تم ذلك على أيدي مجموعة من العلماء الذين قاموا بدراسة لغات الرومانس ومن أشهرهم كارل فولسر، الذي درس دانتي وارسين، وشعرية الغربة الأسباني،حيث تأثر بفكر كروتشه ،وذلك بتوظيفه ’’ لمفهوم وحدة اللغة والفن’’من أجل أن يدرس التركيب اللغوي والأسلوب باعتبارهما خلفا فرديا’’، وقد أكد على أن اكتشاف الخاصية الأسلوبية لكاتب معين تساعدنا على اكتشاف مسيرته الروحية.
– أما شبيتزر فقد رفض هذه الطريقة ورأى بأن الأسلوب هوالسطح الذي من خلاله نستطيع أن نكتشف ’’ دافعا رئيسيا من دوافع الكاتب، أواتجاه أساسي عنده،أوطريقته في النظر إلى العالم،تلك الطريقة لا تكون باطنه أوشخصية’ [7].
وقد اهتم هذا الناقد بتحليل الشعر الفرنسي والإسباني والإيطالي، إلا أنه في السنوات الأخيرة أتجه إلى تحليل نصوص من الشعر الانجليزي وقد ركزعلى القطع الشعرية القصيرة. واستعمل إرخ أورباخ، الطريقة نفسها تقريبا،ويعتبر كتابه ’’المحاكاة’’ تاريخا للواقعية من هوميروس إلى بروست، حيث بدأ فيه بتحليل مقاطع معينة تحليلا أسلوبيا،وقد نالت الأسلوبية الألمانية نجاحا كبيرا في اسبانيا،ويعتبر الناقد داماسوألونسومن أهم ممارسيه، وقد أهتم هذا الناقد بدراسة شعر’’القديس يوحنا صاحب الصليب’’وشعر الباروك والغونغورا، محاولا بذلك تقويم الشعر الإسباني، لكنه غالبا ما يحيد عن الدراسة اللغوية الأسلوبية لتستفيض في دراسة أخروية صوفية.
-أما النقاد الانجليز والأمريكيون فكان جل اهتمامهم،منصبا على الجانب ’’الدلالي من اللغة’’ كما اهتموا بدور اللغة العاطفي مقابل اللغة الفكرية والعلمية،وهومن أهم الأسس التي بنى عليها ’’ريتشاردز’’ نظريته،ويعتبر هذا الأخير من أهم النقاد الذين: ’’طوروا نظرية في المعنى،تميز بين المعنى والنبرة والشعور والقصد وتؤكد على أهمية الغموض في لغة الشعر،وقد حلل ريتشاردز في كتابه ’’النقد التطبيقي 1928،المصادر المتعددة لسوء فهم الشعر،تحليلا يتصف بقدر عظيم من المهارات التعليمية مستخدما أوراقا لطلباته كتبوها حول قصائد لا يعرفون قائليها.
وقد انطلق ريتشاردز من مبادئ علم النفس،فالفنان حسبه معالج للاضطرابات النفسية،والفن عنده مقوللأعصاب،لذلك راح يبحث في القصائد عما يسبب الراحة النفسية للقارئ أوما يسميه " ترتيب الدوافع "أوتوازن الاتجاهات "،وفي هذا يقول:"يجب أن نتصور إذن أن تيار التجربة الشعرية هوبمثابة عودة النزعات المضطربة إلى حالة الاتزان." [8]
ومن هنا فهولا يعترف بعالم ’’ القيمة الجمالية للفن بصفة مطلقة’’،لأن القيمة الوحيدة حسبه هي ما يضيفه ذلك الفن إلى النفس من راحة،فمهمة الشاعر بذلك حسب ريتشاردز تتمثل في ’’أن يعطي نظاما وتلاحما وكذا حرية لجسد التجربة، أن يفعل ذلك من خلال الكلمات التي تعمل بوصفها هيكلها العـظمي,بـوصفها بنية تضبط بواسطتها الدوافع التي تشكل التجربة أحــــدها وفقا للآخر,وتعمل معا’’ [9].
فمهمة الشاعر حسب هذا الناقد هي إعادة تنظيم التجربة الواقعية من خلال تبنيها فنيا،وإعادة تنظيمها بواسطة الكلمات، التي تعمل بدورها على ضبط الدوافع وترتيبها، وبالتالي تتحول التجربة الواقعية إلى تجربة فنية تقوم على تهدئة أعصاب القارئ ومساعدته على تخطي أزماته النفسية، وفي هذا يقول : " إن مهمة الشاعر هي أن يكسب مادة التجربة نظاما وتناسقا وتماسكا، ومن ثم هولا يكبت الدوافع وإنما يحررها ويوفق بين بعضها والبعض الآخر" [10].
كما يدعوريتشاردز إلى الاهتمام بوظيفة الألفاظ في القصيدة،حيث يقسمها إلى وظيفتين : وظيفة حسية (استخدام إشاري) تشير إلى موضوعات خارجية يمكن التحقق من صدقها أوكذبها،ووظيفة تقرير الحقائق الزائفة (استخدام انفعالي)،ويرى أن هذه الأخيرة تلعب دورا هاما في تحديد البعد القيمي للتجربة الشعرية،لأن هذه الوظيفة تقوم بالفصل بين التقريرات العلمية ولتعبير العاطفي، أوبالأحرى التفريق بين ما يسميه"النظرة السحرية للعالم"،والتي تقوم على الانفعال والخرافة والهوى، والنظرة العلمية التي يتميز بها القرن العشرون، "فالقضية العلمية نثبت صدقها أوكذبها عن طريق التحقيق العلمي بالمعنى الدقيق للفظة التحقيق،أما صدق التعبير العاطفي فمعناه أولا قبولنا هذا التعبير قبولا عاطفيا لتوافقه مع موقف من مواقفنا العاطفية وبعد ذلك قبولنا الموقف العاطفي ذاته الذي يتضمنه التعبير" [11]. ومن هنا فإن الشعر يخالف العلم من جهة استخدامه للألفاظ،لأن الشاعر يخاتل الكلمات ويتلاعب بمعانيها، فيخلق معاني جديدة تتسامى عن منطق العلم وتنافس مصداقيته، فالألفاظ بمثابة المفتاح لمجموعة الدوافع، فهي الوسيلة التي تنظم بها التجربة " فالألفاظ إذن تمثل التجربة نفسها لا أي ضرب من الإدراكات والأفكار، - وإن كان القارئ الذي لا يتناول الشعر على النحوالسليم – يرى فيها مجرد سلسلة من الملاحظات عن أشياء أخرى أما القارئ السليم فتحدث الألفاظ في عقله تفاعلا مشابها في النزعات،وتضعه في نفس الوضع الذي وجد فيه الشاعر" [12] فريتشاردز يرفض اللغة في جانبها المنطقي ويدعوإلى الاهتمام بجانبها التخيلي الرمزي،لأنه يضفي على القصيدة أبعادا دلالية تساهم في بلورة التجربة الشعرية بلورة جمالية، كما أنها تساهم في تنظيم دوافع الأفراد.
