برقوق نيسان
عندما جاء نيسان أخذت الأرض تتضرّج بزهر البرقوق الأحمر وكأنها بدن رجل شاسع، وثقّب بالرصاص. كان الحزن، وكان الفرح المختبئ فيه مثلما تكون الولادة ويكون الألم، هكذا مات قاسم [1] قبل سنة، وقد دفن حيث لا يعرف أحد، دون اسم [2] ويبدو الآن بعيداً كأنه لم يكن طوال العمر إلا واحداً من هذه الأحلام العظيمة التي تظلّ مع المرء وكأنها جزء منه، وترافقه إلى الفناء دون أن توجد حقاً، ومع ذلك فإنها قادرة على أن تكون مثل حقيقة ما، يفتقدها المرء من حين إلى آخر، ويشعر في لحظة أو أخرى ملمسها وكأنها فرت للتو من بين راحتيه.
وكانت نابلس، ذلك الصباح، منكفئة على نفسها وكأنها ما تزال نائمة، وقال أبو القاسم [3] لنفسه إن المدن مثل الرجال، تشعر بالحزن. تفرح وتنام، وتعبر عن نفسها بصورة فريدة تكاد لا تصدّق، وتتعاطف بغموض مع الغرباء أو تركلهم.. بل إن الأحياء في المدينة مثل الأولاد في العائلة، لكل منهم شخصيته ومنزلته ومزاجه، فثمة شوارع محببة، وأخرى تتقاذف العابرين فيها بفظاظة، وشوارع خبيثة، وأخرى صريحة، ولكن أبا القاسم كان الآن منشغلاً بتلك الصورة الغريبة التي اقتحمته كأنها قذفت على رأسه بحجر: بدن الأرض مثل بدن رجل مثقّب بالرصاص، يتضرّج بزهر البرقوق، ويكاد المرء يسمع نزيز الدم يتدفق من تحته، ولا ريب إن قاسم بدا كذلك بعد هنيهات من سقوطه، ثم ذبلت بقع الدم على سترته الخاكية مثلما تجفف شمس الصيف المتوقّدة أوراق البرقوق الهشّة. استدار أبو القاسم، وأخذ يتأمل من جديد تلك البقع الحمراء الممتدة أمام عينيه فوق تلّة صغيرة، ودون أن يعرف بالضبط ما الذي يريده. خطا نحو التلّة، وأخذ يجمع باقة من الزهر المخضّب بالاحمرار القاني، وقال لنفسه وهو ينحني: "منذ سنة وأنا آتي لسعاد [4] بكفّين فارغتين كل شهر، ولا ريب أن منظر هذه الزهور سيبدو على الطاولة البيضاء جميلاً، ثم إن....." وقد شعر بالتعب وهو يستلّ الزهور الغضّة، وبدت له أشد تمسّكاً بالأرض مما خيّل إليه حين كان ينظر إليها من بعيد، وما لبثت الأفكار التي كانت تحوم على غير هدى في رأسه أن أخذت تترابط بصورة تبعث على الدهشة، فقد تذكّر أنه حين رأى سعاد لأول مرة في أريحا لفت نظره قرص أحمر من زهر البرقوق يتوقد وسط شعرها الفاحم السواد، وإن ذلك بعث فيه السعادة لأن طلال قال بأن سيدة تحمل وردة حمراء ستزوره في أريحا [5]، وتحدثه عن قاسم، وقد دقت هذه السيدة الباب في اليوم التالي، وطلبت منه أن يحدثها بالتفصيل عما حدث له حين استدعي إلى المخفر الإسرائيلي قبل أسبوع لتعرض عليه جثة أحد الفدائيين القتلى [6] وحين كان يروي لها قصته أخذت عيناها السوداوان تنضحان دمعاً من تلقائهما، وقالت له:
ـ يا أبا القاسم ليس بوسع أحد أن يملأ مكان أحد، وقد كان قاسم بطلاً، وعليك أن تكون فخوراً به، وقد فعلت شيئاً حسناً حين أنكرته لأنك أنقذت الكثيرين من رفاقه. لا تقل الحقيقة لأحد، وخذني أنا مكان قاسم.
