المثقف بين الإدانة والخيانة
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر،عادت مقولة المثقف بكل قوة إلى الساحة السياسية و الثقافية ، ليتناولها المختصون و السياسيون بالتحليل و التفكيك ونقد شامل في مفهومها و أدواتها و ملابساتها ،بل ذهب البعض إلى إعادة تشكيل بنيتها الفلسفية و وظيفتها الاجتماعية.
غير أن ما يلفت الانتباه في العشرية الأخيرة هو اقتران المثقف بمقولة السلطة أو الحاكم ، وهو اقتران ليس بجديد في تاريخ المعرفة. فهناك نماذج عديدة لهذه الصيغة في الحضارات و المجتمعات السابقة .لكن المثير للحيرة و العجب اليوم هو الشكل الفضيع لصورة المثقف و هو يسبح في فلك الحاكم،أين نجده يظهر كمبرر و مدافع عن سياسة و أيديولوجية الحاكم. و نتيجة لهذه الممارسة – أو الخيانة بتعبير جوليان بندا – ذابت في المثقف كل مهامه التاريخية :النقد،السؤال والمعارضة .إنها المهام ذاتها التي منحت له مبرر الحركة و الوجود في التاريخ ،كصانع وشاهد ومبدع.
في تاريخنا الإسلامي كما في التاريخ الغربي،اشتد الصراع بين السلطة السياسية و السلطة الثقافية اكثر فاكثر،و اخذ عدة أشكال ،كان أبرزها الإهانة ، العزل عن الوظيفة،النفي وصولا إلى الاغتيال و في احسن الأحوال إلى التكفير. و لا زال التاريخ يحتفظ بمأساة "أهل الطريق"كالحلاج و الشيخ النفري و السهروردي الذين راحوا كلهم ضحية أفكار و آراء تنبع من الفلسفة الاشراقية و العرفانية اطمأنوا إليها كمنهج للوصول إلى الحق و الحقيقة.
و عادة ما كان مثقف البلاط يتواطأ مع الحاكم لمساعدته في تلفيق التهم و خلق المبرر الديني و السياسي للإنقظاظ على معارضيه و على كل من يشجب استبداد السلطان و يعلن في الناس موقفه الديني أو السياسي المخالف لأيديولوجية الحاكم و مصالحه السلطانية و مذهبه الديني.و تمثل محنة احمد ابن حنبل و اضطهاد علماء و أئمة أهل البيت خير مثال على ذلك.
على أية حال ،لا يمكن أن نعمم هذه الحالة المأساوية على كل مراحل حكم المسلمين في التاريخ.كما أنه من المبالغة و المزايدة بل و من غير الموضوعية أن نجعل العلاقة الدرامية بين المثقف و السلطان هي الحالة النمطية السائدة في الحضارة الإسلامية ، و من يريد إثبات أو نفي هذه المسألة يحتاج إلى جهد كبير في البحث عن كنه و نشأة المثقف و عن جملة الظروف التي مارس فيها وظيفته داخل خلايا المجتمع الإسلامي.
انه من المنصف أن نؤكد أن هناك في المقابل فترات حكم طال فيها التعايش بين الحاكم و المثقف كانت نتيجتها إنجازات ضخمة من المعارف و الإبداع . الكثير من الكتاب و مثقفي الحداثة عندما يكونون بصدد تشريح هذه المسالة يسقطون في متاهات عميقة فيصعب عليهم فك الجدل بين سلطة الثقافة و السياسة في التاريخ الإسلامي. و هذا راجع بالدرجة الأولى إلى سياق المقارنة الذي أقاموه بين المثقف المسلم و المثقف الغربي و محاولة إسقاط ظروف و مسار هذا الأخير على قرينه في التاريخ الإسلامي.
فهذا نهج فاشل في الصميم و لم يؤدي إلى أي نتائج عقلانية و عملية،لأنه يغفل حركة الزمان و طبيعة المكان و سياق الأحداث ، فضلا عن تباين العقيدة و النظرة إلى الحياة و الكون. فمواقف مفكري التنوير في أوروبا هي غيرها في التاريخ الإسلامي،و رغم حركة النقد التي تجمعهم إلا أنها –عملية النقد- كانت تتم لدى الاتجاهين في ضوء رؤية حضارية خاصة.
على صعيد آخر ، لا يمكن –أو من الصعب على الأقل- التمييز و الفصل بين الثقافة و السلطة في الغرب. و هذا راجع إلى طبيعة الدور الاجتماعي و الإنساني الذي اختاره المثقف لنفسه.