كما يرى ريتشاردز أن إساءة فهم الشعر راجع إلى الاهتمام بالعنصر الفكري فيه، لذلك يثور على بعض الاتجاهات التي ترى في الشعر أداة للإرشاد الأخلاقي أوالتعليمي " فالشعر خليق أن ينقذنا، لأنه وسيلة من الوسائل التي يمكننا بها التغلب على الفوضى " [13].
ويرى ستانلي هايمن انه:"من المستحيل أن يناقش النقد الحديث دون التحدث عن ريتشاردز،لأنه هوخالقه بالمعنى الحرفي،فان ما نسميه نـقـــدا حـديثا بـدأ عام1924 عندما نشـر كتاب مبادئ النقد الأدبي" [14].
غير أن هذا لا ينفي أن ما قام به ريتشاردز في مجال النقد التطبيقي، نقلة نوعية حققت نتائج مذهلة فيه، فالتحليل اللغوي الجمالي تحقق على يد هذا الناقد، الذي استطاع أن يتحول بالدرس النقدي من مجال النظام اللغوي المغلق،ومن مجال الانفتاح المطلق على السياقات الخارجية، إلى محاولة المزاوجة بينهما،إذ أصبح النص عند هذا الناقد عبارة عن نظام لغوي شبه مغلق تلعب فيه اللغة الدور الرئيس.
إن اللغة عند ريتشاردز أصبحت هيكل التجربة، فهي الأداة التي تقوم بإبلاغ مبتغى الفنان، وهي تقوم بدور إيصالي هام تضمن للقارئ عند القراءة النتاج الأدبي راحة نفسية وعصبية،وبهذا فإن اللغة تلعب دور مهدئ الأعصاب والناقل للتجربة الجمالية،كما تساهم في بناء الجوالشعوري للقارئ وقد ركز ريتشاردز على العلاقة بين ’’القصيدة’’ و’’.المتلقي.’’ ورأى بأن هذه العلاقة تتمخض عنها قيمة جمالية تساهم في تنظيم دوافع القارئ، بالإضافة إلى أن القصيدة عبارة عن نظام لغوي غامض يتشكل من مجموعة من الرموز الأسطورية التي تغذي الجانب الدلالي فيها،لذلك تمكننا من قراءتها بطريقة مختلفة كل مرة. وبذلك فإن اللغة من منطلق ريتشاردز لها قوة تأثيرية تساهم في تغيير الواقع لأن الشعر حسبه "سيحل محل الدين كقوة اجتماعية’’.
يقوم النهج اللغوي الجمالي على خطوتين أساسيتين هما الفهم والتفسير،ونعني بالفهم قراءة النص الفني قراءة واعية تعتمد على فــــــهم دلالته اللغوية ومـــضامينه المعنوية، وتفكيك رموزه المتشابكة والبحث عنها في خضم صوره البلاغية ورصد مفاهيمه المكررة،أما التفسير فهوعملية جوهرية تقوم على أساس تأويل تلك الإشارات ضمن التصور الرمزي والبعد التخيلي للظاهرة اللغوية.
- ويمكن تحديد خطوات هذا المنهج فيما يلي :
– التحسين العام للقراءة وبالتالي التحسين العام للتذوق الأدبي من خلال تطوير نقد يتناول ما يجد قبولا في النفس،انطلاقا من ربط أوإيصال طبيعتنا مع طبيعة العالم الذي نعيش فيه أوبالأحرى انسجام حالتنا العقلية والشعورية بالقصيدة.
– البحث عن جماليات النص الإبداعي وذلك من خلال تقصي رموزه وأبعاده التخيلية التي تشكل بنيته الدلالية العميقة.
– الاعتماد على الحوارية مبدأ منهجيا، من خلاله نستطيع إستكناه خبايا النصوص.
– الاهتمام باللغة كمبدأ رئيسي وجمالي يكون هوالجسر الذي يصل القارئ بالتجربة الفنية، ورفض النظام اللغوي المغلق، والأخذ بمبدأ التأويل كقاعدة أساسية في التعامل مع النصوص.
– الإقبال على النص باعتباره مجموعة من النصوص المتشابكة والمنصهرة فيما بينها،بالإضافة إلى أنه بنية لغوية ذات بعد أنساني يشارك في تفعيلها التاريخ.
– النص عبارة عن مجموعة من الثغرات التي يجب على القارئ الناقد ملأها وإعادة الانصهار معها.
– تيار النقد الجديد عند العرب :
أما في الوطن العربي فقد أنتقل هذا النقد مع نهاية الخمسينات وبـداية الستينات، وقد حمل لواءه مجموعة من النقاد العرب الذين اشتهروا بثقافتهم الانجليزية، ويعتبر الدكتور ’’رشاد رشدي’’ من أهم النقاد الذين حاولوا ترسيخ النقد الجديد،كحركة نقدية فنية في الثقافة العربية،وذلك من خلال مجموعة كبيرة من الكتب،التي دعمت هذا المنهج وهي ’’ما هوالأدب’’،’’مقالات في النقد الأدبي’’،’’النقد والنقد الأدبي’، ’’فن القصة القصيرة’’ وقد آزره في هذا الاتجاه مجموعة من طلبته الذين قاموا بتقديم النظرية النقدية الجديدة من خلال مجموعة من الكتابات الصادرة ضمن سلسلة ’’مكتبة النقد الأدبي’’، ومن أشهر طلباته ’’محمد عناني’’ الذي أصدر كتاب ’’النقد التحليلي’ عام 1962 عن كلينث بروكس ’’وسمير سرحان’’ في كتابه ’’ النقد الموضوعي 1990’’ عن ماثيوأرنولد، كما نشر عبد العزيز حمودة كتابه ’’أسس علم الجمال’’ عن كروتشه ونشر ’’فايز إسكندر’’ النقد النفسي عن ’’ريتشاردز’’.
بالإضافة إلى مجموعة أخرى كبيرة من الكتب والمؤلفات التي تناولت هذا النقد بالــــدراسة والترجمة،والتي ساهمت في إثراء المكتبة العربية وتطعيم الجانب المنهجي العربي بنقد جديد يساهم في تجلية واكتناه البعد الجمالي للنص العربي سواء أكان مورثا أوحديثا - وذلك بعد تطويعه بما يخدم السياق الثقافي العربي –طبعا-.