ومنذ ذلك اليوم وهو يزورها في نابلس، ويقيم في بيتها يوماً أو يومين، ويأخذ الدنانير الخمسة ويعود إلى أريحا [7] وقد قال لها ذات يوم: "الختيار.. هل ما زال حيّاً؟" وحين قالت له "لا" أجابها "هل تقبلينني اباً.؟" وقالت سعاد "يا أبا القاسم، أنت والدنا كلنا، لأن الشهيد كان أخانا كلنا.." وعندها سألها عما إذا كان يستطيع أن يفعل شيئاً مفيداً، وأجابته سعاد بنبرتها الحاسمة: "ذات يوم، ربما"
وقف أبو القاسم مستشعراً الألم في خاصرته من طول الانحناء وكانت باقة الزهر الأحمر قد أصبحت كبيرة وبدت في يده الخشنة شعلة من اللهب، ووراء التلة كان بيت سعاد بشبابيكه الصغيرة في الطابق الثاني، وقال لنفسه "ربما كانت تنظر إليّ الآن"، وقرر أن يبادرها بالجملة ذاتها التي بادرته بها حين زارته لأول مرة [8] في أريحا، ومن ثم انطلق نازلاً التلة إلى الطريق، ومضى نحو منزل سعاد.
آخر شيء يذكره أبو القاسم من عالمه القديم كان ذلك السلم الطويل الخشن الذي يوصل إلى بيت سعاد، إلا أن الباقة الحمراء التي كانت تتوقّد في كفّه ظلت أكثر رسوخاً في ذاكرته، منذ هذه اللحظة، أكثر من أي شيء آخر: لقد صعد درجات السلم ذلك الصباح دون أن يراوده أي شك بأنه سيعود فينزلها كما صعدها، ويعود إلى عالمه القديم الذي يبدو له الآن أنه غادره تماماً. إن للرجال أقدارهم المكتوبة منذ الأزل، والتي هي مثل أسمائهم، تلتصق بهم في لحظة لا يدركون كيف جاءت. لقد قرع الباب متوقعاً وجه سعاد بملامحه القاسية، ولكن الجميلة، إلا أنه فوجئ بقبضة قوية تعضّ كتفه، وتجذبه بعنف إلى الداخل، ثم سمع اصطفاق الباب وراءه مثل انفجار.
وحين استرد توازنه على المقعد الذي قذف إليه، أطلّت عليه ثلاثة رشيشات، ووراءها وقف جنديان وضابط. وفتح أبو القاسم فمه دون أن ينوي قول شيء معين، إلا أن الضابط نهره: "هش"
وأخذ أحد الجنديين يفتّشه، باحثاً في جيوب قنبازه عن شيء ما، وعندما تنبّه أبو القاسم إلى وجود ثلاثة أشخاص آخرين في الغرفة، واقفين ووجوههم إلى الجدار، وفي الزاوية كان ثمة طفل في العاشرة يبكي بما يشبه الهمس، ولم تكن سعاد هناك، وبدت صورة والدها المعلّقة على الجدار، بشاربيه العظيمين [9] أكثر غرابة مما كانت في أي وقت مضى، وكان ما يزال مشوشاً، غير قادر على إعادة ترتيب ما حدث، حين قبضت يد الجندي بشدّة على زنده ورفع يده بعنف إلى فوق. عندها فقط شهد باقة الزهر الأحمر مرة أخرى، وتعجب لهنيهة كيف لم تسقط من يده، ولم تتمزق وسط ذلك العراك الأحمق الذي يجري دون هدف معيّن. ودفعه الجندي إلى الحائط، وساعده الجندي الآخر في صلبه أمام الجدار بذراعيه المفتوحين إلى أقصى ما يستطيع، وبهدوء أرغمه الضابط على فتح كفّه ببطء، وتناول الباقة بحذر مبالغ به، وسحبها بما يشبه الاحتفال المنظّم على الطاولة الرخامية [10] ووقف يتأمّلها لحظة، ثم استدار فجأة بعنف:
ـ ما هذا.؟
ـ هذا.؟
ـ أجل ما هذا.؟
ـ كما ترى، زهر يا سيدي.. برقوق نيسان.