تاريخيا اكتملت معالم هذا الدور منذ لحظة الطلاق بين السلطة و الكنيسة . وهذا إنجاز مهم لعبت فيه أفكار ابن رشد دورا كبيرا و هو ما يعرف في الغرب بالرشدية اللاتينيةl’Averroïsme latin .تطورت هذه الريادة للمثقف مع فلاسفة الأنوار و تبلور دوره في صيغته النهائية مع مطلع القرن التاسع عشر ،أين ساهم في بناء و إرساء مفاهيم جديدة تعزز سلطة العقل في المجتمع و السلطة، و النموذج البارز هو ما يعرف بقضية دريفوس l’Affaire Dryfus و هي الحادثة التي وقع فيها مجموعة من المثقفين الفرنسيين على بيان يدافعون فيه عن حق الضابط المتهم بالتجسس و المطالبة بمحاكمة عادلة .
إنها المرة الأولى التي ظهرت فيها صورة المثقف في خطاب اميل زولا (Emile Zola 1840-1902) المفتوح " إني اتهم..." طالب فيه بالحقيقة و العدالة و اختتمه بسلسلة من الاتهامات على نحو " إنني اتهم الجنرال مرسييه ، اتهم خبراء الخطوط الثلاثة...اتهم وزارة الحرب...اتهم المجلس العسكري العالي...ليست لدي سوى رغبة واحدة:أن أرى النور...باسم الإنسانية التي عانت و لها الحق في السعادة " .بالنسبة للمؤرخين الاجتماعيين فإن تاريخ انفصال الثقافة عن السلطة و بوادر نشأة المثقف الجماعي أو العضوي –كما يسميه غرامشي-،بدأ منذ هذه اللحظة بالذات .يوجز لنا المؤرخ المعاصر اريك كـام( Eric Cahm) الحادثة بقوله:"شهدت القضية،إذن مولد الفكرة الجديدة للمثقف الملتزم كعضو في جماعة،تتكون من الكتاب و الفنانين و كل المشتغلين بالثقافة...إن المثقف الملتزم يقع خارج أبنية السلطة في المجتمع ،و يعبر عن رأيه باسم مبادئ أخلاقية أو ثقافية عليا...". لقد أرست هذه الاحتجاجات تقاليد جديدة دفعت حركة التنديد و الاعتراض بقوة إلى الأمام ، استمر على إثرها مثقفون آخرون في التعبير عن مواقفهم بشجاعة لا مثيل لها ،كان في مقدمتهم الأديب و الشاعر فولتر(Voltaire) الذي عرف عنه دفاعه المجيد عن كالاس Jean Calas المتهم بقتل ابنه بالسم لاسباب دينية و حكم عليه بالموت على دولاب العذاب سنة 1792 ،ثم ظهرت براءته عام 1795 بعد موته.كما دافع هوغو (V.Hugo) عن البؤساء و المحرومين المهمشين من الشعب.و تكريما له نقل جثمانه عام 1908 ليدفن إلى جانب الأديبين العظيمين زولا و فولتير.
إن جوهر المسألة في الوقت الراهن هو مدى وفاء المثقف للمبادئ التي يرفعها و إخلاصه لمهامه المرتبطة بمأساة شعبه.لقد كان زولا أمينا في تصوير الحياة الواقعية و صعود البرجوازية الفرنسية،و كان مثالا للصدق و الثبات في هجومه على الكاثوليكية و وضع العلم بديلا عنها. و في الوقت نفسه راح آخرون ينظرون للقيم البرجوازية،و يمجدون بكل بشاعة القمع و التسلط،كما وقفوا في وجه التيار المستنير الداعي إلى الإصلاح و التغيير في النظرية و التطبيق.فهذا بريخت(B.Brecht) يصور لنا المشهد الدنيء لأمثال هؤلاء بقوله" في الوقت الحالي يمتدح الممثلون الأدبيون للمجتمع الشمولي الدولة التي قامت بتفريخهم ، و يرفضون النظرية التي كشفت الطبيعة الحقيقية لهذه الدولة".
في مثل هذه الأجواء ، اصبح المثقف حسب الجابري " يتحدد بالدور الذي يقوم به في المجتمع كمشرع و معترض و مبشر بمشروع أو على الأقل كصاحب رأي و قضية ".و أمام صعود التيار الاحتجاجي للمثقفين، ازداد في المقابل التواطؤ بين المثقف و السلطة ،أين تحول المثقفون من تبرير القمع الداخلي للشعوب إلى تبريرهم و تشجيعهم للهيمنة و الإمبريالية، كان في طليعة هؤلاء فئة المستشرقين الذين وظفوا معارفهم بالشرق ليعبدوا الطريق أمام موجات الاستعمار.