ويعتبر كتاب الناقدة اللبنانية ’’روز غريب’’والذي يعتبر متقدما نسبيا (1952) من أشهر الكتب التي تناولت هذا المنهج تناولا،مفصلا،اهتمت فيه هذه الكاتبة بالبعد اللغوي للإبداع. ويحمل عنوان " النقد الجمالي " بالإضافة إلى أسماء أخرى كمحمود الربيعي الذي اتبع عناوين محاكية للعناوين الغربية قراءة الروحية 1976 – قراءة الشعر 1958 محاكية لعناوين النقد الجديد فهم الشعر كلينث بروكس 1938 – فهم الرواية لروبرت وون 1943 بالإضافة إلى لطفي عبد البديع " التركيب اللغوي للأدب " ومصطفى ناصف الذي. تأثر بأعمال ريتشاردز أرمسترونغ،خصوصا كتابيه " مبادئ النقد الأدبي " و" النقد التطبيقي " وأنس داود الذي درس الأدب العربي وفقا لمنهج الرؤية الداخلية للنص.
يعتبر مصطفى ناصف من أهم النقاد الذين حاولوا، تطبيق المنهج " اللغوي الجمالي " في دراستهم، وقد امتثل لمجموعة من المبادئ الجمالية، التي ساعدته على تعقب البعد الجمالي للنصوص التراثية خصوصا، لأنه يرى بان النقاد أهملوا البعد الجمالي للموروث العربي، وذلك جراء اعتكافهم في محراب"النظرة المتصلبة " وعدم قدرتهم على التخلص منها، فالشعر الذي نظر إليه المتقدمون على أنه صنعة لفظية خالية من الذوق الفني المتعارف عليه، أوأنه شاذ عن القاعدة الفنية المرسومة، هذه الأحكام تحولت التي عند المتأخرين إلى قاعدة نقدية يستحيل التخلي عنها، رفضها ناصف وأعاد قراءة ذلك الشعر المنبوذ، بطريقة ثانية يحاول من خلالها التنصل من سلطة الحاجز النفسي الذي يعيقنا عن الفهم الجيد للموروث.
ونقصد بالحاجز النفسي تلك النظرة المقدسة لمجمل الأحكام والنصوص النقدية التي يرى فيها النقاد المتأخرون المثال النقدي الرصين،هذا الأخير أدى إلى تنميط الوعي النقدي وحجزه في قوالب جاهزة،أعاقتنا عن الإتيان بمنهج نابع من خصوصيتنا الثقافية، كما دفعت بنا إلى التشتت بين أرجاء الفكر الغربي، لاهثين وراء مناهجه قصد تأمين وعينا النقدي الذي نستطيع وصفه- لسوء الحظ - بالزائف.لذلك نجد ناصف يدعوإلى محاورة موروثنا محاورة واعية، بعيدة عن النظرة الاستعلائيـــة أوالتعسفية، لأننا لا نستطيع حسبه أن نؤمن نظرية عربية أصلية دون التعرف على تراثنا، الـــذي يراه زاخرا بمختلف الإشارات النـظرية والإبداعية، ضيعناها بفضل اعتكافنا على جوانبها الشكلية فقط وفي هذا يقول: " إن تاريخ النظر إلى الأدب العربي في العصر الحديث ليبدأ من نقطة الاستحياء الذي يلاحظ في أقول الرواد الذين ارسوا دعائم النظر والتقويم، نعم فلم تكن النهضة إلا شعورا بالقلق الجم لمن استيقظ، فيجد نفسه متخلفا عن الركب" [15].
ومن هنا حصلت القطيعة المعرفية بين ماضي عريق وحاضر زاخر بمختلف الصيحات العلمية المتطورة، فتشتت ذهن الناقد المفكر، وحصلت الصدمة المعرفية التي حدت من تفاعل الفكر العربي وتطوره.
وبالتالي فإن كل تلك المحاولات تقريبا أساءت فهم الموروث، وأعادت صياغة المواقف النقدية القديمة بأساليب حديثة لكنها بقيت محافظة على نفس مبادئها.
ومن هنا حاول ناصف إعادة قراءة الموروث من منطلق فلسفة الشك، التي رأى بأنها الأداة المنهجية الأكثر موضوعية، لتجنب الوقوع في الأخطاء والمواقف نفسها. وقد تأثر ناصف بطه حسين خصوصا في موقف هذا الأخير من الشعر الجاهلي، واعتباره شعرا منتحلا لا علاقة له البتة بعقلية الإنسان الجاهلي بما يحمله هذا الشعر من مواقف دينية وقيم إنسانية راقية، هذا المنهج تحول عند ناصف إلى أداة إجرائية، لا من أجل التحقيق مع الشعر الجاهلي ووضعه في قفص الاتهام كما فعل غيره، وإنما من لتحريره من القيود القرائية التي ألحقت به وغضت من شأنه، لذلك فهويدشن عصرا جديدا من التساؤلات الموضوعية التي من خلالها يحاول استكناه حقيقة الشعر الجاهلي، وفي هذا القول :" أحرى بنا أن نتذكر أن المنقبة العظمى هي إثارة السؤال لا تقرير جواب يختار" [16].
من هذه الفكرة بنى " ناصف " مدونته النقدية، إذ إنها عبارة عن مجموعة من التساؤلات الجوهرية، التي مست ثوابت الثقافة العربية، لأنه يرى بأن الموروث الثقافي العربي، لم يقرأ بالطريقة الصحيحة، إذ بقي فهمنا له قاصرا وناقصا، يتسم الاجترارية، لذلك فهويدعوإلى هدم محراب النظرية السكونية و" اعتناق مبدأ الحوار والتفسير " كتقنية إجرائية، تساعدنا على اجتثاث واقعنا الفكري من براثن الموقف المتصلب فقد أعاد هذا الناقد قراءة نصوص شعرية جاهلية، حكم عليها في زمنها بأنها زخرف لفظي لا ترتقي إلى مصاف القصائد الحسان،ويرى بأن هذه القصائد ظلمت، لأننا لم تحاول إعادة قراءتها بعقل جديد، وقبلنا بموقف أجدادنا وأسلافنا منها، وظلت تلك القصائد إلى يومنا منبوذة، ما دفع ناصف إلى كسر حواجز العادة القرائية والنقـــدية، وأعـــــاد صياغة الموقف صياغة جديدة مبنية على أساس الحوار الخلاق والسؤال الماكر الذي من خلاله نستطلع خبايا القصيدة ونكتشف أبعادها الجمالية الحقيقية وفي هذا يقول ’’ولقد يكون من الخير أن نبدأ عصرا من التشكك في معظم ما نعرفه عن الأدب العربي،وهذه مهمة صعبة،وقد تبدوخيالية ’’ [17].
فالعقل العربي أصبح رهين المواقف النقدية المتوارثة، التي تحولت مع مرور الزمن إلى سلطة فكرية تشكل الجانب الثابت فيه،الشيء الذي أدى إلى انهيار مبدأ الفاعلية النقدية،وتحجر الفكر النقدي العربي في إطار الموقف الوحيد وبالتالي دورانه في مسار الدائرة المغلقة التي يعد الخروج عنها ضرب من الإلحاد المنهجي الخطير.