ـ هه!
وابتسم ابتسامة خبيثة ونظر من طرف عينيه إلى الجنديين، وعاد يسأل وكأن فترة المزاح التي أتاحها قد انتهت:
ـ ما هذا.؟
ـ ورد، زهر، برقوق، يا سيدي..
ـ إنني أسألك للمرة الأخيرة.. ما هذا..؟
ولم يستطع أبو القاسم أن يعرف إن كان الضابط يحاول أن يجعل منه أضحوكة أم أنه جاد حقاً، واكتسحته موجة من حيرة حزينة، وأخذ ينظر حواليه محاولاً الاستنجاد بشيء ما، كان الطفل قد كفّ عن البكاء، وأخذ ينظر بفضول إلى باقة الزهر الأحمر فيما كان وجهه يكتسي بملامح تشبه الدهشة، وتذكر سعاد فيما كانت الأفكار تعود إلى التراكب في رأسه، وتساءل إن كان يتعين عليه الآن مرة أخرى أن يدخل الغرفة الثانية وينظر إليها ممددة على السرير وراحة يدها مفرودة الأصابع بالقوة وملطّخة بالدم.
ـ ماذا يمكن أن يكون هذا يا سيدي غير زهر البرقوق الذي تفتح هذا الصباح على قارعة الطريق.؟
ـ أنا الذي أسألك.
وهزّ أبو القاسم كتفيه وسكت. لقد أدرك أن الكلام لم يعد يفيد أحدا، وأن ثمة شيئاً لا يفهمه يحدث بغموض، وأمام هذه الحيرة لا يسعه في الواقع إلا أن يصمت، إلا أن الضابط نهره:
ـ تهزّ كتفيك وكأنك بريء.! أتريد أن أساعدك قليلاً.؟ من الذي أعطاك هذه الباقة.. ولماذا.؟
ـ قطفتها عن الطريق ، وكنت....
ـ أأنت عشيقها.؟
وضحك الجندي، فيما تساءل أبو القاسم:
ـ استغفر الله .. عشيق من.؟
ـ عشيق العفريتة التي تسكن هنا..
ـ أنا رجل عجوز يا سيدي، أيمكن أن يحدث هذا.؟
ـ إذن لماذا أحضرت الزهر.؟ من الذي أرسلك.؟
ـ جئت...
إلا أن صورة قاسم جاءت عاصفة مثل الارتطام، ووراءها جاءت صورة سعاد. ولم يعد يعرف ماذا يتعين عليه أن يقول، فيما أخذ ينظر حواليه وهو شديد الارتباك، محتاراً تحت النظرات التي كان يسلّطها عليه، ثم سأل بصوت أدهشه كيف انفلت من صدره مليئاً بالاستجداء:
ـ ماذا حدث لسعاد يا سيدي.؟ هل هي بخير.؟
ـ كفى تمثيلاً أيها الشائب، وقل لي ما معنى هذا.؟
ونظر أبو القاسم إلى حيث أشار الضابط. كانت باقة الزهر الأحمر ملقاة فوق الطاولة، وبدت أقل جمالاً مما كانت، وأجاب:
ـ مذا يمكن للزهر أن يعني يا سيدي غير الودّ.؟
ـ هه!
ـ إسأل هؤلاء كلهم.. أيعني الزهر غير الودّ والاحترام.؟
ـ من الذي بعثك بالباقة.؟
ـ أنا الذي قطفتها.
ـ من الذي طلب منك أن تقطفها.؟
ت لا أحد..