و هكذا استمرت جدلية المثقف و السلطة مع مثقفي القرن العشرين ،و كانت حدة الصراع في النصف الأخير من هذا القرن على اشدها .فلا أحد يجهل اليوم البيان الذي وقعه ستون مثقفا أمريكيا تحت عنوان "على أي أساس نقاتل؟"، يبررون فيه السلوك المجنون للإدارة الأمريكية بعد 11 سبتمبر ، معتبرين أن الحرب على ما يسمى بالإرهاب هي حرب عادلة ،وبالفعل نفذت أمريكا هذه الحرب لتترك وراءها آلاف القتلى و تدمير كل البنى التحتية لأفغانستان ونفس الأمر حدث مع العراق انتهى في الأخير باحتلاله كليا. و لكن في الجهة الثانية تحرك اليسار الأمريكي ليعلن رفضه القاطع للحرب في بيان له تحت شعار " ليس باسمنا " ، جاء في مطلعه:"كي لا يقال أن الشعب في الولايات المتحدة الأمريكية لم يفعل شيئا حينما أعلنت حكومته حربا لا حدود لها و أسست لمبادئ قمعية متصلبة جديدة. نحن الموقعون و الموقعات أدناه، ندعو شعب الولايات المتحدة الأمريكية لمقاومة السياسات و التوجهات السياسية العامة التي انبثقت غداة الحادي عشر من أيلول 2001 و التي تشكل مخاطر جدية تهدد شعوب العالم أجمعين".
على اثر هذه الحركة الثنائية في الولايات المتحدة ، تفجرت حناجر المثقفين في كل أنحاء العالم ليعبروا عن موقفهم مما يجري حولهم ببيانات التأييد و الرفض و الاحتجاج،كان اشهرها رسالة جوابية وجهها مثقفون سعوديون على بيان الأمريكيين تحت عنوان "على أي أساس نتعايش؟".
الواقع كلما كان الحديث عن المثقف ، النقد ، الهيمنة و السلطة امتثل أمامنا نموذج رائع للمثقف الملتزم ،رحل عنا منذ أسابيع ،انه إدوارد سعيد. يجسد هذا الإنسان بامتياز صورة المثقف الذي يقول لا، بكل جرأة و شجاعة و دون مساومة أو تنازل ، لقد ناضل إدوارد بكل جدية و صدق داخل المجلس التشريعي الفلسطيني لسنين طويلة إلى أن استقال منه بسبب التوقيع على اتفاقية أوسلو ،الذي كان يرى فيها إدوارد ظلما للشعب الفلسطيني وتنازلا عن حقوقه الكاملة.و استمر يمارس النقد الأدبي و السياسي و الفكري داخل ثقافات و هويات متعددة . بالنسبة إلى إدوارد سعيد "المثقف لا ينزع إلى تهدئة الأوضاع، و هو ليس معززا للإجماع،بل هو شخص يرهن وجوده كله للإحساس النقدي،و هو إحساس يشي بعدم تقبل الصيغ السهلة أو الأفكار الجاهزة أو البراهين الناعمة الملائمة تماما لما تقوله الجهات القوية أو التقليدية ،و ما تفعله و لا اقصد هنا عدم الرضا السلبي بل الاستعداد الفعال لقول ذلك على الملأ". هذه هي رسالة المثقف الأكثر جلاء و وضوحا و التي نحن في حاجة ماسة و ضرورية لتمثلها في مجتمعاتنا اليوم. اعتقد أن موقف الأديب المصري صنع الله إبراهيم الرافض لاستلام جائزة المجلس الأعلى للثقافة ، إنما هو رسالة إلى جميع المثقفين العرب ليقفوا وقفة تاريخية مع القضايا القومية التي تزداد سوءا يوما بعد يوم،سواء على الصعيد الداخلي ،القطري، أو على صعيد الجبهة الخارجية التي تمثل فيها قضية فلسطين الواجهة الرئيسية . إن موقف صنع الله هو تذكير لنا بدور الكاتب و المثقف ، خصوصا و هو يرى أمام عينيه التمزق الداخلي و التكالب الخارجي .