لذلك يلح ناصف على مصالحة تراثنا، وإعادة قراءته قراءة ثانية، تسموعن فعل القراءة العادية المتداولة لأنه يرى بان هذه العملية كفعل إجرائي جمالي،أصبحت في وطننا العربي،عاجزة عن القيام بدورها كنشاط نقدي،لأننا قمنا بقولبتها ضمن خلفيات ايدولوجية قللت من شأنها ’’ كفعل جوهري لتحسين النص ووضعه ضمن حركة التاريخ والتحـول ذلك أن الـنص يبقى محــدودا بزمن الكتابة بخلاف القراءة التي تعتبر فعل تحول وانفتاح زمني عبر مسار الحركة التاريخية’’ [18]، فالقراءة بهذا المفهوم تخلت عن نمطيتها، لتأخذ أبعاد جدية تساهم في بناء الموقف الفكري العام الذي يعاني من التشتت والتأزم
"فمصطفى ناصف ’’ يرى بأن الموروث الشعري قتل من قبل النقاد المعاصرين، وذلك بفعل قراءتهم السطحية التي صورت العقل العربي بالرتابة والمادية، فالشعر الجاهلي -حسبهم- هوشعر مادي خال من أي فلسفة لأن العقل الذي أنتجه عقل مادي، ليست له القدرة على التجريد والتفكر، لهذا جاء ذلك الشعر مقسما إلى أغراض لا تتعدى حدود طبيعته الفكرية المحدودة وبيئته الصحراوية القاسية.
وقد رفض ناصف هذه الأفكار، ورأى من الضروري إعادة قراءة الموروث قراءة ثانية، أعاد من خلالها بلورة وعي نقدي جديد وفي هذا يقول : ’’ وقد صور العقل العربي في العصر الجاهلي تصويرا منفرا، فقيل إنه عقل مادي قاس رتيب لا يتجاوز المحسوس ولا يعلوعلى العلاقات القريبة ولا يستطيع أن يحيط بالأشياء من حيث هي كل، همه محصور في أن يتعلق بجــــــزء من الأجــــزاء ينكب عليه دون مـــلل، ثقافته محدودة، وتطلعه الفلسفي يسير كل أولائك طرحته وراء ظهري،وأردت أن اكسر الحواجز أولنقل أردت أن أحب الشعر الـذي اقبل عـــليه" [19].
فالشعر الجاهلي -حسب ناصف -شعر ذوأبعاد فلسفية،حمل بين طياته تساؤلات وجودية للإنسان العربي ركز رؤية للعالم مخالفة تماما عما كنا نظن أونعتقد كقراء وناقدين، لذلك يؤكد على التنصل من الثوابت الفكرية العالقة بالجانب النقدي والإبداعي، والى خلخلة تلك القاعدة النقدية الموروثة التي شكلت عبر تاريخها الطويل، ايدولوجيا السلف المقدسة، والتي يعد تجاوزها نوعا من ’’ الكفر المعرفي ’’.
ينطلق ناصف من قاعدة منهجية رصينة شكلت أفكار ريتشاردز في’’ النقد الجديد ’’ وأفكار نظرية التلقي والتأويل أهم دعائمها،وقد شكلت هذه المناهج الغربية مجتمعة في العمل النقدي لمصطفى ناصف أصولا لنظرية مهجنة - إن صح التعبير- حاول هذا الناقد إحكامها انطلاقا من تطويع مبادئ تلك النظريات مع بعضها حتى تستقيم لخدمة النص العربي التراثي،وهذه العملية حتى وإن بدا فيها نوع من التلفيق، فهي تسموعن ذلك لأن هذا الناقد كان واعيا لخطواته المنهجية، والقارئ لتاريخ هذه الأفكار يجد إنها عبارة عن شبه امتدادات منهجية ونظرية، فأصحاب نظرية التلقي تأثروا أيما تأثير بريتشارد التي كانت أفكاره القاعدة الأساسية والمنطلق الأول لمدرسة كونستانس الألمانية فما كان ’’ إيزر في هذا النقد إلا تلميذا يقرا ريتشاردز ’’، وينطبق هذا أيضا على إنجاردن، باعتباره من أهم رواد نظرية التلقي.
وبهذا شكل ’’ريتشاردز’’ بأفكاره ونقده الجديد خليفة معرفية ومنهجية انطلق منها ناصف ليشكل أجزاء نظريته،فالحوار كمبدأ أساسي عند ’’ريتشاردز’’،تجسد عند ناصف مفتاحا إجرائيا هاما من خلاله نستطيع إكتناه خبايا النصوص،فهذا الناقد رفض فكرة ’’النظام اللغوي المغلق’’ الذي تؤمن به النظرية البنيوية والتي قامت بالفصل بين ثنائية ’’ اللغة والكلام’’ ورأت بأن المزية الأولى للغة باعتبارها نظاما مغلقا،ومن هنا سلبوا أحقية حوار المتلقي مع النص،وتحول النص إلى جزر لغوية معزولة،لذلك يؤكد ناصف على الحوار باعتباره ’’المحرك الجمالي للنص ودلالته،ورفض تلك القسمة الجائرة، ورأى بأن الكلام هوروح اللغة فهــــوإذا حـــقيقتها التي لا تنكشف إلا في إطاره وبفعل الحوار الذي يكون بين مستخدمي اللغة متحدثين وسامعين.
فالكلام إذا هوحقيقة اللغة وهوالذي يمنحها موضوعيتها لأنه تجسيد لفعل الحرية التي استلبت مع النظرية البنائية،والتي حاولت إلغاءه وتنميط البعد الجمالي للنصوص اللغوية في إطار مجموع البنيات المغلقة،فاستحالت بذلك العملية الإبداعية إلى عملية شكلية تقوم على رصف البيانات المختلفة وتصنيفها.
فالحوار كدعوة إلى مشروع نقدي جديد يقوم على أساس تأصيل الكلام وإعطائه الفضل للقيام بالعملية الحوارية لأن الكلام ’’ليس صورة تالية لصور أخرى سابقة مقررة، الكلام هوالذي يجعل موضوعية اللغة إنسانية متحركة’’ [20].
فالحركية التي يبحث عنها ناصف هي حركية حرة في نسق التاريخ تلغي فرضيات الزمن، وتفتح أبواب العصور على بعضها،لا تقول بفكرة التحدد،وإنما تؤصل للانفتاح، ’’إن اللغة لا تتجلى إلا في الحوار والحوار لا يعني تسلط قانون أوذات مفردة،لا يفترض الحوار أن اللغة تملكنا. اللغة نشاط يولد من داخل تجاوز الفرد والشروط معا هذا هوالحوار. لذلك كان نمواللغة يعكس في جوهره التعالي عـما يـسمى الــنزاعات الفردية والقهرية’" [21].