ـ ما هي علاقتك بسعاد إذن.؟ هل أنت عشيقها.؟
وأخذ الجندي [11] الواقف قرب الطاولة يضحك بصوت مكتوم، وقال شيئاً لم يسمعه أحد بوضوح، وعاد فضحك من جديد لفترة قصيرة وصمت حين رمقه الضابط [12] بشدّة، أما أبو القاسم فقد شعر بأنه قد اصطيد، وبأن أكفّاً جبّارة تطبق على صدره، وأنه بحاجة إلى سعاد الآن أكثر من أي وقت مضى.. أترى انتهى الصمت.؟ أصار بوسعه أن يقول لهم بأن ذلك الفتى المضرّج الممدد على الطاولة في مخفر أريحا هو ابنه قاسم.؟ أم أن ذلك كله قد أضحى الآن سرّاً أكثر حاجة للكتمان مما كان في أي وقت مضى.؟ لقد أحس فجأة بأنه مؤتمن على شيء خطير لا يعرف ما هو بالضبط، وربما كانت حياة سعاد نفسها، بل حياة هؤلاء الشبان الثلاثة الواقفين ووجوههم إلى الحائط، بل ربما حياة ذلك الطفل الصغير أيضاً. معلّقة في كلمة واحدة قد يلفظها في أية لحظة دون أن يدري، أيمكن لذلك كلّه أن يكون حقيقياً..؟
ـ إنها باقة زهر يا سيدي، وهي لا تعني شيئاً خطيراً على الإطلاق. قلت لنفسي وأنا أمرّ من هنا: هذا بيت صديقي القديم، وابنته وحيدة فيه، ولا بأس لو حملت لها باقة زهر!
ـ لا فائدة من الكذب أيها الشيخ الخبيث. سوف ترى بعد برهة أن الصدق هو أقصر الطرق إلى السلامة.. أتقول الحقيقة الآن أم ماذا.؟
ـ زهر يا سيدي.. زهر.
ـ هش..
وفي الخارج جاء الصوت خافتاً في البدء، ثم أخذ يعلو شيئاً فشيئاً، كانت ثمة خطوات تصعد الدرج، وشعر أبو القاسم بأن الأمر آخذ في التعقّد، وأن الفخ المنصوب في الغرفة إنما يتعلّق بقضية أكثر خطراً مما يعتقد، وبعد برهة دقّت يد ما خشب الباب. وفي اللحظة التالية انقضّ الجنديان، وقد فتح الضابط الباب فجأة، على الرجل الواقف هناك وقذفاه إلى الداخل، وامتلأت الغرفة فجأة بجلبة غريبة، وأخذ الطفل الذي كان قد أركن إلى الصمت قبل برهة يبكي من جديد، بنشيج أكثر مرارة، فيما مضى الجنديان يفتشان الرجل بعنف وشراسة ثم ساقاه إلى الحائط، وأرغماه على رفع ذراعيه إلى الأعلى ووجهه نحو الجدار، وعاد الجنديان فوضعا الأوراق التي انتزعاها من جيوبه على الطاولة، ووقفا وراء الضابط الذي قال بصوت يملؤه رنين الانتصار:
ـ صيد ثمين اليوم، هذه الملعونة سعاد كانت تعيش تحت بصرنا ونحن لا نعرف، وها هم أفراد العصابة يتقاطرون إلى بيتها واحداً إثر الآخر.. أنت.! ما اسمك..؟
وأجاب الرجل الجديد ووجهه ما يزال إلى الحائط:
ـ إنني زياد حسين والد الطفل الجالس هنا يا سيدي.. جئت أفتش عنه بعد أن تأخر.
قال الضابط:
ـ إذن أنت الذي أرسلته..
ـ نعم يا سيدي، خبزنا صباح اليوم صدراً من الكنافة، كعادتنا في الحيّ بعثنا مع وليد صحناً لسعاد.. وعندما تأخر وليد جئت أبحث عنه..
