الواقعية والوقوع
مع انتشار وسائل الإعلام المرئية والمقروءة وتنوعها ومع اتساع مساحة البث التلفزيوني والكتابة الصحفية بصورة أصبح معها ملء الفراغ بالكمِّ أهمّ كثيرا من النوعية والمستوى، في ظل هذه الوضعية الضاغطة ظهر حشد من الخبراء والباحثين والاستراتيجيين الذين تتغير صفاتهم وتخصصاتهم طبقا للموضوع الذي يعلقون عليه، فإذا كان الموضوع في العنف أصبح المذكور خبيرا في قضايا الإرهاب وإذا كان الموضوع يتعلق بالموقف الأمريكي في العراق أصبح هذا "النفر" أو "الزول" أو "الزلمة" أو "المعود" خبيرا في الاستراتيجية الأمريكية بل قد لا يتورع أن يطلق على نفسه متخصصا في النظام السياسي الأمريكي.
هذا الحشد من الخبراء لا تعرف عنهم شيئا سوى مخرجاتهم التي يخرجونها علينا ليل نهار فلا تعرف أين تعلموا؟ أو من أين تخرجوا؟ أو في أي الموضوعات - إذا كان لديهم تخصص- قد تخصصوا ؟ وعلى الرغم من ذلك صار هؤلاء هم صنّاع الرأي وحرّاس بواباته والمتحكمون في تشكيله وتوجيهيه.
وأصبحت مقولاتهم وآراؤهم هي التي تحرّك النقاش وتتحكّم في وجهة الحوار ونتائجه، وللمرء أن يتخيل مآل حالنا إذا قاد أمتنا أنصاف العلماء أو أشباههم. فنصف العالم نصف جاهل كما كان يردد على مسامعنا منذ ربع قرن أستاذنا الدكتور رفعت المحجوب أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة القاهرة.
ويشارك هؤلاء الخبراء مجموعة من هواة العمل السياسي الذين دخلوا إلى السلطة من نوافذ الفساد أو المحسوبية أو الارتباط بمصالح دولية معينة. هؤلاء جميعا أصبحوا عباقرة "الواقعية" ومنظّريها ومراجع الفكر السياسي الواقعي ورواده، يصبون جام غضبهم واحتقارهم على أولئك الحالمين الرومانسيين الغارقين في الوهم المتمسكين بالثوابت والحريصين على المبادئ والمحافظين على هوية هذه الأمَّة وأمنها القومي ومصالحها العليا.
فدائما يزين هؤلاء الخبراء والسياسيون الهواة أقوالهم وتصريحاتهم بمفهوم "الواقعية" على أساس أنها الكلمة السحرية التي تعطي لآرائهم الشرعية والحجية وتدحض آراء معارضيهم وتنزع عنها المصداقية وتلقي بها خارج دائرة الحوار.
لذلك وجب أن نناقش هذا المفهوم ونميز بينه وبين نقائضه ومعاكساته، فإذا كان التعريف المتداول للسياسة أنها "فن الممكن" فالممكن لا يعني الموجود أو المتاح وإنما يعني نهاية حدود الإمكانيات والإمكانات، فهي "فن الممكن من أجل التمكين" كما يقول خالد الحسن السياسي الفلسطيني. لذلك تكون السياسة حركة تفاعلية مع الواقع تنطلق منه نحو تحقيق الأهداف باستخدام كل الوسائل المتاحة وتعظيمها واستنفاذ كل الإمكانات وتفعيلها. ومهما كانت الإمكانات ضعيفة فإن العنصر الإنساني يلقي عليها معنى ويحولها من شيء عديم القيمة إلى قيمة تفوق طاقة الأشياء، فالحجر والحصى في يد الطفل الفلسطيني له معنى غير تلك الحصى التي يلعب بها آخرون "السيجة"، والملابس عديمة القيمة ضعيفة المستوى على جسد غاندي لها معنى يفوق طيلسانات أعظم الملوك.
ومن ثم فالواقعية تعني الانطلاق من معطيات الواقع والابتكار في تفعيلها من خلال رؤية نافذة تخترق حجب الزمن وتغوص إلى ما وراء الواقع لتخلق واقعا أقدامه على أرض الواقع ورأسه فوق السحاب، ولولا هذه الرؤية البصيرة ما كانت معجزة دبي واقعا ملموسا يتجاوز كل محدوديات وقيود الواقع العربي والواقعيين العرب.
فالواقعية التي يتشدق بها أنصاف العلماء من الخبراء والاستراتيجيين وهواة السياسة ليست واقعية بل هي "وقوع"، أي هي حالة من وقوع الرأس تحت القدم بحيث أصبحت العيون لا ترى إلا حوافر ولا تلامس إلا التراب وتقبل بالأدنى لأنها في الأدنى، وتتنفس الهوان لأنها ملتصقة بالثرى والطين وتسعى إلى تبريره واعتباره الحد الأقصى للطموح.
فذلك الفكر الوقوعي وليس الواقعي يدعو أمّتنا إلى الرضا بالموقع الأسفل وتقبيل اليد التي تهيمن حتى يصبح التفاعل مع المحتل، المنتهك لسيادة الأمَّة وحرمتها وحريمها الناهب لثرواتها والمدمر لإمكاناتها، شرفا يتشدق به الوقوعيون ويفاخرون به بل يعتبرونه نضالا ومقاومة وجهادا.
ولو تخيلنا أن هذه الفصيلة البشرية الوقوعية كانت هي السائدة في التاريخ البشري لخلا هذا التاريخ من الثورات وحركات التحرير والابتكارات والاختراعات وكل الفعاليات التي كانت تمثل خروجا عن المألوف، ولتمَّ اعتبار المخترعين الكبار والفلاسفة العظام مجانين أو حالمين أو سفهاء، ولما تقدمت البشرية خطوة إلى الأمام ولما حصلت الشعوب على حقوقها ونالت حريتها وكرامتها.
ولو طالبنا الأفارقة في الولايات المتحدة بالوقوعية لما كان هناك مارتن لوثر كنج ومالكوم أكس ولما كانت هناك حركة لتحرير السود من نير العبودية ونيلهم لحقوقهم الإنسانية.
ولو كان زعماء حركات التحرير في العالم الثالث واقعيين بالمعنى الوقوعي لما كانت هناك ثورات تحرير ولما نالت هذه الشعوب استقلالها وتخلصت من الاستعمار.
لذلك لن يكون واقعيا مطالبة الفلسطينيين بقبول الواقع المتغير (المتجدد) الذي تفرضه يد الاحتلال الغاصب على أرضهم، ولصارت هناك واقعيات مختلفة؛ فالواقع الذي صنعته اتفاقية أوسلو وقبله الواقعيون حينذاك هو غير الواقع الذي صنعته اتفاقيات طابا وشرم الشيخ وخريطة الطريق وقبله الوقوعيون حينها، وذلك كله غير الواقع الذي صنعه الجدار ويطالب الفلسطينيون بقبوله.
فأي واقعية ينبغي أن يكون عليها الفلسطيني، أو بعبارة أخرى لا بد أن يكون وقوعيا حتى يقبل بالواقع كما يحدده عدوه.
والحال هكذا بالنسبة للعراقيين ولغيرهم من الشعوب المقهورة المضطهدة. لذلك وجب علينا أن نحرر الفهم والعقل من فلسفة الوقوعية ونتفاعل مع الواقع كمعطى مادي تستطيع يد الإنسان أن تحوله وتغير معانيه ودلالته.