لقد عكفت النظرية البنائية على سجن فاعلية النصوص الإبداعية ضمن نظم مغلقة،أحكمت وثاقها جملة من المستويات الدلالية والعروضية والصوتية،فأجهزت على المعنى ودحضته في إطار ذلك السياج النظامي الجائر، لذلك يؤكد ناصف على الحوار بأنه يحرر اللغة من ربقة ذلك السياج،ويعطيها أحقية التجلي ضمن أفق مختلفة ومتنوعة مما يدعم تعدد دلالات النص واحتفاظه بمكانته وإشراقه على مر العصور، فالنص عبارة عن تشكيلة هامة من النصوص الأخرى التي تدعمه وتحضر فيه |إما علانية أوعلى شكل رموز مبثوثة ’’ إن الحوار الجدير بالاعتبار يحتاج إلى إعلاء النص لحظات وكأن النص يغري سائر النصوص بالصمت والاستماع وإفساح الطريق وكل حركة تعتمد على مقاومة نفسها وإعطائها حقا من حقوق السكينة’’ [22].
’’فرتشاردز’ وناصف ينطلقان من فكرة أن النص غني غناء لا محدودا بطبقات كثيرة من المعنى,وهي عميقة لا قرار لها،والقارئ هوالذي يقوم بالتنقيب عنها،فلكل قارئ قراءته الخاصة والمختلفة ذلك لأن النص الإبداعي الذي يقرأه عبارة عن زخم نصوصي منصهر في عمل إبداعي واحد،والحوار هوالوسيلة الوحيدة التي تساعد القارئ على اكتناه المعنى وفي هذا يقول ’’التأويل قراءة ودود للنص،وتأمل طويل في أعطافه وثرائه،وما يعطيه لقارئ مهموم بثقافة الجيل من بعض النواحي،التأويل مبناه الثقة بالنص والإيمان بقدراته والانشغال بكيانه الذاتي والغوص المستمر في تداخلات بنياته’’ [23].
حاور ناصف النصوص الشعرية والنثرية انطلاقا من لعبة الكلمات،التي جعلها مبدأ أساسا في نقده،فالحوار الذي ينشده ناصف\ ريتشاردز لا تتضح معالمه ولا تستقيم إلا من خلال لعبة الخفاء والتجلي للكلمة. فللكلمة قدرة كبيرة على اختزال رؤى الكتاب وتوجهاتهم الفلسفية، فالكلمة لم تعد ابنة السياق العادي المتمثل في النص،وإنما أصبحت ابنة السياق الثقافي الذي أنتجها،لأنها تختزل في بؤرة تكوينها زخما مزاجيا وثقافيا وسياسيا وفكريا،"معاني الكلمات شركة بين المتحاورين المتقدمين والمحدثين ونستطيع أن نسمي هذا التداخل باسم الحوار،يتحاور الجميع أويتحدثون أمام نــــص أوآية أوحديث شـريف،كان التداخل بـين النصوص أصليا في بقية النقد العربي ما في ذلك شك " [24].
ومن هنا فان النصوص تتناسل فيما بينها انطلاقا من وحدة التجربة، فالتجربة عند ناصف لم تعد فردية، وإنما أصبحت قاسما مشتركا بين أفراد المجتمع، وبالتالي فهي تتموقع ضمن آلية اللاشعور الجمعي، وهي بهذا تمارس تأثيرا لا متناهيا على الشعراء والكتاب، لذلك تأتي نتاجاتهم متشابهة منصهرة فيما بينها، هذا التشابه يقع على جسد التجربة،لكن هيكلها كما يقول -ريتشاردز- المتمثل في اللغة يختلف بحسب الأساليب والنظم اللغوية التي يتبناها الشاعر،فالطلل والناقة والتغزل بالمرأة وغيرها من الأغراض التي لطالما كررها الشعراء في أشعارهم، لدرجة أنها أصبحت عرفا فنيا لا تستقيم القصيدة دونه، قرأها ناصف انطلاقا من آلية الفهم التي سنها ريتشاردز، والتي تقوم على أساس فهم دلالات النص اللغوية ومضامينه المعنوية وتفكيك رموزه المتشابكة والبحث عنها في خضم صوره البلاغية ورصد مفاهيمه المكررة، فتوصل ناصف إلى فكرة مفادها أن هذا التكرار ما هوإلا شعيرة يتناقلها الشعراء فيما بينهم كأنها صلاة واحدة يشارك فيها الجميع.
فالأطلال أوذكر الأماكن والديار هي نوع من الرقي أوالتعاويذ التي يطلقها الشاعر اتقاء للشر،كما أن الشاعر لم يكن معنيا بمكان معين أوبواد معين،بقدر ما كان معنيا بفكرة الأرض، فالمكان بالنسبة إلى الشاعر يمثل بؤرة انصهار الماضي، كما أن المكان هوالمعادل النفسي الموضوعي لفكرة انتقام الشاعر من العزلة والوحدة التي لطالما عانى منها في صحراء الجزيرة القاحلة،ومن هنا يتحلل المكان من إطاره الحسي ليتقلب في جوشعوري مفعم بفلسفة وجودية، تنم عن جملة التساؤلات التي عاشت في ذهن الشاعر الجاهلي الذي "كان حريصا على أن يذكر أسماء الأماكن التي تضم الأطلال.....ولنقل أن الشاعر يبدوكأنه يعوذ الأماكن من الشر. ذكر الأماكن ضرب من الرقي، وإلحاح الشاعر عليها يمكن أن يفهم على انه نوع من توقي فكرة الشر" [25].
ولقد قرأ ناصف شعر" زهير" و" لبيد"،ورأى بان قصيدة زهـير التي مطلعها "امن أم أوفى دمنة لم تكلم " تشبه إلى حد ما قصيدة "لبيد" التي مطلعها " عفت الديار محلها فمقامها " ورأى بان التشابه لا يقع على جسد التجربة*اللغة* وإنما التشابه يقع في إطار التجربة ذاتها، ومن هنا تحولت الكلمات عند ناصف إلى مجموعة من الرموز التي تمارس إشعاعا دلاليا لا متناهيا على القصيدتان، فالوشم لم يعد مجرد كلمة لها معنى ثابت،وإنما أصبحت هذه الكلمة جزءا من بنية النص الـثقـــافي الضخـم –كما يقول الغذامي – وبهذا تجردت القصيدتان من مدلولهما السطحي لتأخذا أبعادا دلالية لا متناهية، فالوشم هوالتجدد والبقاء، والبقاء يناقض فكرة الزوال ويلغيها،والتجدد ينفي فكرة النسيان،وانطلاقا من فكرة الخوف المصيري الذي يعانيه الشاعر،وانطلاقا كذلك من خوفه من العزلة والوحدة استطاع أن ينظم دوافعه انطلاقا من تأليفه بين المتناقضات"الخوف،الأمان"،"التجدد،النسيان "،وغيرها من الثنائيات الضدية التي شكلت في فكر الإنسان الجاهلي رؤية فلسفية خاصة.