ولأول مرة منذ أن دخل الغرفة شهد أبو القاسم صحن الكنافة على الطاولة، وكانت القشرة الشقراء تلمع من فرط ما أشبعت قطراً، وتساءل بينه وبين نفسه: "أتراها قصة حقيقية.؟ أيمكن أن يكون زياد هذا والد أو شقيق فتى ما استشهد ذات يوم وهو يأتي كل شهر لسعاد كي يأخذ خمسة دنانير.؟"
وقال الضابط فجأة:
ـ استدر وانظر هنا
واستدار زياد، فبدا وجهه شديد الصفرة، كانت عيناه كبيرتين، وربما بسبب حجمهما بدا خائفاً أكثر مما كان صوته يوحي، وكان أول ما فعله أن نظر حيث كان الطفل جالساً ينشج بهدوء، وهزّ رأسه هزّة خفيفة جعلت الطفل يصمت، ثم أخذ ينظر حواليه متفحّصاً الموجودين، وسأله الضابط:
ـ هل تعرف أياً من هؤلاء.؟
ـ لست أعرف أحداً، بل إنني أكاد لا أعرف سعاد نفسها، ولكن العادات يا سيدي تقتضي منا أن نرسل مثل هذه الهدايا الصغيرة إلى جيراننا.
وأشار نحو الصحن، وافتعل ابتسامة سمجة:
ـ إنني غالباً ما أفشل في صنع الكنافة، وأخشى أن يكون طعم هذا الصحن هو الجريمة الوحيدة التي ارتكبتها..
وضحك وحده ضحكة صغيرة، ثم صمت دون أن يخفي حرجه، وعاد يتودد بعد لحظة:
ـ هل أستطيع أن آخذ وليد يا سيدي وأذهب إلى البيت.؟ إن أمّه ستشعر بالقلق..
ـ هش..
ـ هل حدث شيء لسعاد يا سيدي.؟ هل أمسكتموها.؟
ـ لماذا تسأل.؟
ـ لأنها جارتنا..
ـ ماذا تعرف عنها.؟
ـ إنها طالبة، تقيم هنا في الصيف، ونادراً ما يزورها أحد، وقد أعطت هذه السنة بعض الدروس في "الأونروا"
ـ وأين هي الآن.؟
ـ لست أدري يا سيدي، كنت أعتقد أنها هنا، ولذلك أرسلت لها صحن الكنافة.. ماذا فعلت يا ترى.؟
ونهره الضابط بحركة من يده، وأخذ يتجوّل في الغرفة وهو يفكّر، ثم سأل فجأة:
ـ أتعتقد أنها ستعود إلى هنا.؟
ـ من.؟
ـ سعاد طبعاً أيها الغبي..
ـ لست أدري.. هذا بيتها على أي حال، وكل إنسان يعود إلى بيته..
وقاطعه الضابط بحدّة:
ـ إلا إذا استطاع الهرب قبل ذلك.
وخيم الصمت من جديد، فيما ظل زياد [13] واقفاً ينظر إلى طفله بحيرة، وفجأة حدث شيء غريب لم يلحظه إلا أبو القاسم، فقد التقت عيناه بعني زياد، ولمح فيهما بومضة تشبه البرق رسالة قصيرة، تشبه أن يقول المرء للآخر: "أيها الرجل، إننا نعرف بعضنا، فاطمئن.." [14] وأحس أبو القاسم بكنز غامض يملأ صدره، وأن عليه الآن أن يكون أكثر حذراً، فثمة أمور كبيرة تجري، وهو بلا ريب يلعب فيها دوراً كبيراً دون أن يعرف على وجه التحديد ما هو دوره هذا، على أنه تيقّن الآن من أن هذا الرجل، الباحث بقلق عن ابنه، هو الذي ينبغي أن يقود خطواته منذ هذه اللحظة، واستجمع أبو القاسم أطراف شجاعته وقال:
ـ ألا تستطيع أن تقول لهم يا سيدي إنني رجل بريء، وأن عليهم إطلاق سراحي..؟
وحدث شيء غريب في الغرفة، إذ أخذ الجميع يضحك، بما في ذلك الأستاذ زياد والضابط.. قال زياد:
ـ ماذا تحسبني أيها العجوز.؟ إنني في وضع أكثر سوءاً من وضعك..
وقال أبو القاسم مصرّاً:
ـ إنها باقة زهر يا سيدي.. باقة زهر فقط.
ـ ولماذا تكون باقة الزهر أكثر براءة من صحن الكنافة.؟
وصاح الضابط:
ـ هش..