كم هو محير ذلك الخبر الذي نشرته الصحف عن مسارعة بعض الكتاب الجزائريين لتأسيس خلية دعم و تضامن مع صنع الله .لست ادري ماذا تريد هذه الخلية بالضبط،كان الأجدر بكتابنا أن يفعلوا شيئا يماثل ما فعله صنع الله . أن يثبتوا حقيقة انهم كتابا، بإمكانهم فعل الكثير لبلدهم و لأمتهم ،لماذا لا نراهم فاعلين و مشاركين في القضايا المصيرية ؟ لماذا يتخلفون عن أداء الواجب الوطني او القومي عندما يحين؟ هل استطاع مثلا المثقف أن يقول لا عندما رأى القطار يخرج عن سكته؟ هل قرأنا بيانا للمثقفين ينددون و يحتجون على وضعية حقوق الإنسان ؟ و هل رأينا تحركا أو احتجاجا بسبب توقيف المسار الديمقراطي؟ هل اعترض أحد من المثقفين على المغتال محمد بوضياف عندما ساق آلاف الجزائريين إلى جنوب الصحراء؟ من من المثقفين له الجرأة ليطالب بالتحقيق في اختطاف مئات و آلاف الجزائريين؟ و أخيرا وليس آخرا ، لماذا لم نرى بعض الأسماء المعروفة واقفة بجانب الأستاذ رابح بلعيد يوم كان يتعرض للمحاكمات بتهمة النقد التاريخي الذي يمارسه كمجاهد و أكاديمي ؟ لماذا ترك الحقوقي صلاح الدين سيدهم يواجه بمفرده سنوات الجنون؟ و يمكن لأي أحد أن يضيف الكثير من الأسئلة المتعلقة بحضور المثقف و موقفه تجاه الاختلاسات ، الفساد الإداري ،تسريح العمال و تراجع المستوى المعيشي للفرد. ماذا على المثقفين لو جعلوا تلك الخلية التضامنية في خدمة و تعزيز مطالب الأساتذة المضربين؟
هناك أصوات داخل و خارج الوطن ،تعزي هذه الوضعية إلى آلة الموت الهمجية و الوضع الأمني السائد ، الذي لم يكن يسمح بالتحرك في هذا الخط الاحتجاجي أو ذاك.و لكن في المقابل كيف نفسر وقوف رجال محسوبون على الثقافة بجانب الاستبداد ، و الأدهى من ذلك هو قيامهم بتبرير العنف و قمع السلطة. إننا نترحم على جميع المثقفين الذين اغتيلوا و نعتبر فقدانهم خسارة للجزائر، و لكن هذا لا يبرر أبدا الموقف السلبي الذي مارسه البعض تجاه ما كان يحدث.
اعتقد أن عبارة جوليان بنداJulian Benda "خيانة المثقفين La trahison des clercs " (1927) هي احسن وصف لهذه الوضعية المزرية. إذ كيف نفسر مثلا انتقال المثقف السياسي نورالدين بوكروح من مثقف كان يمارس النقد اللاذع للسلطة ، يوم كان في المعارضة إلى مثقف بورجوازي انخرط بسرعة فائقة وارتمى في أحضان أجهزة بيروقراطية ، ليتمتع بريعها وأجواء الرفاهية التي توفرها له ، بعيدا عن انشغالات و هموم المجتمع أو "الغاشي" كما كان يسميه سابقا.
إن السلطة لا تستعين بآراء المثقف لتقويم سلوكها و تعديل سياساتها بل تعمل جاهدة على تدجين المثقفين و احتوائهم لكي تنـزع عنهم وظيفة النقد و السؤال .إن السيد بوكروح يمثل بامتياز أحد هؤلاء الذين تحولوا من مثقفين مهمتهم الإدانة إلى مثقفين يمارسون الخيانة و في احسن الأحوال يمارسون السلبية في حياتهم ، فاللاموقف هو ميزتهم الدائمة. فلا يمكن بأي حال اليوم أن يعتلي نور الدين بوكروح المنصة ليقدم لنا دروسا حول نضال و أفكار مالك بن نبي. أن المبرر الذي كان يحمله على فعل ذلك سابقا لم يعد له وجود في شخصية بوكروح اليوم .
أمام المثقفين مسؤولية تاريخية و أخلاقية ،لينهضوا بواجبهم دون استعلاء و دون احتقار لانفسهم. ذلك أن التحديات الراهنة و المقبلة تشكل امتحانا مصيريا لصمود الشعوب و إقلاعها الحضاري ،و لا يتأتى ذلك إلا بوجود نخبة قيادية نزيهة.
مشاركة منتدى
30 تموز (يوليو) 2007, 07:42
اشكركم جدا على هذا المقال الرائع الذي يحلل فيه دور المثقف في مجتمعنا ارجو المزيد من المقالات الاخرى