أما بالنسبة للموروث النثري فقد انتهج الرمزية لقراءته،فهوت أمامه جل القراءات الأخرى، وأخذت النصوص النثرية خصوصا الجاحظية أبعادا دلالية ومعنوية أخرى، حيث انصهر النص النثري مع ناصف في بؤرة التفاعل الثقافي، وتحول الناثر التراثي إلى ناقد اجتماعي، وسيلته الكلمة وأداته الأسلوب الساخر،" فكتاب الحيوان "ما هوإلا كتاب في الحساسية اللغوية والثقافية الجديدة، أسسه الجاحظ من منطق رمزي بحت، وبهذا طغت على هذا النص الوظيفة الرمزية التي تمارس إشعاعا لا متناهيا على دلالات النص ومعانيه، وأصبح بهذا كتاب الحيوان نصا مشفرا شاركت في تفعيل معانيه وإخصاب،دلالاتــه تلك الثقافات المختلفة التي عـاشت مع الثقــافة الإسلامية كالفارسية والهندية وغيرها، هذا التفاعل أدى إلى اختزال تلك الثقافات في إطار موقف ساخر هازئ، لكنه يحمل بين أعطافه مخاوف كاتب حذق يعي خطورة اختلاط الأمة العربية بغيرها من الأمم، لذلك جاء نثره خادما لمقولة الجدل مؤسسا لفكرة المصالحة، وهذا يتضح من خلال محاولة الجاحظ في كسب اهتمام قراءه وجعلهم يشاركونه مواقفه وأفكاره من خلال تلك الحكايات الطريفة التي يلقيها بين ثنايا هذا الكتاب وهذه الحكايات ما هي إلا مواقف مشفرة يهدف الجاحظ من خلالها إلى تعرية واقع المجتمع العباسي المتأزم.
وانطلاقا من هذه الفكرة فإن النص يحافظ على حرمته،ويبقى دائما شعلة دلالية غير منطفئة،لا يفرض وصايته على أحد،ولا يقيد قارئه بمعنى محدد.وبذلك يفتح المجال لتعدد القراءات والفهم.
ويصر ناصف- كما فعل ريتشاردز من قبله- على توفر شروط في القارئ\الناقد، لأن النص الشعري أكبر من فعل قراءة عادية،النص الإبداعي عبارة عن أصداء نصوص أخرى تشكلت عبر أزمنة مختلفة ذابت فيما بينها لتكون نصا آخر جديدا يتمتع بنفس الحساسية الفنية التي يتمتع بها غيره من النصوص،لذلك يدعوالقارئ إلى أن يكون حاذقا متأملا، لأن التأويل ’’فن صعب المراس يستنطق فيه النص من أجل خدمة اتجاهات لهل أهمية في سير الحياة والفكر،التأويل رؤية للنص من باطنه وهوبذلك يتميز من التناول الخارجي’’ [26] .
وهذا لا يعني أن ناصف وقع أيضا في شرك ’’النظام اللغوي المغلق’’ بعد رفضه بشدة، وإنما يعني أن النص يتسامى عن فعل القراءة السطحية التي لا تقوم بخلخلة أعطافه،فهويبدي تمنعه أمام إلحاح القارئ لكي يختبر مدى جلادة صبره،يناوئ معرفته وذلك بالتخفي وراء ستار الغموض،حتى يتيح للقارئ فرصة أكبر في البحث والتنقيب ’’ومغزى هذا كله أن القراءة بطبيعتها محاورة النص يحاور غيره من النصوص من قبل ومن بعد،التأويل إذا لا يعبد فرضية النص الضيقة، التأويل على العكس يبحث عن تفاعلات النصوص وجوانبها المحذوفة، النص خطاب يحرك سائر النصوص ويغريها بأن تتقدم إليه.ولذلك كان تفهم النص،تفهما للخطاب المتبادل بين النصوص’’ [27].
فالإبداع الفني عبارة عن كينونة لغوية ذات أبعاد جمالية غير منتهية يشارك في كشفها قارئ\ ناقد متمرس،مبدأه قائم على أساس مساءلة النصوص لا إغراقها بقراءة نسقية أوسياقية تقضي عن جودتها،فالقراءة الحقة في نظر ناصف/ريتشاردز هي قراءة تساهم في كسر حواجز العادة القرائية وتكوين عادات أخرى أكثر موضوعية، تعمل على ربط البوارق القديمة بما هوحديث تقوم على إعادة ترتيب مواقفنا وذلك بإعادة كشف حقائق المتناقضات ومحاولة ربطها بعملية تخيلية، تساهم في درأ غموضها وتثبيت عناصرها المتناثرة ضمن مجال ذوقي راق يحكمه التفتح كمعيار جمالي، يساهم بدوره في إلغاء الحواجز المادية بين تلك العناصر وهذا ما يسميه ريتشاردز بالـــتناغم حيث أولاه عناية كبرى: ’’ فلا تناغم إلا إذا استوعبت وأذنت لاستجابات متنوعة بالنشاط ثم استطعت أن تحرره من التعارض المدمر،سوف تعترف دائما بالتعارض،سوف تلتمس إطار يضم هذه المتعارضات حتى تسلم من التمزق والتعصب’’ [28]
فالتعارض كنسق فكري، يقوم بتغذية النص من الجانب الدلالي ويعطيه أحقية التمثل في كل الأحقاب الزمنية بطرق مختلفة،لأن التعارض لا يشكل قيمة سلبية بقدر ما هوإجراء جمالي يساعد على إعطاء النصوص |إشاعات دلالية غير متناهية، لأن القارئ الناقد يفسره انطلاقا من خلفية معرفية مختلفة، وهذا ما يؤدي إلى تعدد القراءة.
لذلك يركز ناصف على قراءة الإبداع باعتباره ’’بنية لغوية’’، فالعمل الأدبي إبداع في اللغة، فهونشاط جمالي، يسموباللغة إلى مرتبة عالية إذ تتحول اللغة من مجرد وسيلة إلى غاية في حد ذاتها،لأنها تحمل بين طياتها تجربة فنية تساهم في التأثير على القارئ وتعديل مساره النفسي، وبالتالي تساهم هذه التجربة من خلال اللغة في ترتيب دوافع القارئ وتهذيب ميولا ته لأن دورها يرتقي إلى دور الطبيب النفسي،وفي هذا يقول :’’ولا ريب من أن الغرض الأخير من ارتياد التحليل النفسي للفن هوتوضيح الأفكار الأساسية الكامنة وراء مضمون الظاهر للعمل الفني، ومن ثم نالت الصور في الشعر عناية جمة،فالصور ذات دلالتين اثنين،أحدهما ظاهرة والثانية خافية قد تؤثر في عقل القارئ منذ القراءة الأولى تأثيرا لا يستطيع أن يتبين مرجعه’’ [29].