وقال زياد بلهجة ضارعة، متجهاً نحو الضابط:
ـ ألا أستطيع يا سيدي أن آخذ ابني وليد وأمضي.؟ إن صديقه طلال ينتظره..
ـ هش..
ولمح أبو القاسم مرة أخرى تلك الرسالة الغامضة تومض كالبرق في عينيّ زياد وهما تطلان عليه وكأنهما تعبران به، ولكنهما كانتا تحملان رسالة، وأبو القاسم يعرف أكيداً أنهما كانتا كذلك، إلا أنه لم يكن قادراً على فهمهما. ثمة علاقة ما بين باقة الزهر وصحن الكنافة، وربما كان الطفل الذي اسمه طلال هو جزء من تلك الرسالة الغامضة، ولكن أبا القاسم لم يكن ليستطيع أن يفهم أولئك الأساتذة أو يتجاوب مع إشاراتهم، حتى في مواقف أكثر طلاقة من هذا الموقف، وأورثه هذا الشعور غضباً مهيض الجناح، فضرب راحتيه على ركبتيه وقال:
ـ لست أفهم شيئاً.. لست أفهم شيئاً..
ونظر إلى زياد، آملاً أن تستطيع عيناه الشائختان أن ترسلا شيئاً إلى الرجل الواقف هناك، فيما أخذ الضابط والجنديان ينظران بفضول إلى الرجل العجوز وهو يواصل ضرب راحتيه على ركبتيه، وأخيراً قال الضابط:
ـ "إن قصتك لم تنته أيها الشيخ الخبيث، بل إنها لم تكد تبدأ، فأحسن لك أن تلتزم الصمت، أما أنت فسوف تظل معهم.. إن كل من يأتي إلى هذا البيت، طوال اليوم والأيام القادمة، هو متهم بالضرورة، التحقيق سينظر في أمر إطلاق سراحكم أو اعتقالكم، والآن لا أريد أن أسمع صوتاً.."
وصاح زياد:
ـ ألا نستطيع أن نرسل كلمة إلى أهالينا.؟
ـ قلت لكم أن تصمتوا..
ـ ألا تستطيع أن تقول لنا لماذا نحن هنا.؟ ماذا فعلت سعاد.؟
ـ هذا ليس من شأني، ستعرفون كل شيء في التحقيق..
ـ ما ذنب هذا الشيخ.؟ إنه يبدو أكثر براءة منا جميعاً، ألا تسمحون له بالذهاب إلى بيتي ليطمئن زوجتي، ويطمئن طلال.؟
ـ قلت لك أغلق فمك، وإلا أغلقته بالقوة..
وأخذ أبو القاسم ينظر مجددا إلى زياد، غير قادر على فهم ما يجري على وجه التحديد، وقد استطاع أن يلتقط للمرة الثانية اسم "طلال"، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفهم ماذا يعني هذا كله، وماذا يتعين عليه أن يفعل، ومضى يتململ في مقعده، مستعيداً في ذاكرته صورة طلال القديمة، الذي صار يراه لماماً منذ أن تسلمته سعاد. إنه يدرك أن زياداً يريد أن يقول شيئاً عن طلال، ولكن أي طلال.؟ وما علاقته هو بالأمر.؟ لقد تذكر الآن أنه مرة سأل سعاد إن كان طلال يعمل معهم. فضحكت وقالت: "لولا طلال لكانت حالتنا حالة.. طلال يا أبا القاسم رجل، رجل قادم من تحت.."
أيمكن أن يكون الأمر على هذه الخطورة.؟ إن المفتاح بيد الأستاذ زياد، وهو وحده الذي يجيب على هذه الأسئلة، ولكن لماذا لا يفعل.؟ إذا كان الأمر خطيراً على هذه الصورة، فلماذا لا يقدم الأستاذ زياد على التصرّف.؟ وفجأة سأل أبو القاسم نفسه: لو كان قاسم هنا مكان الأستاذ زياد، كيف كان سيتصرّف.؟ ثم عاد فسأل نفسه مرة أخرى: لو كان مكاني، ماذا كان يفعل.؟
وقاطعه صوت مكتوم يشبه خطوة خائفة، وكان يمكن لهذا الصوت أن يعبر دون انتباه لو لم يتحرك الضابط بهدوء، ويرفع سلاحه عن ركبتيه وهو ينظر نحو الجنديين اللذين اتجها نحو الباب دون أن يصدرا أي صوت، ومضت فترة من الوقت خيم فيها صمت عميق، ثم صدر ذلك الصوت المكتوم لخطوة خائفة مرة أخرى، وبدت وكأنها في أول السلم، وعاد الصوت يخطو، وكأنه يصعد بحذر.
ودون أن يتخذ قراره بصورة مسبقة، انتصب أبو القاسم وصاح:
ـ لماذا تقبضون علينا.؟ ماذا فعلنا.؟ إننا أبرياء.
وانقض عليه الضابط وصفعه بقفا كفّه فألقاه على الأرض، واندفع الجنديان نحوه وجرّاه بعيداً إلى الداخل، فيما ركض الضابط باتجاه الباب، وألصق أذنه هنيهة على الخشب، ثم فتحه بعنف واتجه إلى الخارج.
وضع أحد الجنديين ركبته على صدر أبي القاسم، وصوّب فوهة الرشاش إلى رأسه، فيما أخذ ابراهام يراقب بقية المحتجزين بحذر، وما لبث الضابط أن عاد، وأغلق الباب وراءه بإحكام وهدوء، ثم أشار للجنديين فأجلسا أبا القاسم على المقعد. كان فمه ينزف خيطاً رفيعاً من الدم يتسرب في شعر لحيته الشائب، ولكنه بدا في حالة غير خطرة، وقال له الضابط بهدوء مبالغ فيه:
ـ لقد تعمدت ذلك أيها الثعلب العجوز.
وقال أبو القاسم بوهن:
ـ تعمدت ماذا يا سيدي.؟
ـ لقد صرخت كي يهرب..
ـ من.؟
ـ أنت الذي ستقول لنا من.. يا إلهي.! كنت على وشك أن أعتقد أنك عجوز بريء.. أما الآن فقد تيقنت من كل شيء، لم أكن على خطأ حين شككت بهذه الباقة اللعينة..
ـ إنها باقة زهر يا سيدي.. برقوق نيسان..
ـ ها!
وتنازل الضابط عصا قصيرة عن الطاولة، دقيقة كأنها من الخيزران، وأشار بها نحو زياد، ثم أخذ ينقلها كمؤشر بين زياد وأبي القاسم. وأخيراً اتجه نحو زياد:
ـ ورأيت أيها الثرثار.؟ أرأيت.؟ كنت أنت الذي اقترحت أن نطلق سراح هذا الشيخ الخبيث لأنه يبدو بريئاً.! ها! هذا الشغل شغلنا,, إنه يعتقد الآن أنه أتاح فرصة الفرار لأحدكم. كم هو مخطئ هذا العجوز المسكين.! سننتزع اسمه مثلما ينتزع الضرس النتن.
وتنحنح زياد، وهو ما يزال واقفاً مكانه، وقال للضابط:
ـ هذا الشغل شغلكم يا سيدي، ولكن إذا سمحت لي أرجو ألا تقلق كثيراً، فقد يكون الشخص الذي مرّ أمام السلم هو الطفل طلال، صديق وليد، جاء يسأل عنه وخاف عندما سمع الجلبة فهرب.. ألم أقل لك يا سيدي قبل ذلك إن طلال ينتظر وليد ليلعب معه.؟
وهزّ الضابط رأسه مرتاباً وهو يبتسم ابتسامة العارف الذي لا يسهل خداعه، وقال بصوت لا يكاد يسمع:
ـ لم تكن الخطوة خطوة طفل..
ومرة أخرى، بمثل لمح البرق، شهد أبو القاسم في عينيّ زياد، وهما تعبران به ومضة تشبه الرسالة..........
((انتهت))