فالتحليل النفسي الذي تناوله ريتشاردز كأساس منهجي في دراسته اللغوية،يحتضنه ناصف لكن بنوع من التحفظ،لأن هذا التحليل سيغرق العمل الأدبي في جملة العقد والاضطرابات النفسية،وبالتالي سيلغي فاعلية البعد الجمالي،لذلك نجد ناصف يقول بفكرة ريتشاردز أن للعمل الأدبي أوالإبداعي معنيين أودلالتين ’’ظاهرة وباطنه’’،والتحليل النفسي هوالذي يساعدنا على كشف تلك المعاني الباطنة من خلال اعتماده على تقنية تحليل الرموز وفك شفراتها،فالرمز شكل عند كليهما مبدأ أساسي لإكتناه معاني النصوص الغائرة، بالإضافة إلى أن الرمز يساعد على إغناء القصيدة بالمعاني المتجددة لأنه كتلة لغوية غامضة ومشفرة، تمارس سلطة الإخفاء والتجلي في النص الإبداعي، لذلك يحاول ناصف تقصيها، وإعطاءها دلالات متنوعة تساهم في الكشف عن معاني النص اللامحدودة. ولا تعني هذه الفكرة - كما سبق وأن قلنا - إغــراق النصوص في أبعاد سيكولوجية بحـتة، لأن اللغة ذات بعد رمزي ’’والدلالة الإستاطيقية للعمل الفني ليس لها معادل سيكولوجي’’، لأن مادتها غير موجودة في الواقع ولا في نفس الأديب بل هي ’’تنبع من العمل ذاته، وهي تنبع من منطق اللغة لا منطق العواطف’’ [30] .
وبهذا يرفض ناصف -على عكس ريتشاردز-،ذلك الإغراق في الجوانب النفسية للعمل الأدبي، لأن هذا الإغراق سيحرمنا من كشف حقيقة العمل الفني الجمالية وسيعيقنا على إقامة حوار موضوعي خلاق مع ذلك العمل، لكن ناصف احتفظ بفكرة أن للعمل الأدبي دلالتـين ’’ظاهرة وباطنه’’ وأسقط هذه الفكرة على الكلمة ورأى بأن لها وظيفتين ’’رمزية وإشهارية’’ وقد تناول الكلمة في عدة فصول بالشرح والتحليل ورأى بأن وظيفتها محكومة بالسياق الذي تنتج فيه، فهي ابنة السياق لذلك تختلف وظيفتها نتيجة لاختلاف طبيعة النص، فهي تستخدم كرمز فني ورمز علمي، فهي في العلوم الطبيعية تستخدم كإشارة أوعلامة كما هومعروف خصوصا في الرياضيات، وأن الفرق بينهما مرده كما أسلفنا -إلى السياق- فالوظيفة الرمزية في العمل الأدبي تقوم بتحويل الكلمة من عملها الإشاري البسيط إلى عمل إيحائي يساهم في إثراء العمل الأدبي،ويرى ناصف أن الوظيفة الرمزية للكلمة لا يوظفها الكاتب عن قصد،لأنه في أغلب الأحيان في كتاباته يحتكم إلى صوت اللاشعور الذي يقوم بإملاء مجموعة من الكلمات المفتاح التي لا يفهمها حتى الأديب في حد ذاته، هذه الكلمات تتضافر مع السياق لتنتج عملا أدبيا مشبعا بدلالات رمزية تشكل أعطافه.
كما يقوم المنهج اللغوي عند ناصف/ ريتشاردز أساسا على عملية الفهم باعتبارها العمود الفقري للتحليل
اللغوي، فبدون الفهم لا نستطيع التعامل مع القصيدة واكتشاف أبعادها الجمالية ودلالاتها اللامتناهية،وقراءاتها المختلفة حيث يقول’’لقد ترك لنا النقد الجديد انطباعا لا نخطئه هوأن الفهم عمل من أعمال التجاوز ما ينبغي لنا أن نستحي منه الفهم نتاج عقل قادر، الفهم فعالية هذا هوصوت النقد الجديد’’ [31].
فالفهم الذي يقصده ناصف هوالفهم الذي يتحلل من الموقف السطحي البسيط،الفهم الذي يناوش أجزاء القصيدة،ويبحث بين خبايا سطورها وكلماتها عن معاني أخرى غزيرة،الفهم الفعال الذي يريده يفتت تلك الطبقة الكلسية التي غطت النصوص ويحاول الغوص بين أرجائها باحثا عن معاني جديدة، ولا يتم هـذا إلا إذا كان القارئ متعاطفا مع ما يقرأ، لأن كراهة النص لا تؤدي إلا إلى سجنه ضمن قراءة رديئة. لذلك يدعوناصف إلى اعتماد المحبة كمفتاح إجرائي جمالي يساعدنا على الفهم الأفضل للنصوص ’’ فإذا منح القارئ اعتقادات العمل الفني قدرا أوليا من التعاطف أستطاع أن يفهم مــستويات هامة من معناه" [32].
إن المنهج اللغوي عند ناصف قائم على أساس ثلاثة مبادئ تعتبر رئيسية في عمله النقدي وهي ’’اللغة،التفسير والتواصل’’ هذه المبادئ شكلت إطارا منهجيا أنطلق منه ناصف لتكوين نظريته النقدية،حيث حاول هذا الناقد في مدونته أن يحاور النصوص ويكشف أبعادها الدلالية الغير منتهية كما يهتم باللغة باعتبارها الوسيط الجمالي بين العمل والجمهور وأكد على أن العمل الأدبي عمل يتسامى عن فكرة السياق والنسق لأنه يحمل أبعادا جمالية يشارك في اكتشافها قارئ/ناقد حاذق وذلك من خلال عملية الحوار الخلاق.
كما يرفض ناصف بعض المناهج السياقية،ويتمثل موقفه في الحذر من تطبيقها على التراث،أنه يرى بأنها غيبت النص تغييبا كليا،واهتمت بأشياء خارجية لا تمت إلى النص بصلة،لذلك نجـده في نقـده حريصا على أن يفصل بين الأدب ونفسية صاحبه،وبين الأدب والوسط الاجتماعي،وبين أدب والنزعة البنائية.لأنه يعي تماما بأن المحاولات النقدية السابقة تطرفت في التخلي عن البعد الجمالي للعمل الأدبي وغاصت في أشياء خـارجية، فـتحولت الـدراسة النقدية مـن دراسة جمالية إلى عملية جرد،ودراسة منطقية " والذين يقرؤون العمل الأدبي قراءة الأسباب ونتائجها يروعهم - كما قلنا- مبدأ إعادة فهم النصوص القديمة والحديثة معا " [33].
فتطبيق المنهج الاجتماعي جعل الدراسات النقدية تدور في مدار مغلق لأن هذا المنهج أخذ على الشعر الجاهلي قصوره في تصوير الحياة الاجتماعية،وصارت هذه الفكرة شعار يتداوله النقاد وكان "أستاذنا المرحوم أحمد أمين يعد هذا التقصير جزءا من جناية الأدب الجاهلي على الأدب العـربي وسارت هذه الفكرة سيرتها وعادت إلى الظهور أكثر من مرة وما يزال شعار كثير من الدارسين لآن هوأن الشعر الجاهلي انفصل في كثير من الأحيان عن المجتمع ولم يكن متضامنا معه " [34].
فـناصف يرفض هذه الفكرة رفضا مطلقا ويرى بأن الأدب الجاهلي صور البيئة الاجتماعية العربية أحسن تصوير.إن هؤلاء الدارسين-حسبه- لم يستطيعوا التفريق بين القصيدة \ العمل الأدبي كمفهوم جمالي لغوي،وبين الباعث على قولها،هذا الخلط أدى إلى اتهام الموروث بتقصيره وتحميله قصور المنهج الاجتماعي على إحاطته الشاملة بأجزاء الدراسة، "ومهما يكن فقد أريق مداد كثير عن الصلة بين الأدب العربي والحياة،وظهر الخلط المنفر بين الباعث على قول القصيدة وطبيعة القصيدة ذاتها،وكثير من القصائد فيما يحدثنا الدارسون يصدر عن علاقات اجتماعية غير سليمة، فـــكيف يستقـــيم في رأيهــــم أن نــدخـل عـــليها بــقلب سليم ونحـن نخلط على هذا النحوبين سيرة الشعراء وشعرهم.
كما يرفض مصطفى ناصف بأن يكون العمل الأدبي وثيقة نفسية لصاحبه، ونادى بضرورة تحرير النصوص من نفسية صاحبها لأن هذا الحصر،قد يحول الدراسة النقدية من دراسة موضوعية أساسها المنطلق الفني والجمالي إلى دراسة علمية سيكولوجية هدفها تــحـــديد المظاهر المــرضية،أورصد مجموع المكبوتات الشاذة عند المبدع" لقد آن لنا أن نحرر النص الأدبي من نفس صاحبه".
فحتى ولوعرف الدارس الكثير عن حياة المبدع، فان دراسته لا تتعدى حدود الأجواء النفسية المصطنعة من قبل المبدع. فالمبدع عند كتابه نصه،لا يكتب ما يحس به فقط أوما يمليه عليه الجانب اللاشعوري،ولكن قد تتعالى بداخله أصوات مختلفة تتجاذب تفكيره، فقد يكتب ما يحلم به،وقد يكتب ما يجب أن يكون عليه، لأن الفنان في موجة ارتدادية مع الواقع يصالحه حينا، ويخاصم ذاته حينا آخر،يسرد أغواره الداخلية ثم قد يتحول إلى سرد أحلام تتنوع بين واقعية ومستحيلة،"وهب أن في وسعنا أن نعرف كثيرا عن حياة الكاتب وليس هذا متيسرا دائما،فـــهل نستطيع أن نـــزيد بـــصيرة بأعماله ؟ علينا أن نتجنب الإجابة السريعة،فالفنان ربما لا يضع في عمله الفني،ما هوعليه بل يعطي لنا ما يود أن يكون عليه، أوما يمكن أن يصبحه أوما يخشى أن يؤول إليه. فهنا تبدأ العثرة، فكثيرا ما ظننا أن الأعمال الأدبية تصدر عن أصحابها بطريقة أوتوماتيكية.".
ومن هنا فإن الأعمال الأدبية ليس مجرد حالات نفسية تبرز كلما تغير مزاج صاحبها،فهي ليست تلقائية وإنما تتحرك ضمن مسار خاص نابع من ذاتها متحـرر من ذات صاحبها ذلك أن الدلالة الاستاطيقية للعمل الفني ليس لها معادل سيكولوجي،لأن المادة الخام هـذه الـدلالة تنبع من العمل الأدبي ذاته،ولا تنبع من حياة المؤلف،لأن منطقها "اللغة"،باعتبارها كينونة تستند على البعد الفني الذي كلما تعمقنا فيه كلما ابتعدنا عن ذاتية المؤلف، فالسائغ المشروع أيضا، أن ينظر إلى العمل الفني على انه نظام لا شخصي مغلق ينطوي على نفسه فقط.
فالانسياق وراء المنابع السيكولوجية قد يوصلنا إلى مرحلة تعمية المعنى، حيث ينفصل النص بحمولته الفكرية والجمالية عن واقع الدراسة وتصبح النتائج المحصلة عليها مــن طرف الــدارس كائنات غريبة، تسبح في جانب الفلك النفسي، عاجزة تمام العجز عن الإحاطة الكلية بصلب النتاج الأدبي، فيقع نوع من الانفصال بين النتائج المحصل عليها وبين الجوانب الجمالية في النص.
كما يرفض ناصف البنائية لأنه يرى بأنها قـتل لروح اللغة المتجدد،ووأد لفاعليتها اللامتناهية، لأن هذه النزعة تركز على فكرة النظام المغلق،الذي يعمل على عزل اللغة ووضعها في إطار العلاقة الارتباطية " فاللغة عند البنائيين نـظــام تنكري رائع. إن الـــعلامة تــزاح عــن موضوعها في الشعر حقا،ولكن كيف يمكن تصور هذه الإزاحة بمعزل عــــن الانزياح المستمر، هل العلاقة المضطربة بين العلامة والمرجع لا تتضمن الحنين إلى تجاوز ذاتها ".
ويتراوح موقف مصطفى ناصف من المناهج الغربية بين الرفض والقبول،حتى أنه في بعــض الأحيان يستعصى على القارئ أن يفهم موقفه نتيجة لكثرة الإطناب في مـوقف الرفض والإسهاب في موقف القبول، وفي بعض الأحيان المزاوجة بين الموقفين ولكن في الأخير يتضح موقفه القائم على أساس تبني هذه الـــمناهج بنوع من الحذر،وفي هذه النقطة يقـول شـايــف عــكاشة "ولكن هذا لا يعني أن ناصف يرفض الاتجاهات السياقية رفضا كليا، فطبيعة الأدب لا تستسيغ هذا الفرض"، فالعمل الأدبي شأن كل النشاطات الإنسانية لا يشذ عن التأثير والتأثر بالظـــروف التي وجد فيها، وأن معرفة الــظروف والعـــــوامل المحيطة بالعـــمل الأدبي قـــــد تفيد أحيانا في دراسة بعض الأعمال.